المقدّمة


الحمدُ لله ربّ العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، والصلاة والسّلام على خير مدعوٍّ ومجيب، ورسول وحبيب، علم التقى، وبدر الدجى، محمّد المصطفى (صلى الله عليه وآله)، وعلى عترته أُولي الحجى وذوي النهى، والعروة الوثقى، وسفينة النجاة، التي أمن مَن ركبها، وغرق مَن تركها، وعلى صحبهم والتابعين لهم بإحسان، الحافظين للوديعة، ومَن أحبّوا الشريعة، واللعنة الدائمة على مَن نازعهم ونصب لهم.

وبعد،

تعرّفنا في ما مضى على عدّة جوانب من حياة المحقّق الكركي: الشخصيّة، والسياسيّة، والعلميّة، وآرائه وفوائده.

ففي البحث عن حياته الشخصيّة تحدّثنا عن اسمه، ومولده وموطنه، وأُسرته، وأخلاقه وسجاياه، وآثاره ومآثره، وكراماته، ومراحل حياته المختلفة، ثمّ مدحه وإطرائه، وأخيراً وفاته ومدفنه.

وفي حياته السياسيّة تعرّضنا لعدّة مواضيع لها صلة بالكركي وعصره: كالتصوّف والصوفيّة، وموقف العلماء من الحكّام، ونشوء الدولة الصفويّة وكيفيّة تعامل العلماء معها، ثمّ تحدّثنا بشكل مفصّل عن علاقة الكركي بهذه الدولة ابتداءً من تأسيسها حتّى سنة 940 هـ، حيث عاصر الكركي حاكمين من حكّامها هما الشاه إسماعيل وابنه الشاه طهماسب.


الصفحة 2
وفي حياته العلميّة سلّطنا الضوء على بعض المجالات التي كان للكركي دور فعّال فيها، فتحدّثنا عن عصره ومعاصريه، وأساتذته وشيوخه، والروايات التي حصل عليها والتي منحها، ومؤلّفاته، والكتب التي قرأها والتي قُرئت عليه، ومكانته العلميّة، ونشاطه العلميّ، والمحاورات والردود العلميّة التي جرت بينه وبين بعض الأعلام.

ثمّ أفردنا بحثاً مستقلاًّ وكاملاً لآرائه ونظريّاته المودعة في مؤلّفاته، والتي لم يُفرد لها تصنيفاً مستقلاً، حيث أجرينا عمليّة استقصاء كامل لكافّة مؤلّفاته، واستخرجنا منها هذه الآراء والنظريّات، وهي آراؤه الكلاميّة، والأُصوليّة، والرجاليّة، وفوائده التأريخيّة، وملاحظاته عن بعض المؤلّفات، وشواهده الشعريّة، والجداول والرسوم التي استعملها.

وفي نهاية كلّ بحث أفردنا فصلاً خاصّاً بعنوان " الملاحظات "، سجّلنا فيه الملابسات التي حصلت في حياته، والاشتباهات التي وقع فيها بعض المؤلّفين عند ترجمتهم للكركي.

والآن تعال معي عزيزي القارئ لنطلّ على جانب آخر من جوانب عظمة هذا الرجل، حيث نتعرّف على بعض آرائه ونظرياته التي استطاع أن يصهرها في بودقة التأليف عبر كتبه المختلفة من حيث مواضيعها وحجمها وأسباب تأليفها.

إنّ الوقوف على مؤلّفات المحقّق الكركي، ودراستها بشكل مفصّل ودقيق، يكشف لنا ـ من جانب ـ المستوى العلمي الذي تمتّع به هذا العالم، ومن جانب آخر يُظهر لنا المنزلة الاجتماعيّة الكبيرة التي كان يحتلّها آنذاك، ليس في أوساط الناس عموماً، بل حتّى عند كبار رجال الدولة، وعلى رأسهم الشاه إسماعيل وابنه الشاه طهماسب، وقد تعرّضنا لهذه النقاط بشكل مفصّل

الصفحة 3
في ما مضى من الكتاب عند حديثنا عن حياته.

والملاحظ أنّ مؤلّفات الكركي تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأوّل:

الرسائل، والتي تتناول عادةً البحث عن موضوع معيّن، أو مسألة فقهيّة واحدة. وهذه الرسائل يختلف حجمها، فبعضها يقع في أربعين أو خمسين صفحة، والبعض الآخر يقع في عدّة صفحات.

