المقدّمة


الحمدُ لله ربّ العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، والصلاة والسّلام على خير مدعوٍّ ومجيب، ورسول وحبيب، علم التقى، وبدر الدجى، محمّد المصطفى (صلى الله عليه وآله)، وعلى عترته أُولي الحجى وذوي النهى، والعروة الوثقى، وسفينة النجاة، التي أمن مَن ركبها، وغرق مَن تركها، وعلى صحبهم والتابعين لهم بإحسان، الحافظين للوديعة، ومَن أحبّوا الشريعة، واللعنة الدائمة على مَن نازعهم ونصب لهم.

وبعد،

تعرّفنا في ما مضى على عدّة جوانب من حياة المحقّق الكركي: الشخصيّة، والسياسيّة، والعلميّة، وآرائه وفوائده.

ففي البحث عن حياته الشخصيّة تحدّثنا عن اسمه، ومولده وموطنه، وأُسرته، وأخلاقه وسجاياه، وآثاره ومآثره، وكراماته، ومراحل حياته المختلفة، ثمّ مدحه وإطرائه، وأخيراً وفاته ومدفنه.

وفي حياته السياسيّة تعرّضنا لعدّة مواضيع لها صلة بالكركي وعصره: كالتصوّف والصوفيّة، وموقف العلماء من الحكّام، ونشوء الدولة الصفويّة وكيفيّة تعامل العلماء معها، ثمّ تحدّثنا بشكل مفصّل عن علاقة الكركي بهذه الدولة ابتداءً من تأسيسها حتّى سنة 940 هـ، حيث عاصر الكركي حاكمين من حكّامها هما الشاه إسماعيل وابنه الشاه طهماسب.


الصفحة 2
وفي حياته العلميّة سلّطنا الضوء على بعض المجالات التي كان للكركي دور فعّال فيها، فتحدّثنا عن عصره ومعاصريه، وأساتذته وشيوخه، والروايات التي حصل عليها والتي منحها، ومؤلّفاته، والكتب التي قرأها والتي قُرئت عليه، ومكانته العلميّة، ونشاطه العلميّ، والمحاورات والردود العلميّة التي جرت بينه وبين بعض الأعلام.

ثمّ أفردنا بحثاً مستقلاًّ وكاملاً لآرائه ونظريّاته المودعة في مؤلّفاته، والتي لم يُفرد لها تصنيفاً مستقلاً، حيث أجرينا عمليّة استقصاء كامل لكافّة مؤلّفاته، واستخرجنا منها هذه الآراء والنظريّات، وهي آراؤه الكلاميّة، والأُصوليّة، والرجاليّة، وفوائده التأريخيّة، وملاحظاته عن بعض المؤلّفات، وشواهده الشعريّة، والجداول والرسوم التي استعملها.

وفي نهاية كلّ بحث أفردنا فصلاً خاصّاً بعنوان " الملاحظات "، سجّلنا فيه الملابسات التي حصلت في حياته، والاشتباهات التي وقع فيها بعض المؤلّفين عند ترجمتهم للكركي.

والآن تعال معي عزيزي القارئ لنطلّ على جانب آخر من جوانب عظمة هذا الرجل، حيث نتعرّف على بعض آرائه ونظرياته التي استطاع أن يصهرها في بودقة التأليف عبر كتبه المختلفة من حيث مواضيعها وحجمها وأسباب تأليفها.

إنّ الوقوف على مؤلّفات المحقّق الكركي، ودراستها بشكل مفصّل ودقيق، يكشف لنا ـ من جانب ـ المستوى العلمي الذي تمتّع به هذا العالم، ومن جانب آخر يُظهر لنا المنزلة الاجتماعيّة الكبيرة التي كان يحتلّها آنذاك، ليس في أوساط الناس عموماً، بل حتّى عند كبار رجال الدولة، وعلى رأسهم الشاه إسماعيل وابنه الشاه طهماسب، وقد تعرّضنا لهذه النقاط بشكل مفصّل

الصفحة 3
في ما مضى من الكتاب عند حديثنا عن حياته.

