المقدّمة


الحمدُ لله ربّ العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، والصلاة والسّلام على خير مدعوٍّ ومجيب، ورسول وحبيب، علم التقى، وبدر الدجى، محمّد المصطفى (صلى الله عليه وآله)، وعلى عترته أُولي الحجى وذوي النهى، والعروة الوثقى، وسفينة النجاة، التي أمن مَن ركبها، وغرق مَن تركها، وعلى صحبهم والتابعين لهم بإحسان، الحافظين للوديعة، ومَن أحبّوا الشريعة، واللعنة الدائمة على مَن نازعهم ونصب لهم.

وبعد،

تعرّفنا في ما مضى على عدّة جوانب من حياة المحقّق الكركي: الشخصيّة، والسياسيّة، والعلميّة، وآرائه وفوائده.

ففي البحث عن حياته الشخصيّة تحدّثنا عن اسمه، ومولده وموطنه، وأُسرته، وأخلاقه وسجاياه، وآثاره ومآثره، وكراماته، ومراحل حياته المختلفة، ثمّ مدحه وإطرائه، وأخيراً وفاته ومدفنه.

وفي حياته السياسيّة تعرّضنا لعدّة مواضيع لها صلة بالكركي وعصره: كالتصوّف والصوفيّة، وموقف العلماء من الحكّام، ونشوء الدولة الصفويّة وكيفيّة تعامل العلماء معها، ثمّ تحدّثنا بشكل مفصّل عن علاقة الكركي بهذه الدولة ابتداءً من تأسيسها حتّى سنة 940 هـ، حيث عاصر الكركي حاكمين من حكّامها هما الشاه إسماعيل وابنه الشاه طهماسب.


الصفحة 2
وفي حياته العلميّة سلّطنا الضوء على بعض المجالات التي كان للكركي دور فعّال فيها، فتحدّثنا عن عصره ومعاصريه، وأساتذته وشيوخه، والروايات التي حصل عليها والتي منحها، ومؤلّفاته، والكتب التي قرأها والتي قُرئت عليه، ومكانته العلميّة، ونشاطه العلميّ، والمحاورات والردود العلميّة التي جرت بينه وبين بعض الأعلام.

ثمّ أفردنا بحثاً مستقلاًّ وكاملاً لآرائه ونظريّاته المودعة في مؤلّفاته، والتي لم يُفرد لها تصنيفاً مستقلاً، حيث أجرينا عمليّة استقصاء كامل لكافّة مؤلّفاته، واستخرجنا منها هذه الآراء والنظريّات، وهي آراؤه الكلاميّة، والأُصوليّة، والرجاليّة، وفوائده التأريخيّة، وملاحظاته عن بعض المؤلّفات، وشواهده الشعريّة، والجداول والرسوم التي استعملها.

وفي نهاية كلّ بحث أفردنا فصلاً خاصّاً بعنوان " الملاحظات "، سجّلنا فيه الملابسات التي حصلت في حياته، والاشتباهات التي وقع فيها بعض المؤلّفين عند ترجمتهم للكركي.

والآن تعال معي عزيزي القارئ لنطلّ على جانب آخر من جوانب عظمة هذا الرجل، حيث نتعرّف على بعض آرائه ونظرياته التي استطاع أن يصهرها في بودقة التأليف عبر كتبه المختلفة من حيث مواضيعها وحجمها وأسباب تأليفها.

إنّ الوقوف على مؤلّفات المحقّق الكركي، ودراستها بشكل مفصّل ودقيق، يكشف لنا ـ من جانب ـ المستوى العلمي الذي تمتّع به هذا العالم، ومن جانب آخر يُظهر لنا المنزلة الاجتماعيّة الكبيرة التي كان يحتلّها آنذاك، ليس في أوساط الناس عموماً، بل حتّى عند كبار رجال الدولة، وعلى رأسهم الشاه إسماعيل وابنه الشاه طهماسب، وقد تعرّضنا لهذه النقاط بشكل مفصّل

الصفحة 3
في ما مضى من الكتاب عند حديثنا عن حياته.

والملاحظ أنّ مؤلّفات الكركي تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأوّل:

الرسائل، والتي تتناول عادةً البحث عن موضوع معيّن، أو مسألة فقهيّة واحدة. وهذه الرسائل يختلف حجمها، فبعضها يقع في أربعين أو خمسين صفحة، والبعض الآخر يقع في عدّة صفحات.

الثاني:

الحواشي والشروح لبعض الكتب المعتمدة عندنا، كالشرائع والمختصر النافع للمحقّق الحلّي، والقواعد والإرشاد والمختلف للعلاّمة الحلّي، والألفيّة الشهيديّة.

الثالث:

جواب الأسئلة والاستفتاءات التي كانت ترد عليه من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وبمستويات مختلفة في التعبير، وقد قام بعض تلامذته وبعض العلماء القريبين من عصره بجمعها وترتيبها.

وقد استطعتُ بحمد الله تعالى وتوفيقه طيلة سنوات عديدة، أن أجمع وأُحقّق من مؤلّفات هذا العالم الجليل أربعة وخمسين مؤلّفاً، معتمداً على مائة وعشرين نسخة خطيّة موجودة في عدّة مكتبات في الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة: قم المقدّسة، مشهد المقدّسة، طهران، همدان، يزد، خوانسار، أصفهان. وقد عانيت الكثير من المصاعب في جمع هذه النسخ الخطيّة، فإنّ الحصول على نسخة خطيّة واحدة من أقرب المكتبات إلينا في مدينة قم المقدّسة لا يخلو من مصاعب جمّة، فكيف بهذا الكمّ الهائل من النسخ الخطيّة.