الثاني:

الحواشي والشروح لبعض الكتب المعتمدة عندنا، كالشرائع والمختصر النافع للمحقّق الحلّي، والقواعد والإرشاد والمختلف للعلاّمة الحلّي، والألفيّة الشهيديّة.

الثالث:

جواب الأسئلة والاستفتاءات التي كانت ترد عليه من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وبمستويات مختلفة في التعبير، وقد قام بعض تلامذته وبعض العلماء القريبين من عصره بجمعها وترتيبها.

وقد استطعتُ بحمد الله تعالى وتوفيقه طيلة سنوات عديدة، أن أجمع وأُحقّق من مؤلّفات هذا العالم الجليل أربعة وخمسين مؤلّفاً، معتمداً على مائة وعشرين نسخة خطيّة موجودة في عدّة مكتبات في الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة: قم المقدّسة، مشهد المقدّسة، طهران، همدان، يزد، خوانسار، أصفهان. وقد عانيت الكثير من المصاعب في جمع هذه النسخ الخطيّة، فإنّ الحصول على نسخة خطيّة واحدة من أقرب المكتبات إلينا في مدينة قم المقدّسة لا يخلو من مصاعب جمّة، فكيف بهذا الكمّ الهائل من النسخ الخطيّة.


الصفحة 4

منهجيّة التحقيق


اعتمدت في تحقيقي لهذه المجموعة من رسائل الكركي وحواشيه على طريقة واحدة، أُلخّصها بعدّة نقاط:

(1) اتّبعت طريقة التلفيق بين النسخ الخطيّة، وذلك لعدم عثوري على نُسخ الأصل التي كتبها الكركي بيده. نعم، بعض الرسائل عثرتُ لها على نُسخ مقروءة على الكركي، إلاّ أنّي لم أكتف بها وأضفتُ لها نُسخاً أُخرى.

(2) عند حصولي على عدّة نسخ خطيّة لإحدى هذه المؤلّفات، أقوم بمقابلة بعضها مع البعض الآخر، وإثبات الصحيح أو الأصح في المتن وما قابلهما في الهامش.

وعند عدم حصولي إلاّ على نسخة واحدة، فإنّي أجعلها الأصل في عملي، وأُشير في الهامش إلى ملاحظاتنا واستظهاراتنا عليها.

(3) استخراج كلّ ما يحتاج إلى تخريج من آيات قرآنيّة كريمة، وأحاديث شريفة، وأقوال العلماء في شتى العلوم، وشواهد شعريّة، وأماكن وبقاع. وحاولت قدر المستطاع أن أعتمد على المصادر الرئيسيّة في كافة الاستخراجات، إلاّ تلك المصادر المفقودة أساساً أو التي لم أُوفّق للحصول عليها، فقد استعنتُ في الحصول على أقوالها بواسطة مصادر أُخرى ميسّرة.

(4) لم أُترجم كافة الأعلام الّذين وردت أسماؤهم، بل ترجمتُ لبعضهم حسب الضرورة التي رأيتها.

(5) عند شروعي في تحقيق الحواشي والشروح وضعتُ متن الكتاب المشروح في أعلى كلّ صفحة، ويتلوه الشرح أو الحاشية التي كتبها الكركي.


الصفحة 5
ثمّ قمتُ بحذف المتن واكتفيت بالإشارة إليه ; رعاية للاختصار، وتلبيةً لاقتراح بعض الإخوة الأفاضل من المحقّقين.

(6) رتّبتُ الرسائل حسب مواضعيها، فوضعتُ أوّلاً الرسالة النجميّة التي جمع فيها الكركي بين علمي الكلام والفقه وأدرج فيها أيسر ما يجب على المكلّفين معرفته في الأُصول والفروع، ثمّ رسالة استنباط الأحكام التي تعبّر عن المنهج العلمي للكركي، ثمّ الرسائل الفقهيّة مرتّبة بترتيب كتب الفقه ابتداءً من الطهارة وانتهاءً بالقضاء، ثمّ الرسائل المتفرّقة وجوابات المسائل الفقهيّة التي وردت عليه.

(7) نظّمتُ فهارس فنيّة كاملة، تعميماً للفائدة واتّباعاً للمنهج الحديث في التحقيق.