والملاحظ أنّ مؤلّفات الكركي تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأوّل:

الرسائل، والتي تتناول عادةً البحث عن موضوع معيّن، أو مسألة فقهيّة واحدة. وهذه الرسائل يختلف حجمها، فبعضها يقع في أربعين أو خمسين صفحة، والبعض الآخر يقع في عدّة صفحات.

الثاني:

الحواشي والشروح لبعض الكتب المعتمدة عندنا، كالشرائع والمختصر النافع للمحقّق الحلّي، والقواعد والإرشاد والمختلف للعلاّمة الحلّي، والألفيّة الشهيديّة.

الثالث:

جواب الأسئلة والاستفتاءات التي كانت ترد عليه من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وبمستويات مختلفة في التعبير، وقد قام بعض تلامذته وبعض العلماء القريبين من عصره بجمعها وترتيبها.

وقد استطعتُ بحمد الله تعالى وتوفيقه طيلة سنوات عديدة، أن أجمع وأُحقّق من مؤلّفات هذا العالم الجليل أربعة وخمسين مؤلّفاً، معتمداً على مائة وعشرين نسخة خطيّة موجودة في عدّة مكتبات في الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة: قم المقدّسة، مشهد المقدّسة، طهران، همدان، يزد، خوانسار، أصفهان. وقد عانيت الكثير من المصاعب في جمع هذه النسخ الخطيّة، فإنّ الحصول على نسخة خطيّة واحدة من أقرب المكتبات إلينا في مدينة قم المقدّسة لا يخلو من مصاعب جمّة، فكيف بهذا الكمّ الهائل من النسخ الخطيّة.


الصفحة 4

منهجيّة التحقيق


اعتمدت في تحقيقي لهذه المجموعة من رسائل الكركي وحواشيه على طريقة واحدة، أُلخّصها بعدّة نقاط:

(1) اتّبعت طريقة التلفيق بين النسخ الخطيّة، وذلك لعدم عثوري على نُسخ الأصل التي كتبها الكركي بيده. نعم، بعض الرسائل عثرتُ لها على نُسخ مقروءة على الكركي، إلاّ أنّي لم أكتف بها وأضفتُ لها نُسخاً أُخرى.

(2) عند حصولي على عدّة نسخ خطيّة لإحدى هذه المؤلّفات، أقوم بمقابلة بعضها مع البعض الآخر، وإثبات الصحيح أو الأصح في المتن وما قابلهما في الهامش.

وعند عدم حصولي إلاّ على نسخة واحدة، فإنّي أجعلها الأصل في عملي، وأُشير في الهامش إلى ملاحظاتنا واستظهاراتنا عليها.

(3) استخراج كلّ ما يحتاج إلى تخريج من آيات قرآنيّة كريمة، وأحاديث شريفة، وأقوال العلماء في شتى العلوم، وشواهد شعريّة، وأماكن وبقاع. وحاولت قدر المستطاع أن أعتمد على المصادر الرئيسيّة في كافة الاستخراجات، إلاّ تلك المصادر المفقودة أساساً أو التي لم أُوفّق للحصول عليها، فقد استعنتُ في الحصول على أقوالها بواسطة مصادر أُخرى ميسّرة.

(4) لم أُترجم كافة الأعلام الّذين وردت أسماؤهم، بل ترجمتُ لبعضهم حسب الضرورة التي رأيتها.

(5) عند شروعي في تحقيق الحواشي والشروح وضعتُ متن الكتاب المشروح في أعلى كلّ صفحة، ويتلوه الشرح أو الحاشية التي كتبها الكركي.


الصفحة 5
ثمّ قمتُ بحذف المتن واكتفيت بالإشارة إليه ; رعاية للاختصار، وتلبيةً لاقتراح بعض الإخوة الأفاضل من المحقّقين.