الصفحة 4

منهجيّة التحقيق


اعتمدت في تحقيقي لهذه المجموعة من رسائل الكركي وحواشيه على طريقة واحدة، أُلخّصها بعدّة نقاط:

(1) اتّبعت طريقة التلفيق بين النسخ الخطيّة، وذلك لعدم عثوري على نُسخ الأصل التي كتبها الكركي بيده. نعم، بعض الرسائل عثرتُ لها على نُسخ مقروءة على الكركي، إلاّ أنّي لم أكتف بها وأضفتُ لها نُسخاً أُخرى.

(2) عند حصولي على عدّة نسخ خطيّة لإحدى هذه المؤلّفات، أقوم بمقابلة بعضها مع البعض الآخر، وإثبات الصحيح أو الأصح في المتن وما قابلهما في الهامش.

وعند عدم حصولي إلاّ على نسخة واحدة، فإنّي أجعلها الأصل في عملي، وأُشير في الهامش إلى ملاحظاتنا واستظهاراتنا عليها.

(3) استخراج كلّ ما يحتاج إلى تخريج من آيات قرآنيّة كريمة، وأحاديث شريفة، وأقوال العلماء في شتى العلوم، وشواهد شعريّة، وأماكن وبقاع. وحاولت قدر المستطاع أن أعتمد على المصادر الرئيسيّة في كافة الاستخراجات، إلاّ تلك المصادر المفقودة أساساً أو التي لم أُوفّق للحصول عليها، فقد استعنتُ في الحصول على أقوالها بواسطة مصادر أُخرى ميسّرة.

(4) لم أُترجم كافة الأعلام الّذين وردت أسماؤهم، بل ترجمتُ لبعضهم حسب الضرورة التي رأيتها.

(5) عند شروعي في تحقيق الحواشي والشروح وضعتُ متن الكتاب المشروح في أعلى كلّ صفحة، ويتلوه الشرح أو الحاشية التي كتبها الكركي.


الصفحة 5
ثمّ قمتُ بحذف المتن واكتفيت بالإشارة إليه ; رعاية للاختصار، وتلبيةً لاقتراح بعض الإخوة الأفاضل من المحقّقين.

(6) رتّبتُ الرسائل حسب مواضعيها، فوضعتُ أوّلاً الرسالة النجميّة التي جمع فيها الكركي بين علمي الكلام والفقه وأدرج فيها أيسر ما يجب على المكلّفين معرفته في الأُصول والفروع، ثمّ رسالة استنباط الأحكام التي تعبّر عن المنهج العلمي للكركي، ثمّ الرسائل الفقهيّة مرتّبة بترتيب كتب الفقه ابتداءً من الطهارة وانتهاءً بالقضاء، ثمّ الرسائل المتفرّقة وجوابات المسائل الفقهيّة التي وردت عليه.

(7) نظّمتُ فهارس فنيّة كاملة، تعميماً للفائدة واتّباعاً للمنهج الحديث في التحقيق.


وآخر دعوانا أن الحمدُ لله ربّ العالمين

محمّد الحسّون


الصفحة 6


طريق
استنباط الأحكام





الصفحة 7

الصفحة 8

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين

الحمدُ لله وكفى، والصلاة والسّلام على رسوله المصطفى، وعلى آله الأئمّة الشرفاء.

وبعد،

بين يديك عزيزي القارئ رسالة طريق استنباط الأحكام، التي كتبها المحقّق الكركي تلبية لطلب شخصين من تلامذته، لم يذكر اسميهما.

وهي رسالة صغيرة وجيزة، ولطيفة ظريفة، تبحث في طرق استنباط الأحكام الشرعيّة الفقهيّة من أدلّتها التفصيليّة، وبيان ما يجب على المجتهد اتّباعه في ذلك.

فذكر فيها مؤلّفها (رحمه الله) أدلّة ذلك، وهي: الكتاب، والسنّة، والإجماع، وأدلّة العقل. فذكر أوّلاً نصّ الكتاب وظاهره، ثمّ أقسام الحديث وتعريفاته، ثمّ الإجماع بقسميه وكيفيّة معرفته، ثمّ أقسام أدلّة العقل.

ولعدم عثورنا على نسخة خطيّة لهذه الرسالة، لذلك اعتمدتُ في تحقيقها على النسخة المطبوعة في مدينة النجف الأشرف سنة 1391 هـ، والتي أعادت طبعها بالتصوير المكتبة الإسلاميّة الكبرى في مدينة قم المقدّسة سنة 1396 هـ.

والحمدُ لله ربّ العالمين.


الصفحة 9

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله الفتّاح على المجاهدين بالفتح المُبين، المُبيّن المسالك لسلوك السالكين، والصلاة والسّلام على السفير، وآله أئمة التدبير.

أمّا بعد،

فقد سألتما ـ أعزكما الله بطاعته، وألهمكما سلوك طريق هدايته، وأوصلكما إلى إداراك منهج التحقيق بعنايته ـ تبيين كيفيّة سلوك المجتهد في استنباط الأحكام، واستخراج الحوادث عن الأدلّة، بطريق الاختصار، ممّا أخذناه مشافهة، فسارعتُ إلى الاجابة، مُستعيناً بالله، ومتوكّلاً عليه.

فأقول: الطرق الموصلة إلى الأحكام عندنا أربعة: الكتاب، والسنّة ـ متواترة وآحاداً ـ والإجماع، وأدلّة العقل.