وآخر دعوانا أن الحمدُ لله ربّ العالمين

محمّد الحسّون


الصفحة 6

الصفحة 7


النجميّة





الصفحة 8

الصفحة 9

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين

الحمدُ لله ربّ العالمين، وأفضل الصلوات الزاكيات على سيّدنا ومولانا ونبيّنا محمّد، وآله الطيّبين الطاهرين، الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا.

وبعد،

هذه الرسالة النجميّة التي ألّفها المحقّق الكركي، جامعاً فيها بين علمي الكلام والفقه. وهي رسالة صغيرة في حجمها كبيرة في محتواها، أودع فيها مصنّفها أيسر ما يجب على المكلّفين معرفته في الاُصول والفروع.

فشرع أوّلاً ببيان الاُصول الخمسة التي يحصل بها أدنى مراتب الإيمان، ثمّ بدأ ببيان أفعال الصلاة بشكل مختصر، فذكرَ، مقدّماتها السبع، وأفعالها الثمان، وما يبطلها ويحرم فعله فيها، وأحكام الشكّ والسهو، ثمّ ذكرَ باقي الصلوات الواجبة.

وقد شرحها تلميذه السيّد حسين بن علي بن حسين بن أبي سروال " پيروال " الأوالي الهجري سنة 947 هـ.

ولمعرفة المزيد عن هذه الرسالة انظر ما كتبناه عنها عند حديثنا عن مؤلّفاته.

وقد اعتمدتُ في تحقيقها على النسخة الخطيّة المحفوظة في مكتبة

الصفحة 10
الإمام الرضا (عليه السلام) في مدينة مشهد المقدّسة، ضمن المجموعة المرقّمة 888، والتي أصبح رقمها في الفهرس الجديد لمخطوطات هذه المكتبة (فهرست ألفبائى ص 578) 2746. كتبها الحاجي ابن علي بن عبيد بن فهد في سنة 950 هـ، وتقع هذه النسخة في سبع أوراق، بحجم 20 × 14 سم، وكلّ ورقة تحتوي على سبعة عشر سطراً.


والحمد لله ربّ العالمين


الصفحة 11


الصفحة الاُولى من النسخة المحفوظة في مكتبة الإمام الرضا(عليه السلام)

الصفحة 12

الصفحة الأخيرة من النسخة المحفوظة في مكتبة الإمام الرضا(عليه السلام)

الصفحة 13
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين في التتميم

الحمدُ لله، والصلاة على رسوله محمّد وآله الأطهار.

يجب على كلّ مكلّف حُرّ وعبد، ذكر وانثى، أن يعرف الاُصول الخمسة التي هي أركان الإيمان، وهي: التوحيد، والعدل، والنبوّة، والإمامة، والمعاد. بالدليل لا بالتقليد، ومَن جهل شيئاً من ذلك لم ينتظم في سلك المؤمنين، واستحق العقاب الدائم مع الكافرين.

فصل

فالتوحيد:

هو العلم بوجود واجب الوجود لذاته ; لأنّه أوجدَ جميع الممكنات بعد أن لم تكن موجودة.

وبأنّه قادر مختار ; لأنّ الممكنات محدثة، لملازمتها الحوادث كالحركة والسكون.

وبأنّه عالم ; لأنّه فعلَ الأفعال المحكمة المتقنة.

وبأنّه حيّ ; لأنّه قادر عالم.

وبأنّه مُريد للطاعات وكاره للمعاصي ; لأنّه آمر وناه، وهما يستلزمان الارادة والكراهة.

وبأنّه متكلّم، بمعنى أنّه خلقَ الكلام من جسم جامد ; لأنّ ذلك

الصفحة 14
ممكن، وهو سبحانه قادر على الممكنات، ولقوله تعالى: {وكلّم الله موسى تكليما}(1).

وبأنّه صادق في خبره ; لأنّ الكذب قبيح.

وبأنّه سبحانه ليس بجسم ولا عرض ولا جوهر ولا مركّب ; لأنّ ذلك من صفات الحادثات.

وبأنّه لا يرى بحاسة البصر، وإلاّ لكان جسماً، ولقوله تعالى: {لا تدركه الأبصار}(2).

وبأنّه واحد لا شريك له ; لقوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا}(3)، وليس في جهة ولا محلاًّ للحوادث، وإلاّ لكان ممكناً.