(6) رتّبتُ الرسائل حسب مواضعيها، فوضعتُ أوّلاً الرسالة النجميّة التي جمع فيها الكركي بين علمي الكلام والفقه وأدرج فيها أيسر ما يجب على المكلّفين معرفته في الأُصول والفروع، ثمّ رسالة استنباط الأحكام التي تعبّر عن المنهج العلمي للكركي، ثمّ الرسائل الفقهيّة مرتّبة بترتيب كتب الفقه ابتداءً من الطهارة وانتهاءً بالقضاء، ثمّ الرسائل المتفرّقة وجوابات المسائل الفقهيّة التي وردت عليه.

(7) نظّمتُ فهارس فنيّة كاملة، تعميماً للفائدة واتّباعاً للمنهج الحديث في التحقيق.


وآخر دعوانا أن الحمدُ لله ربّ العالمين

محمّد الحسّون


الصفحة 6


ملاقي
الشبهة المحصورة





الصفحة 7

الصفحة 8

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين

الحمدُ لله كما ينبغي، والصلاة والسّلام على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وعلى آله الطيّبين الطاهرين، واللعن الدائم المؤبّد على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.

وبعد،

بين يديك عزيزي القارئ رسالة صغيرة تزيد على مائتي بيت، بيّن المحقّق الكركي فيها تحقيق مسألة قد تخفى على الكثير من الناس، وهي ملاقاة الطاهر لبعض أفراد أو أجزاء الشبهة المحصورة، وقد كتبها استجابة لطلب بعض الأفراد حيث عبّر عنه في بداية الرسالة بما لا يسع مخالفته.

اعتمدتُ في تحقيق هذه الرسالة على أربع نسخ خطيّة، هي:

(1) النسخة الخطيّة المحفوظة في المكتبة المرعشيّة العامّة في مدينة قم المقدّسة ضمن المجموعة المرقمة 4933، والمذكورة في فهرس مخطوطات المكتبة 13: 128، تأريخ كتابتها سنة 964 هـ، وتقع هذه النسخة في خمس أوراق بحجم 5 / 18 × 13 سم، وكلّ ورقة تحتوي على ستة عشر سطراً، وقد رمزنا لها بالحرف " ش1 ".

(2) النسخة الخطيّة المحفوظة في المكتبة المرعشيّة العامّه في مدينة قم المقدسة أيضاً ضمن المجموعة المرقمة 7206، والمذكورة في فهرس مخطوطات المكتبة 19: 14، تأريخ كتابتها سنة 1069 هـ، وتقع هذه النسخة في ست أوراق بحجم 24 × 5 / 12 سم، وكلّ ورقة تحتوي على

الصفحة 9
عشرين سطراً، وقد رمزنا لها بالحرف " ش2 "، علماً بانّ المُفهرس لم يذكرها في فهرس المكتبة.

(3) النسخة الخطيّة المحفوظة في مكتبة جامعة طهران ضمن المجموعة المرقمة 2144، والمذكورة في فهرس مخطوطات المكتبة 9: 828، تأريخ كتابتها سنة 979 هـ، وتقع هذه النسخة في خمس أوراق بحجم 22 × 9 سم، وكلّ ورقة تحتوي على واحد وثلاثين سطراً، وقد رمزنا لها بالحرف " ط ".

(4) النسخة الخطيّة المحفوظة في مكتبة جامع گوهرشاد في مدينة مشهد المقدّسة ضمن المجموعة المرقمة 1109، والمذكورة في فهرس مخطوطات المكتبة 3: 1534، تأريخ كتابتها سنة 1031 هـ، وتقع هذه النسخة في أربع أوراق بحجم 5 / 7 × 10 سم، وكلّ ورقة تحتوي على سبعة عشر سطراً، وقد رمزنا لها بالحرف " ك ".