أمّا الكتاب:

فمنه نصّ وظاهر، وهما معاً دليلان، ويحتاج في ذلك إلى:

معرفة دلالت الألفاظ، والمحكم والمتشابه، والحقيقة والمجاز، والأمر والنهي، والعام والخاص، والمُطلق والمقيّد، والمُجمل والمُبيّن، والظاهر والمؤول، والناسخ والمنسوخ.


الصفحة 10
ويرجع في معرفة هذه العوارض إلى علم الاُصول، فإنّه مستوفى فيه بالنسبة إلى الاُمور الكلّية.

وبالنسبة إلى الجزئيات المُستنبطة يُراجع الآيات المشهورة بالخمسمائة، التي هي مدار الفقه، ويكتفى فيها بأحد الكتب الثلاثة التي عُملت لتلك:

إمّا كتاب الراوندي(1).

أو كتاب الشيخ البارع أحمد بن متوّج (منهاج الهداية)(2).

____________

1- هو الفقيه الكبير، قطب الدين أبو الحسين سعيد بن عبدالله بن الحسين بن هبة الله ابن الحسن الراوندي، ثقة عين صالح، شاعر، ألّف فأكثر. جلالته وعلوّ منزلته، وورعه وتقواه أشهر من أن نُعرّف بها هنا. ألّف أكثر من ستين كتاباً، منها: فقه القرآن، قصص الأنبياء، أسباب النزول، أحكام الاحكام، اُم المعجزات، بيان الانفرادات. توفي (رحمه الله) في مدينة قم المقدّسة يوم الأربعاء رابع عشر شهر شوال سنة 573 هـ، ودفن في صحن السيّدة فاطمة (عليها السلام)، وقبره الآن مزار مشهور تؤمه الخاصّة والعامّة.

وكتابه " فقه القرآن " المعروف بالفقه الراوندي، فهو في بيان أحكام القرآن، والأحكام الفقهيّة المُستنبطة منها، وقد رتّبه مؤلّفه على ابواب الفقه. وقام بتحقيقه سماحة حجة الإسلام والمسلمين المحقّق الخبير السيّد أحمد الحسيني، ونشرته مكتبة السيّد المرعشي (رحمه الله) في قم المقدسة سنة 1397 هـ، ثمّ أعادت طبعه في سنة 1405 هـ في مجلدين.

انظر: أمل الآمل 2: 125، تنقيح المقال 2: 21، الذريعة إلى تصانيف الشيعة 16: 290، لسان الميزان 3: 28، معجم رجال الحديث 8: 94.

2- قال الشيخ الطهراني في الذريعة 23: 180 / 8558 " منهاج الهداية في تفسير الأحكام الخمسمائة " وشرحها للشيخ جمال الدين أحمد بن المتوّج البحراني، وهو مختصر جيّد يدل على فضل عظيم له. وقال الشيخ سليمان الماحوزي في رسالته في أحوال علماء البحرين: كان الشيخ جمال الدين شيخ الإمامية في وقته، وكان من أعظم تلاميذ فخر المحقّقين الشيخ محمَّد ابن آية الله الشيخ جمال الدين العلاّمة، قرأ عليه في الحلّة، وكان كثير المعارضة مع الشيخ الشهيد محمَّد بن مكي الجزيني. ثمّ رجع إلى البحرين واشتهرت فتاواه في المشارق والمغارب، كما صرّح به ابن أبي جمهور في عوالي اللآلي. ومات الشيخ أحمد في البحرين سنة 830 هـ، ودفن في جزيرة أكل بالمشهد المعروف بالنبي صالح.


الصفحة 11
أو كتاب الشيخ المقداد (كنز العرفان)(1) وهو أحسن الثلاثة ; لاشتماله على المباحث المذكورة بالنسبة إلى كلّ آية. وما ذكر فيه من اختلاف أقوال المفسرين يحتاج الناظر فيها إلى قوة الترجيح لبعضها، ومعرفة الأقرب منها إلى المعنى الذي يقتضيه وضع اللفظ.

فإن اُريد التوسّع فليراجع كتب التفسير المطوّلة، وإن اكتفي بما ذكره في كتابه(2) فهو طريق للمبتدئ هنا.

____________

1- " كنز العرفان في فقه القرآن " تفسير لآيات الأحكام، مُرتّب على مقدّمة، وكتب بترتيب كتب الفقه، وخاتمة. طبع في ايران سنة 1315 هـ في حاشية تفسير الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، وطبع أيضاً مستقلاً سنة 1313 هـ وعلى ظهره ترجمة المؤلّف عن الروضات وعلى هوامشه حواش كثيرة عن كتب التفاسير. وطبع في سنة 1384 هـ في طهران حيث علّق عليه الشيخ محمَّد باقر شريف زاده، وأشرف على تصحيحه واستخراج أحاديثه الشيخ محمَّد باقر البهبودي.

ومؤلّفه هو الشيخ الفاضل الفقيه جمال الدين أبو عبدالله المقداد بن عبدالله بن محمَّد ابن الحسين بن محمَّد السيوري الحلّي الأسدي الغروي، المعروف بالفاضل السيوري، والفاضل المقداد. كان (رحمه الله) من أجلاّء الأصحاب وعظماء مشايخ الرجال، جامعاً بين المعقول والمنقول، عالماً فاضلاً متكلماً محققاً مدققاً، من أعاظم الفقهاء، قد أثنى عليه كلّ من عنونه بالثناء الجميل والذكر النبيل. وله تآليف كثيرة منها: التنقيح الرائع في شرح مختصر الشرائع، وشرح نهج المسترشدين في اُصول الدين، وشرح الباب الحادي عشر. توفي (رحمه الله)في سنة 816 هـ.