فصل

والعدل:

هو العلم بكونه لا يفعل القبيح، ولا يرضى به، ولا يأمر بالقبائح ولا يخلّ بواجب تقتضيه حكمته، ولا يكلّف بما ليس بمقدور ; لأنّ فاعل القبيح: إمّا جاهل بقبحه، أو محتاج إليه. والله سبحانهُ مُنزّه عن الجهل والحاجة.

وبأنّ الطاعات والمعاصي الصادرة عن العباد باختيارهم، ولهذا استحقّ المطيعُ الثوابَ والعاصيُ العقابَ.

____________

1- النساء: 164.

2- الأنعام: 103.

3- الأنبياء: 22.


الصفحة 15

فصل

والنبوّة:

عبارة عن العلم بأنّ الله سبحانه بعث محمّداً (صلى الله عليه وآله) نبيّاً ورسولاً إلى جميع الخلق، بشيراً للمؤمنين، ونذيراً للكافرين.

وأظهر على يده المعجزات الدالة على صدقة كالقرآن العزيز، وانشقاق القمر(1)، ونبوع الماء من بين الأصابع(2)، وغير ذلك ممّا

____________

1- أخرج الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في دلائل النبوّة 1: 368 عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى (اقتربت الساعةُ وانشق القمر) [القمر: 1] أنّه قال: اجتمع المشركون إلى رسول الله ((صلى الله عليه وآله)) منهم الوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، والعاص بن وائل، والعاص بن هشام، والأسود بن يغوث، والأسود بن المطّلب بن أسد بن عبد العزى، وزمعة بن الأسود، والنضر بن الحارث، ونظراؤهم كثير. فقالوا للنبي ((صلى الله عليه وآله)): ان كنت صادقاً فشقّ القمر لنا فرقتين: نصفاً على أبي قبيس، ونصفاً على قعيقعان.

فقال لهم رسول الله ((صلى الله عليه وآله)): " إنْ فعلتُ تؤمنوا "؟

قالوا: نعم.

وكانت ليلة بدر، فسأل رسول الله ((صلى الله عليه وآله)) عزّ وجل أن يعطيه ماسألوا، فأمسى القمر قد مَثُلَ نصفاً على ابي قبيس ونصفاً على قعيقعان. ورسول الله ((صلى الله عليه وآله)) ينادي: " يا أبا سلمة بن عبد الأسد والأرقم بن أبي الأرقم اشهدوا ".

وأخرجه أيضاً عن ابن مسعود وعبدالله بن عمر. انظر دلائل النبوّة 1: 367 ـ 370.

2- أخرجه الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في دلائل النبوة 2: 520 ـ 531 بألفاظ مختلفة وفي وقائع مختلفة عن جمع من الصحابة منهم: عبدالله بن مسعود، وجابر ابن عبدالله الأنصاري، وأبو قتادة، وأنس بن مالك، والبرّاء بن عازب، وناجية بن جندب، وعمران بن حصين، وزياد بن الحارث الصُّدائي.

فمّما أخرجه عن جابر أنه قال: لمّا كان يوم الحديبيّة، اُتي النبيّ ((صلى الله عليه وآله)) بِرَكْوَة من ماء، فجهش الناس نحوه، فقلت: ما مع الناس ماء إلاّ ما بين يديك.

قال: فوضع النبيّ ((صلى الله عليه وآله)) يده في الركوة، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأنّها العيون، فأصاب الناس من الماء حاجتهم.

قال: قلت له: كم كنتم؟

قال: لو كنّا مائة ألف لكفانا، كنّا خمس عشرة مائة.


الصفحة 16
لا يُحصى(1).

وبأنّه معصوم من أوّل عمره إلى آخره عن الصغائر والكبائر، وإلاّ لم يوثق بخبره.

وبأنّه خاتم الأنبياء كما ورد في القرآن(2)، وأنّ شريعته ناسخة لجميع الشرائع.

فصل

والإمامة:

عبارة عن العلم بأنّ الله تعالى أمرَ رسوله أن يستخلف من بعده مَن يكون حافظاً لدينه، ومُنفّذاً لأحكامه، معصوماً من كلّ ذنب. وأمره بأن ينصّ على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في يوم غدير خمّ وغيره، وكذا أولاده الأئمة الأحد عشر صلوات الله عليهم أجمعين.

وفي أدلّة العقل والنقل من الكتاب والسنّة ما يدلّ على أنّ أمير المؤمنين هو الإمام دون غيره من الأرجاس ما يزيد على ألف

____________

1- انظر دلائل النبوّة للحافظ أبي نعيم الأصفهاني، ودلائل النبوّة للبيهقي، وغيرها من المصادر التي تتحدّث عن سيرة الرسول ((صلى الله عليه وآله)) ودلائل نبوّته.

2- كقوله تعالى في سورة الأحزاب (ما كَانَ مُحمّدٌ أَبا أَحَد مِنْ رِجالِكُمْ وَلَكِن رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيينَ وَكان اللهُ بِكُلِّ شَيء عَلِيماً) الأحزاب: 40.


الصفحة 17
دليل(1): مثل آية الصدقة بالخاتم(2) الناطقة بأنّه إمام، وآية المباهلة(3)

____________

1- انظر كتاب الألفين للعلاّمة الحلّي.

2- وهي قوله تعالى: (الذيَن يُقيمونَ الصَلاةَ وَيُؤتُونَ الزكوة وَهمْ راكِعون)المائدة: 55.

وقد تواترت أخبار الفريقين بنزولها في أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، فأخرج الفخر الرازي في تفسيره عن أبي ذر الغفاري رضوان الله تعالى عليه قوله: صلّيت مع رسول الله ((صلى الله عليه وآله)) يوماً صلاة الظهر، فسأل سائل في المسجد، فلم يُعطه أحد، فرفع السائل يده إلى السماء فقال: اللهم اشهد انّي سألتُ في مسجد الرسول ((صلى الله عليه وآله)) وما أعطاني أحد شيئاً، وعلي ـ (عليه السلام) ـ راكعاً فأومأ إليه بخنصره اليمنى وكان فيها خاتم، فأقبل السائل حتّى أخذ الخاتم.

فرأى النبيّ ((صلى الله عليه وآله)) ذلك فقال: " اللهم إنّ أخي موسى سألك فقال: (ربّ اشرح لي صدري ويسّر لي أمري) إلى قوله: (وأشركه في أمري)، فأنزلت قرآنا (سنشدُ عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً) اللهم وأنا محمّد نبيّك وصفيّك، فاشرح لي صدري ويسّر لي أمري، واجعل لي وزيراً من أهلي عليّاً أشدد به أزري ".

قال أبو ذر: فوالله ما أتم رسول الله ((صلى الله عليه وآله)) هذه الكلمة حتّى نزل جبرئيل (عليه السلام)فقال: يا محمّد اقرأ: (إنّما وليكم الله ورسوله...).

التفسير الكبير 12: 26، وانظر ما أخرجه فيها البغوي في معالم التنزيل 2: 272، والزمخشري في الكشّاف 1: 623، والبيضاوي في أنوار التنزيل 1: 280، والسيوطي في الدر المنثور 3: 105 ـ 106.

3- وهي قوله تعالى: (فَمَنْ حَاجَّكَ فيه مِنْ بَعْد ما جاءَك من العِلْم فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أبناءَنا وأبناءَكم ونساءَنا ونساءَكم وأَنفسنا وانفسكم ثمَّ نَبتَهلْ فَنَجعَلْ لعنةُ الله على الكاذبين) آل عمران: 61.

وتواترت أيضاً أخبار الخاصة والعامّة من أنّ النبيّ ((صلى الله عليه وآله)) أخرج معه للمباهلة علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)، قال ابن الأثير في الكامل: وأمّا نصارى نجران فإنّهم أرسلوا العاقب والسيّد في نفر منهم إلى رسول الله ((صلى الله عليه وآله)) وأرادوا مباهلته، فخرج رسول الله ((صلى الله عليه وآله)) ومعه علي وفاطمة والحسن والحسين ـ (عليهم السلام) ـ فلمّا رأوهم قالوا: هذه وجوه لو أقسمت على الله أن يزيل الجبال لأزالها، ولم يباهلوه.

الكامل في التأريخ 2: 293. وانظر صحيح مسلم 4: 1871 حديث 2404، سنن الترمذي 5: 225 حديث 2999، الكشّاف 1: 434، أنوار التنزيل 1: 161، مصابيح السنّة 4: 183 حديث 4795، معالم التنزيل 1: 480، التفسير الكبير 8: 81، تفسير القرطبي 4: 104، تفسير الآلوسي 3: 188 ـ 189، تفسير النسفي 1: 221، تفسير أبي السعود 2: 46، تفسير فتح القدير 1: 347 ـ 348، جامع الاُصول 9: 470 حديث 6479، الصواعق المحرقة: 148.