انظر: الذريعة 18: 159، مقدمة كتاب كنز العرفان.

2- أي كتاب (كنز العرفان) للشيخ المقداد السيوري.


الصفحة 12

وأمّا السنّة:

فيحتاج الاستنباط منها ومعرفة دلالتها على الأحكام، إلى معرفة عوارض الألفاظ المذكورة، ويُراجع فيها علم الاُصول كما قلنا.

فالمتواتر منها طريق ضروري، وتختلف أحواله بالنسبة إلى الأشخاص باختلاف وصول التواتر إليهم وعدمه.

والآحاد:

إمّا مشهور: وهو ما زاد رواته على الثلاثة، ويسمّى المستفيض. وحكمه كالمتواتر في وجوب العمل، ويختلف أيضاً حاله كاختلاف المتواتر، ويكتفى بمعرفة المشهور هنا بمراجعة الكتب والمصنّفات الفقهيّة والحديثيّة.

وإمّا غير مشهور: وهو عند أصحابنا أربعة أقسام:

صحيح: وهو ما رواه العدل المعلوم العدالة الصحيح المذهب، بطريق عدول، هكذا متصلاً إلى المعصوم (عليه السلام).

وحسن: وهو ما رواه الممدوح الذي لم يبلغ مدحه التصريح بعدالته، أو كان أحد رواته كذلك.

وموثّق: وهو ما رواه العدل الغير المرضي في دينه المأمون تعمّد الكذب، أو كان في الطريق مَن هو كذلك.

وضعيف: وهو مروي الإمامي غير الموثّق أو الفاسق.

ولا يعمل أصحابنا من المراسيل إلاّ بما عُرف أنّ مرسله لا يرسل إلاّ

الصفحة 13
عن ثقة كابن أبي عمير(1)، وأبي بصير(2)، وابن بزيع(3)، وزرارة بن أعين(4)

____________

1- هو محمَّد بن أبي عمير زياد بن عيسى، من موالي المهلّب بن أبي صفرة، بغداديّ الأصل والمقام. عدّه الكشيّ من أصحاب الإجماع في تسمية الفقهاء من أصحاب الإمامين الكاظم والرضا (عليهما السلام)، ووثّقه الشيخ في أصحاب الرضا (عليه السلام). وقد حبُس ابن أبي عمير في زمن الرشيد ليلي القضاء، أو ليدل على مواضع الشيعة، وقد عذّب كثيراً حتّى كاد أن يقرّ بما عنده، إلاّ أنه صبر وفرّج الله عنه. وقيل: إنّ المأمون قد حبسه أيضاً لكي يلي القضاء له.

انظر: رجال الشيخ الطوسي: 388، رجال الكشي: 151، رجال النجاشي 2: 204 رقم 888.

2- المقصود به هنا هو يحيى بن القاسم أبو بصير الأسدي، وقيل أبو محمَّد. ثقة وجيه، عدّه الكشي من أصحاب الإجماع في تسمية الفقهاء من أصحاب أبي جعفر وأبي عبدالله (عليهما السلام).

انظر: تنقيح المقال 3: 308، رجال الكشي: 238، رجال النجاشي 2: 411 رقم 1188.

3- هو محمَّد بن اسماعيل بن بزيع، أبو جعفر، مولى المنصور أبي جعفر.

كان من صالحي هذه الطائفة وثقاتهم، كثير العلم، له كتب منها: كتاب ثواب الحج، وكتاب الحج. ذكره الشيخ الطوسي في رجاله من أصحاب الكاظم والرضا والجواد(عليهم السلام).

انظر: رجال الشيخ: 360، 386، 405، رجال النجاشي 2: 214 رقم 894.

4- قال ابن النديم في الفهرست: زرارة لقب واسمه عبد ربّه بن أعين بن سنبس، أبو علي، أكبر رجال الشيعة فقهاً وحديثاً ومعرفة بالكلام والتشيّع.

وقال المامقاني في التنقيح: سنبس وقيل سنسن، وضبطه في ترجمة أحمد ابن ابراهيم، السنسني بسينين مهملتين نسبة إلى سنسن ـ وزان هدهد ـ الشاعر المعروف.

وقال النجاشي في رجاله: شيخ أصحابنا في زمانه ومتقدّمهم، كان قارئاً فقيهاً متكلماً شاعراً أديباً. قد اجتمعت فيه خلال الفضل والدين، صادقاً فيما يرويه، مات سنة 150 هـ.

انظر: تنقيح المقال 1: 438، رجال النجاشي: 125، الفهرست: 276.


الصفحة 14
وأحمد بن أبي نصر البزنطي(1)، ونظرائهم(2) ممنّ نصّ عليه علماء الأصحاب.

والذي أخذناه بالمشافهة في مراسيل المتأخّرين من أصحابنا: العمل بمراسيل الشيخ جمال الدين(3)، وولده(4)، ومراسيل الشيخ المقداد، والشيخ

____________

1- هو أحمد بن محمَّد بن عمرو بن أبي نصر السكوني، مولى السكون. كوفي ثقة، جليل القدر. لقي الرضا وأبا جعفر (عليهما السلام)، وكان عظيم المنزلة عندهما. ذكره الكشي في تسمية الفقهاء من أصحاب أبي ابراهيم وأبي الحسن الرضا (عليهما السلام).

انظر: رجال الشيخ الطوسي: 344 في أصحاب الكاظم (عليه السلام) و 366 في أصحاب الرضا (عليه السلام)، رجال الكشي: 556، رجال النجاشي 2: 202 رقم 178.