الصفحة 18
المتضمّنة أنّه نفس الرسول، وآية الطهارة(1) الدالة على عصمته، إلى نحو من سبعين آية(2).

____________

1- وهي قوله تعالى: (إنّما يُريدُ الله لِيُذهِبَ عَنْكم الرِّجس أهلَ البَيْت ويطهركُمْ تَطْهِيرا) الأحزاب: 33.

وتواترت أخبار الخاصّة والعامّة أيضاً أنّ رسول الله ((صلى الله عليه وآله)) أدخل تحت الكساء علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) ثمّ نزلت هذه الآية المباركة.

روى مسلم بطريقه عن عائشة أنّها قالت: خرج النبي ((صلى الله عليه وآله)) ذات غداة وعليه مِرْطٌ مُرَحَّلٌ من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثمّ جاء الحسين فدخل معه، ثمّ جاءت فاطمة فأدخلها، ثمّ جاء علي فأدخله ثمّ قال: (إنّما يُريدُ الله...).

صحيح مسلم 4: 1883 حديث 2424. وانظر سنن الترمذي 5: 351 حديث 3205 و663 حديث 3778 و 669 حديث 3871، مصابيح السنّة 4: 183 حديث 4796، معالم التنزيل 4: 464، جامع الاُصول 9: 155، الصواعق المحرقة: 163، الاستيعاب (المطبوع مع الاصابة) 3: 37.

2- روى الحاكم الحسكاني في (شواهد التنزيل لقواعد التفضيل) بطريقه عن مجاهد أنّه قال: لقد نزلت في علي ـ (عليه السلام) ـ سبعون آية ما شركه فيها أحد.

وبطريقه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنّه قال: لقد نزلت في علي ـ (عليه السلام) ـ ثمانون آية صفواً في كتاب الله ما شركه فيها أحد.

وبطريقه عن ابن عباس أنّه قال: نزلت في علي بن أبي طالب ـ (عليه السلام) ـ ثلاثمائة آية. وأخرجه كذلك ابن حجر في الصواعق.

انظر شواهد التنزيل: 40 ـ 45، الصواعق المحرقة: 127، تهذيب التهذيب 2: 197، تأريخ بغداد 6: 221، حلية الأولياء 1: 68.


الصفحة 19
ومن السنّة مثل:الغدير(1)، وحديث الطائر المشوي(2)، وحديث الإخاء(3)،

____________

1- وهو أشهر من الشمس وأوضح من النهار، قال ابن عبد البرّ في الاستيعاب: وروى بريدة وأبو هريرة وجابر والبرّاء بن عازب وزيد بن أرقم، كلّ واحد منهم عن النبيّ ((صلى الله عليه وآله)) أنّه قال يوم غدير خمّ: " مَن كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه "، وبعضهم لا يزيد على " مَن كنت مولاه فعلي مولاه ".

الاستيعاب (المطبوع بهامش الإصابة) 3: 36. وانظر حديث الغدير في تأريخ اليعقوبي 2: 111 ـ 112، السيرة الحلبية 3: 336، تأريخ بغداد 8: 290، ذخائر العقبى: 67، مسند أحمد 4: 368، سنن الترمذي 5: 632، مصابيح السنّة 4: 172، الكشف والتبيان: 213، ربيع الأبرار 1: 84، الكشّاف 2: 425، الصواعق المحرقة: 122، جامع الاُصول 8: 649، النهاية لابن الأثير 5: 228 " ولا "، الدر المنثور للسيوطي 3: 117، خلاصة الوفا: 229.

2- وهو الحديث الذيّ يدلّ على أنّ الإمام علي (عليه السلام) أحبّ الخلق إلى الله، وهو متواتر أيضاً، رواه الصحابة عن أنس بن مالك حيث قال ـ ما خلاصته ـ: كان عند النبيّ ((صلى الله عليه وآله)) طير اُهدي إليه، فقال: " اللهم ائتني بأحبّ الخلق إليك ليأكل معي هذا الطير ".