2- وهم الذين أجمع الأصحاب على تصحيح ما يصح عنهم، وأقروا لهم بالفقه والعلم، منهم من أصحاب أبي جعفر وأبي عبدالله (عليهما السلام): معروف بن خربوذ، والفضيل بن يسار، ومحمَّد بن مسلم.

ومنهم من أصحاب أبي إبراهيم وأبي الحسن (عليهما السلام): يونس بن عبد الرحمن، وصفوان بن يحيى بيّاع السابري، وعبدالله بن المغيرة، والحسن بن محبوب. وأضاف بعضهم الحسن بن علي بن فضال وفضالة بن أيوب.

انظر: رجال الكشي: 328 و556.

3- هو العلاّمة الحلّي، الحسن بن يوسف بن علي بن مطهّر الأسدي، أبو منصور. شيخ الطائفة وعلاّمة وقته، وصاحب التدقيق والتحقيق، انتهت رئاسة الإمامية إليه. وهو البحر القمقمام والأسد الضرغام، آية الله على الإطلاق، ناشر ناموس الهداية وكاسر ناقوس الغواية، متمّم القوانين العقليّة وحاوي الفنون النقليّة، مجدد مآثر الشريعة المصطفويّة، مجدّد جهات الطريقة المرتضوية، صاحب التآليف الكثيرة والتصانيف المنيفة التي تزيد على مائة مؤلَّف.

ولد (رحمه الله) في شهر رمضان المبارك سنة 648 هـ في مدينة الحلّة السيفيّة، وتوفّي فيها في محرم الحرام سنة 726 هـ، ودفن في مدينة النجف الأشرف بجوار الإمام علي(عليه السلام).

انظر: أعيان الشيعة 5: 389، الخلاصة: 45، الدرر الكامنة 2: 49، رياض العلماء 1: 359، لسان الميزان 2: 317، الوافي بالوفيات 13: 85.

4- هو فخرالدين محمَّد بن الحسن بن يوسف بن مطهّر الحلّي، كان فاضلاً محقّقاً فقيهاً ثقة جليلاً، يروي عن أبيه العلاّمة الحلّي. وممّا يدل على شرفه وعظمته أن جلّ مؤلّفات والده كتبت بالتماسه، وأنّ والده طلب منه اكمال ما وجده ناقصاً واصلاح ما وجده خطأ، ولد (رحمه الله) في سنة 682 هـ، وتوفي في 771 هـ.

انظر: أمل الآمل 2: 260، رياض العلماء 1: 360، مجالس المؤمنين 2: 360.


الصفحة 15
أحمد بن فهد(1). لامراسيل الشهيد(2)، ولا الشيخ نجم الدين(3).

____________

1- هو الشيخ جمال الدين أبو العباس أحمد بن شمس الدين محمَّد بن فهد الأسدي الحلّي. ولد سنة 757 هـ في مدينة الحلّة، وتوفي فيها سنة 841 هـ. وكان (رحمه الله)فاضلاً عالماً، ثقة جليلاً، زاهداً عابداً ورعاً، عظيم القدر. تتلمذ على كبار العلماء في عصره منهم الشيخ علي بن خازن الجابري، والشيخ نظام الدين علي بن عبد الحميد النيلي، والشيخ ضياء الدين علي بن محمَّد بن مكي. وله مؤلفات كثيرة يصل عددها إلى ست وأربعين مؤلّفاً، منها: المهذّب البارع في شرح المختصر النافع، شرح الألفيّة للشهيد، شرح الإرشاد للعلاّمة، اللمعة الجليّة في معرفة النيّة، مصباح المبتدئ وهداية المقتدي.

انظر: أعيان الشيعة 3: 148، أمل الآمل 2: 21، روضات الجنات 1: 73، رياض العلماء 1: 65، الفوائد الرضوية: 33، الكنى والالقاب 1: 380.

2- هو شمس الدين أبو عبدالله محمَّد ابن الشيخ جمال الدين مكي بن محمَّد بن حامد النبطي العاملي الجزيني، الشهير بالشهيد الأوّل، أو بالشهيد مطلقاً. ولد في قرية جزين من منطقة جبل عامل سنة 734 هـ ونشأ وترعرع، ودرس المقدّمات فيها ثمّ سافر إلى مراكز الحضارة الاسلاميّة آنذاك كالحلّة وكربلاء ومكة المكرمة والمدينة المنوّرة والقدس والشام. وفي الحلّة التقى بفخر المحققين وتتلّمذ على يده. وقد ألّف كتباً كثيرة منها اللمعة الدمشقية، والذكرى، والدروس، والبيان، وغاية المراد في شرح الإرشاد، والقواعد والفوائد. واستشهد (رحمه الله) إثر الفتن الطائفيّة القائمة آنذاك والمتمثلة بحركة اليالوش، فقتل (رحمه الله)بالسيف بفتوى قاضي بيروت المالكي، ثمّ صُلب، ثمّ رجم ثمّ اُحرق.

انظر: أعيان الشيعة 10: 135، أمل الآمل 1: 181، تحفة الأحباب: 354، تكملة أمل الآمل: 364، تنقيح المقال 3: 191، حياة الإمام الشهيد، روضات الجنات 7: 3، رياض العلماء 5: 185، شهداء الفضيلة: 80، لؤلؤة البحرين: 134.

3- جعفر بن الحسن بن سعيد الحلّي، المشهور بالمحقّق الحلّي، من أعاظم أعلام الفقه الإمامي. قال عنه ابن داود في رجاله: 62 شيخنا المحقّق المدقق الإمام العلاّمة، واحد عصره، وكان ألسن أهل زمانه وأقومهم بالحجّة وأسرعهم استحضاراً، قرأتُ عليه وربّاني صغيراً وكان له عليّ احسان عظيم والتفات، وتوفي في شهر ربيع الآخر سنة 676 هـ، وله تصانيف حسنة محقّقة محرّرة عذبة، منها: شرائع الإسلام، والمختصر النافع، والمعتبر، والمعارج في اُصول الفقه.


الصفحة 16
فإذا تعارضت هذه الأخبار قدّم الصحيح، فإذا لم يكن فالحسن، وبعده الموثّق، ولا يعمل بالضعيف.

وكيفيّة معرفة هذه الصفات بمراجعة الروايات، والاطلاع على أحوال رجالها، وهو ممّا يصعب على المبتدىء، وإن كان العلماء قد نصّوا على الاكتفاء في الجرح والتعديل بما نصّ عليه مَن تقدّمنا من المجتهدين، كما أشار إليه في (الخلاصة)(1)، وابن داود(2) في كتابه(3).

وهنا طريق أسهل منه، وهو أن الشيخ جمال الدين قد [ألف](4) في ذلك، واستعمل في كتبه خصوصاً (المختلف) أن يذكر الصحيح بوصفه، والحسن بوصفه، والموثق كذلك، ويترك الضعيف بغير علامة، وهو علامة ضعفه.

وذكر في (الخلاصة): أنّ الطريق في كتاب (الاستبصار) و(التهذيب) و(من لا يحضره الفقيه) إلى فلان صحيح، وإلى فلان حسن،

____________

1- الخلاصة: 2.

2- هو الشيخ تقي الدين أبو محمَّد الحسن بن علي بن داود الحلّي، وقد يسمّى الحسن بن داود نسبة إلى الجد. ولد في الخامس من جمادى الآخرة سنة 647 هـ، وكان حيّاً في سنة 707 هـ حيث ألفّ كتابه الرجالي فيها. كان (رحمه الله) عالماً فاضلاً جليلاً، فقيهاً صالحاً، محقّقاً متبحراً أديباً، موصوفاً في الاجازات وفي المعاجم الرجاليّة بسلطان العلماء والبلغاء، وتاج المحدّثين والفقهاء. له عدّة مؤلّفات منها: كتاب الرجال، تحصيل المنافع، التحفة السعديّة، خلاف المذاهب الخمسة، الجوهرة في نظم التبصرة.

انظر: أمل الآمل 2: 71، رياض العلماء 1: 183.

3- كتاب الرجال: 25.

4- لم ترد في النسخة المعتمدة، أضفناها لاقتضاء السياق.


الصفحة 17
وإلى فلان موثّق، وإلى فلان ضعيف. وجعل ذلك دستوراً يرجع إليه، فيكتفي المبتدئ في معرفة صفات هذه الروايات الأربع بالرجوع إلى هذا الدستور الذي اعتمده.

ومن تأخّر عنه كلّهم اعتمدوا على هذا الطريق، كالشيخ فخر الدين في (الإيضاح)، والسيّد ضياء الدين في شرحه للقواعد(1)، والشهيد في كتبه خصوصاً (الذكرى) و(شرح الإرشاد)، والشيخ أحمد بن فهد في (مهذّبه)، والشيخ المقداد في (تنقيحه).

ومن اُصول أصحابنا التي أشير إلينا بالمشافهة في العمل برواياتها وبرواياتها كتاب (الكافي) للشيخ محمَّد بن يعقوب الكليني(2)، وكتاب

____________

1- هكذا ورد في النسخة المطبوعة، والصحيح أنّ شرح القواعد ليس له، بل لأخيه عماد الدين، وهو المعروف عند الفقهاء بالشرح العميدي. والسيّد ضياء الدين عبدالله، والسيّد عميد الدين عبد المطلب هما ابنا اُخت العلاّمة الحلّي، وأبوهما هو السيّد مجد الدين أبو الفوارس محمَّد بن علي الأعرجي. كانا رحمهما الله عالمين فاضلين، من أجلّة تلاميذ العلاّمة بعد ابنه محمّد. وللسيّد ضياء الدين شرح على تهذيب العلاّمة، ورسالة في اُصول الدين. وللسيّد عميد الدين اضافة لشرحه على القواعد: رسالة في المواريث سمّاها المسألة النافعة للمباحث الجامعة، وكتاب المباحث العلميّة في القواعد المنطقيّة.

انظر: أعيان الشيعة 8: 69 و100، الذريعة 14: 21.

2- أبو جعفر الرازي، محمَّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني، المشهور بثقة الإسلام، وهو شيخ الطائفة ووجههم في الري، جليل القدر، عظيم المنزلة. له عدّة كتب أشهرها الكافي، وهو أحد الاُصول الحديثيّة المعتمدة عند الطائفة، ألّفه في عشرين سنة، ويُعدُّ من مجدّدي المذهب على رأس المائة الثالثة، توفي (رحمه الله) في بغداد سنة تناثر النجوم 328 هـ ودفن في بقعة على يسار العابر من الرصافة.

انظر: تاج العروس 9 " مادة كلين "، تنقيح المقال 3: 201، رجال الشيخ الطوسي: 495، رجال النجاشي: 377، روضات الجنات 6: 108، لسان الميزان 5: 433، الفهرست: 135.


الصفحة 18
(من لا يحضره الفقيه) للصدوق ابن بابويه(1)، وكتاب (التهذيب) و(الاستبصار) للشيخ أبي جعفر الطوسي(2).