فجاء علي فرددته، ثمّ جاء فرددته، فدخل في الثالثة أو الرابعة، فقال النبيّ ((صلى الله عليه وآله)): " ما حبسك عنّي "؟ فقال: " والذي بعثك بالحقّ نبيّاً لأضرب الباب ثلاث مرّات ويردّني أنس "، فقال رسول الله ((صلى الله عليه وآله)): " لمَ رددته "؟ قلت: كنتُ أحبّ معه رجلاً مـن الأنصار، فتبسّم النبيّ.

انظر سنن الترمذي 5: 636 حديث 3721، الخصائص الكبرى للنسائي: 5، فضائل الصحابة لابن حنبل 2: 560 / 945، المستدرك على الصحيحين 3: 130 ـ 132، مصابيح السنّة 4: 173 حديث 4770، البداية والنهاية 7: 363، جامع الاُصول 9: 471، ذخائر العقبى: 61.

3- وهو من الأحاديث المتواترة أيضاً، قال ابن عمر لّما آخى رسول الله ((صلى الله عليه وآله)) بين أصحابه، جاءه علي تدمع عيناه فقال له: " يا رسول الله آخيت بين أصحابك ولم تؤاخِ بيني وبين أحد "، قال: فسمعتُ رسول الله ((صلى الله عليه وآله)) يقول له: " أنت أخي في الدنيا والآخرة ".

انظر: سنن الترمذي 5: 636، مصابيح السنّة 4: 173، تأريخ الطبري 2: 310، الكامل في التأريخ 3: 400، جامع الاُصول 8: 649، الاستيعاب (المطبوع بهامش الإصابة) 3: 38، الصواعق المحرقة: 176.


الصفحة 20
والمنزلة(1)، والنعل(2)، وغير ذلك ممّا لا يُحصى.

وبأنّه أقدم إسلاماً، وأشجع، وأزهد، وأعظم جهاداً وغناء في الدين.

ولإخباره بالمغيّبات، وإظهار المُعجزات مثل قلع باب

____________

1- وهذا حديث متواتر أيضاً لا يُناقش فيه أحد، روى البخاري بسنده عن سعد بن أبي وقّاص أنّه قال: إنّ رسول الله ((صلى الله عليه وآله)) خرج إلى تبوك واستخلف عليّاً، فقال: " أتخلّفني مع الصبيان والنساء "؟ قال: " أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي ".

صحيح البخاري 4: 24 و5: 3. وانظر: صحيح مسلم 4: 1870 حديث 2404، سنن الترمذي 5: 640 حديث 3730، مسند أحمد 1: 173 و175 و182، مستدرك الصحيحين 2: 337، جامع الاُصول 9: 468 حديث 6477، مصابيح السنّة 4: 170 حديث 4762، الاستيعاب (المطبوع بهامش الإصابة) 3: 41، الصواعق المحرقة: 121.

2- روى ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة 6: 127 بسنده عن أبي سعيد الخدري أنّه قال: كُنّا مع رسول الله ((صلى الله عليه وآله)) فانقطع شسع نعله، فألقاها إلى علي ـ (عليه السلام)ـ يصلحها، ثمّ قال: " إنّ منكم مَن يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلتُ على تنزيله ".

فقال أبو بكر: أنا هو يا رسول الله؟ قال: " لا ".

فقال عمر بن الخطّاب: أنا هو يا رسول الله؟ قال: " لا، ولكنه ذلك خاصف النعل "، ويدّ علي على نعل النبيّ ((صلى الله عليه وآله)) يصلحها.

قال أبو سعيد: فأتيت عليّاً فبشّرته بذلك، فلم يحفل به، كأنّ شيء قد كان علمه من قبل.

وقال ابن الأثير في النهاية 2: 38 " خصف ": ومنه الحديث في ذكر خاصف النعل.


الصفحة 21
خيبر(1)، ودحو الصخرة عن فم القليب(2)، وردّ الشمس بعد

____________

1- حديث خيبر ـ والذي يُعبّر عنه أيضاً بحديث الراية ـ متواتر، روته الخاصّة والعامّة. قال ابـن عبـد البرّ في الاستيعاب: وروى سعد بن أبي وقّاص وأبو هريرة وسهل بن سعد وبريدة الأسلمي وأبو سعيد الخدري وعبد الله بن عمر وعمران بن حصين وسلمة بن الأكوع. كلّهم بمعنى واحد عن النبيّ ((صلى الله عليه وآله)) أنّه قال يوم خيبر: " لاُعطينَّ الراية غداً رجلاً يحُب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، ليس بفرّار، يفتح الله على يديه "، ثمّ دعا بعليّ وهو أرمد فتفل في عينيه وأعطاه الراية، ففتح الله عليه، وهي كلّها ثابتة.