ومن كتب الأدلّة: كتاب (المختلف) و(التذكرة) للشيخ جمال الدين، وكتاب (الإيضاح) لولده، وكتاب (المهذّب) للشيخ أحمد بن فهد، وكتاب (التنقيح) للشيخ المقداد.

ومن كتب الرجال: كتاب (الخلاصة)، و (كتاب ابن داود).

والدستور الذي اعتمده العلاّمة في (الخلاصة) مغن عن مطالعة كتب الرجال.

____________

1- أبو جعفر، محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي، رئيس المحدّثين، جليل القدر عظيم المنزلة، ثبت بصير بالرجال، ولد (رحمه الله) بدعاء الحجّة عجّل الله تعالى فرجه الشريف. نزل الري وورد بغداد سنة 355 هـ وحدَّث بها، وسمع منه جمع غفير من الفريقين، وله أكثر من 300 مصنّفاً، أشهرها من لا يحضره الفقيه، والتوحيد، وكمال الدين، والأمالي، وعيون الأخبار. مات سنة 381 هـ.

انظر: أمل الآمل 2: 283، تاريخ بغداد 3: 89، رجال بحر العلوم 3: 192، رجال ابن داود: 179، الخلاصة: 147، رجال النجاشي: 389، روضات الجنات 6: 132، معالم العلماء: 111.

2- أبو جعفر الطوسي، محمَّد بن الحسن بن علي الطوسي، شيخ الإماميّة ووجههم. جليل القدر، عظيم المنزلة، ثقة عين صدوق، له أكثر من أربعين مؤلّفاً أكثرها من اُمهّات المصادر منها: التهذيب والاستبصار والخلاف والمبسوط والنهاية والتبيان وكتاب الرجال، والفهرست.

انظر: تنقيح المقال 3:104، البداية والنهاية 12: 97، جامع الرواة 2: 92، الخلاصة: 148، رجال النجاشي: 403، الفهرست: 159، لسان الميزان 5: 135.


الصفحة 19

أمّا الإجماع:

فلابدّ فيه من معرفة شرائطه وأحكامه على ما بحث فيه أهل الاُصول. وأمّا معرفة وقوعه على الأحكام أو عدم وقوعه، فإنّ ذلك لابدّ منه، وهو الذي أشاروا إليه في قولهم: إنّ من جملة شرائط الاجتهاد معرفة مسائل الخلاف والوفاق ; لئلا يعتني بما يخالفه.

والذي سمعناه بالمشافهة الاكتفاء في معرفته:

إمّا بالبحث والتفتيش في كتب العلماء في الحوادث التي وقع البحث فيها في تصانيفهم، فإن وجد أقوالهم متضافرة على حكم الحادثة حكم به، وإلاّ حكم بالاختلاف.

أو بالوقوف على رواية بعض العلماء المشهورين بوقوع الإجماع على حكم الحادثة، فيكون الإجماع عنده منقولاً بخبر الواحد، وهو حجّة في الاُصول.

وكذلك هذا طريق معرفة المشهور من الروايات والفتاوى، وكون الحكم مثلاً ممّا قال به الأكثر، فإنّه أيضاً من جملة المرجّحات في باب أحوال الترجيح.

وأمّا أدلّة العقل فأقول:

فمنها: أدلة المنطوق، ثمّ تتبعها دلالة مفهوم الموافقة، وبعدها مفهوم المخالفة على القول بالعمل بدليل الخطاب.

ومنها: البراءة الأصليّة، يعتمد عليها ما لم يجد ما ينقل عنها من الأدلّة السمعيّة.

ومنها: الاستصحاب ـ على القول بحجيّته ـ والتمسّك بالبراءة، فإنّه يستصحب الحال الأوّل ما لم يجد من الأدلّة ما تحيل عنه.


الصفحة 20
ومنها: اتّحاد طريق المسألتين، وهو فرع من فروع الاستصحاب يخالفه في بعض الأحكام، [كما هو](1) مقرّر في الاُصول.

ومنها: تعدية الحكم من المنطوق إلى المسكوت الذي هو القياس، وقد وقع فيه الخلاف:

فمتقدّموا أصحابنا لا يعملون بشيء [منه](2).

والمتأخّرون عملوا بما نصّ على علّة حكم الأصل: إمّا بنصٍّ، أو ايماء، على ما تقرّر في الاُصول.

فالعامل به يحتاج إلى معرفة هذا النوع من القياس، ومعرفة الخلاص من المبطلات للعلّة فيه، والتخلّص من الأسئلة الواردة عليه على ما بيّن في الاُصول.

ومَن لا يعمل به لا يحتاج إلى ذلك، على ما أشاروا إليه في كتبهم.

ودليلنا على العمل بهذه الأدلّة: ما روي صحيحاً عن الصادق (عليه السلام)ـ رواه الشيخ المقداد في (تنقيحه) ـ أنّه قال: " علينا أن نلقي إليكم الاُصول وعليكم أن تفرّعوا "(3)، وهو دليل على وجوب الاجتهاد أيضاً.

اذا عرفتَ ذلك، فاعلم أنّه قد يقع لبعض عدم معرفة الفرق بين ما هو محلّ الرواية، وما هو محلّ الفتوى الذي نهي عن التقليد فيه للأموات في قول العلماء: إن الميّت لا قول له.

فنقول: كلّ ما هو نصّ في الكتاب، أو في السنّة المتواترة أو الآحاد الصحيحة، فهو مأخوذ بالرواية، وليس هو محلّ الفتوى المحتاج إليه إلى التقليد، فلا يكون من المنهي عن أخذه من الأموات

____________

1 و 2- لم ترد في النسخة المعتمدة، أضفناها لاقتضاء السياق.