وقال ابن الأثير في الكامل: قال بريدة الأسلمي: كان رسول الله ((صلى الله عليه وآله)) ربما أخذته الشقيقة فلبث اليوم أو اليومين لا يخرج، ولما نزل خيبر أخذته، فلم يخرج إلى الناس، وأخذ أبو بكر الراية ثمّ نهض فقاتل قتالاً شديداً ثمّ رجع، فأخذها عمر فقاتل قتالاً شديداً أشد من القتال الأوّل ثمّ رجع. فاُخبر بذلك رسول الله ((صلى الله عليه وآله)) فقال: " أما والله لاُعطينها غداً رجلاً يُحبّ الله ورسوله ويُحبّه الله ورسوله، يأخذها عنوة " وليس ثمّ عليّ قد تخلّف بالمدينة لرمد لحقه.

فلمّا قال رسول الله ((صلى الله عليه وآله)) مقالته هذه تطاولت لها قريش، فجاء علي ـ (عليه السلام) ـ على بعير له، أناخ قريباً من خباء رسول الله ((صلى الله عليه وآله)) وهو أرمد قد عصب عينيه، فقال له رسول الله ((صلى الله عليه وآله)): " مالك "؟ قال: " رمدتُ بعدك "، فقال له: " إدن مني "، فدنا منه فتفل في عينيه، فما شكا وجعاً حتّى مضى لسبيله.

ثمّ أعطاه الراية فنهض بها وعليه حلّة حمراء. وبيّن ابن الأثير كيفيّة فتح خيبر، ثمّ قال:

قال أبو رافع مولى رسول الله ((صلى الله عليه وآله)): خرجنا مع علي ـ (عليه السلام) ـ حين بعثه الرسول ((صلى الله عليه وآله)) إلى خيبر، فلمّا دنا من باب الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم، فضربه رجل من اليهود فطرح ترسه من يده، فتناول علي ـ (عليه السلام) ـ باباً كان عند الحصن فتترس به عن نفسه، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتّى فتح الله عليه، ثمّ ألقاه من يده، فلقد رأيتني في نفر سبعة أنّا ثامنهم نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما نقلبه.

الاستيعاب (المطبوع بهامش الإصابة) 3: 43، الكامل في التأريخ 2: 219.

وانظر: صحيح البخاري 4: 73، صحيح مسلم 3: 1440 و4: 1871، جامع الاُصول 8: 654، مصابيح السنّة 4: 171، النهاية في غريب الحديث والأثر 2: 140" ودك " الصواعق المحرقة: 121.

2- أخرج ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة 3: 204 بسنده عن أبي سعيد التميمي أنّه قال: كُنّا مع علي ـ (عليه السلام) ـ في مسيره إلى الشام حتّى إذا كُنّا بظهر الكوفة من جانب هذا السّواد عطش الناس واحتاجوا إلى الماء، فانطلق بنا علي ـ (عليه السلام)ـ حتّى أتى إلى صخرة في الأرض كأنّها ربضة عنز، فأمرنا فاقتلعناها، فخرج لنا تحتها ماء، فشرب الناس منه وارتووا، ثمّ أمرنا فأكفأناها عليه، وسار الناس حتّى إذا مضى قليلاً قال (عليه السلام): " أمنكم أحد يعلم مكان هذا الماء الذي شربتم منه "؟.

قالوا: نعم يا أمير المؤمنين.

قال: " فانطلقوا إليه "، فانطلق منّا رجال ركباناً ومشاة فاقتصصنا الطريق إليه حتّى انتهينا إلى المكان الذي نرى أنّه فيه، فطلبناه فلم نقدر على شيء، حتّى إذا عيلَ علينا انطلقنا إلى دير قريب منّا فسألناهم: أين هذا الماء الذي عندكم؟

قالوا: ليس قربنا ماء:

فقلنا: بلى إنّا شربنا منه.

قالوا: أنتم شربتم منه؟!

قلنا: نعم:

فقال صاحب الدير: والله ما بُني هذا الدير إلاّ بذلك الماء، وما استخرجه إلاّ نبيّ أو وصي نبي.