3- التنقيح الرائع 1: 7.


الصفحة 21
وكذلك كلّ ما هو مشهور بين علماء الطائفة من الروايات والفتوى التي قال بها أكثرهم، وإن وقع فيها خلاف شاذ فإنه أيضاً مأخوذ بالرواية، وليس هو محلّ الفتوى المنهي عن أخذه عن الأموات.

وكذلك كلّ ما هو مُجمع عليه، إمّا عند مجموع الاُمّة، أو عند الطائفة المحقّة، ممّا عرف وقوع الإجماع فيه بالطريقين المذكورين منّا فإنّه يؤخذ أيضاً بالرواية، وليس هو محلّ الفتوى المنهي عن أخذه من الأموات.

وما سوى ذلك ممّا وقع النزاع فيه بين المجتهدين من المسائل الخلافيّة التي [هي](1) كالاُصول بالنسبة إلى فروع الفقه التي حاصلها وأكثرها مضبوط في (مختلف) العلاّمة، وهي وإن كان بعض الخلافيات المذكورة فيه ممّا يُعدّ في الشذوذ ; لاشتهار الفتوى بخلافه، ويعرف باستقراء مصنّفات الاُصول من كتب الأدلة، وكتب الفروع المجرّدة.

أو كان [من](2) الفروع التي فرّعها مَن تأخر عن العلاّمة من المجتهدين بعده، كالشهيد ومن تأخّر عنه، فإنّه محلّ الفتوى الذي نهي عن العمل به.

وروايته باعتبار معرفة مذاهب المجتهدين فيه ليحكي أقوالهم، ويعرف كيفية تصرّفهم في الحوادث ; ليتفطّن في معرفة كيفيّات الاستنباط، والاستعانة بالسلوك في طرقهم على الاستدلال، فلم يمنع منه أحد. وإنّما منعوا من رواية ذلك ليعمل به، فإنّ الواجب على العامّي في هذه الحوادث في العمل بها الرجوع إلى المفتي، ولا يصدق على الميّت أنّه مفتي، لا حقيقة ولا مجازاً، ولم يكلّف العاميّ شيئاً سوى ذلك، أو أخذ الحكم

____________

1 و 2- لم ترد في النسخة المعتمدة، أضفناها لاقتضاء السياق.


الصفحة 22
عن الدليل ـ على رأي من أوجب الاجتهاد على الأعيان ـ ولا طريق ثالث بإجماع الاماميّة.

وأمّا كيفية التصرّف في الحوادث التي هي محل الفتوى على ما سمعناه مشافهة: إنّ الحادثة المبحوث عنها:

إمّا أن تكون من الحوادث التي حدثت في الأزمنة السالفة، وبحث المجتهدون فيها، فيكتفي الباحث فيها بالاطلاع على أقوال المجتهدين فيها وأدلّتهم التي جعلها كلّ واحد منهم حجّة على مذهبه، فينظر فيها، ويرجّح منها ما يظهر له فيه المرجّح، بأن يظهر له سلامة بعضها من السؤال، وورود السؤال على البعض الآخر.

أو يرد له السؤال على كلّ واحد منها، ولا يظهر له وجه مرجّح، ولا يقوم له دليل على وجه مخالف لما ذهبوا إليه، وهو محلّ الوقف الذي استعمله أكثر المجتهدين في كثير من المسائل حتّى يظهر له مرجح: إمّا لواحد من تلك الأقوال، أو دليل على وجه آخر.

وإن كانت من الحوادث الواقعة في زمانه:

فإن كانت من الجزئيات الداخلة تحت كلّيات المسائل التي وقع البحث فيها من المجتهدين، فعليه أن يدخل تلك الجزئيات تحت ذلك الكلّي، ويكون البحث فيها راجعاً إلى البحث في ذلك الكلّي، ويتصرّف فيها كتصرفه في الحوادث المتقدّمة المبحوث فيها.

وادخال هذا الناظر تلك الجزئيات تحت ذلك الكلّي، واجراء البحث فيها على ما أجرى في ذلك الكلّي هو محلّ الاجتهاد، الذي لا يصح التصرّف فيه لغير الجامع لشرائطه.

وإن لم تكن داخلة تحت شيء من الكلّيات المبحوث فيها من

الصفحة 23
المتقدّمين، واختصت بالوقوع في زمانه، بحث فيها، وتصرّف فيها كتصرّف المجتهدين في الحوادث المتقدّمة بمراجعته للاُصول، بأن ينسبها إلى أحد الأدلّة المقرّرة، فيستنبط حكمها من ذلك الدليل.

وإلى هذا القسم الاشارة في قولهم: يشترط أن يكون ذا قوة يتمكن بها من استخراج الفروع من الاُصول.

هذا آخر ما أردنا الاشارة إليه من كيفيّة الطرق الموصلة إلى استنباط الأحكام، ومعرفة الحوادث على ما سمعناه مشافهةً من أساتيذنا رضوان الله عليهم وجزاهم أفضل الجزاء، وهو الطريق المشهور في كتب الأصحاب.

واقتصرنا منه على هذا القدر لما شرطناه من الاختصار، فمن أراد الاستيفاء فعليه بمطالعة كتب الأصحاب الاُصوليّة والفقهيّة، والتفتيش عن ذلك من مظانّه، يجده مستوفى إن شاء الله تعالى.

والصلاة والسَّلام على سيّدنا محمَّد وآله الطاهرين وسلّم تسليماً كثيراً.

تمّت الرسالة من مصنّفات خاتم المجتهدين وزبدة المتأخّرين علي ابن عبد العالي رحمه الله تعالى.