والحمد لله ربّ العالمين


الصفحة 10


الصفحة الاُولى من النسخة المحفوظة في المكتبة المرعشيّة "ش 1"

الصفحة 11

الصفحة الأخيرة من النسخة المحفوظة في المكتبة المرعشيّة "ش 1"

الصفحة 12

الصفحة الاُولى من النسخة المحفوظة في المكتبة المرعشيّة "ش 2"

الصفحة 13

الصفحة الأخيرة من النسخة المحفوظة في المكتبة المرعشيّة "ش 2"

الصفحة 14

الصفحة الاُولى من النسخة المحفوظة في مكتبة جامعة طهران "ط"

الصفحة 15

الصفحة الأخيرة من النسخة المحفوظة في مكتبة جامعة طهران "ط"

الصفحة 16

الصفحة الاُولى من النسخة المحفوظة في مكتبة جامع گوهرشاد "ك"

الصفحة 17

الصفحة الأخيرة من النسخة المحفوظة في مكتبة جامع گوهرشاد "ك"

الصفحة 18
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين

الحمدُ لله ربّ العالمين، والصلاة على محمّد وآله الطاهرين.

هذا تحقيق لمسألة شرعيّة اتفق خفاؤها، فطلب مَن لا يسع مخالفته إلى هذا الضعيف(1) إملاء شيء في كشفها، فكتبتُ هذه الأسطر مُستعيناً بالله ومتوكلاً عليه.

وتحرير المسألة: أنّ الشيء إذا تنجّس بعضه وكان محصوراً، كالثوب والقطعة من الأرض، واشتبه بحيث لا يُعلم موضع النجاسة أي جزء هو من أجزائه، فلا ريب أنّ المجموع قد تكافأ فيه ـ باعتبار كلّ جزء من أجزائه ـ احتمال طهارته ونجاسته، واعتدل هذان الاحتمالان، بحيث لم يبق لشيء من تلك الأجزاء رجحان أحد الاحتمالين على الآخر، وذلك ناقل عن حكم الطهارة الذي كان قبل ذلك لا محالة، سواء كان حكم الطهارة مُستنداً إلى الأصل أو غيره.

وحينئذ فكلّ ما يشترط فيه الطهارة لا يجوز الاكتفاء بأحدهما فيه، فلو لبس أحد الثوبين وصلّى لم يُجزئه ; لفوات الشرط. وكذا لو جعل مسجده جزءاً من تلك الأرض المشتبهة ; لمثل ما قلناه. لكن لو لاقى أحدهما شيء معلوم الطهارة، فما الذي يكون حكمه شرعاً من طهارة وغيرها؟

____________

1- في " ط ": الضعيف الكاتب.


الصفحة 19
الذي يقتضيه ظاهر المذهب، ويدل عليه الدليل بقاؤه على طهارته من غير أن يتغيّر حكمه الذي كان عليه قبل الملاقاة. ولا نعرف للأصحاب كلاماً صريحاً في ذلك، إلاّ ما ذكره العلاّمة في (النهاية)، فإنّه استشكل الحكم في ذلك(1).

وفي (المنتهى) ذكر شيئاً في باب الآتّية المشتبهة(2)، قد يتخيّل أنّه ممّا نحن فيه، وسنذكر تحقيقه في ما بعد إن شاء الله تعالى.

يدل على ما ذكرناه وجوه:

الأوّل: التمسّك بأصالة البراءة المقتضي لعدم ثبوت التكليف بوجوب اجتنابه ; لعدم الدليل الناقل عن حكم الأصل، فيجب التمسّك به إلى أن يثبت ما ينافيه.

الثاني: استصحاب الحال الذي كان قبل الملاقاة، فإنّ الأصل بقاؤه إلى أن يتحقّق ما ينافيه، واستصحاب الحال حجّة كما تقرّر في الاُصول، ومَن ادّعى منافياً من الكتاب أو السنّة أو الإجماع فعليه البيان.

الثالث: انتفاء المقتضي لوجوب الاجتناب، فينتفي الحكم.

أمّا الاُولى ; فلأنّ المقتضي لوجوب الاجتناب في محلّ النزاع: إمّا الحكم بنجاسته، أو اشتباهه بالنجس.

والأوّل منتف قطعاً ; لأنّ النجاسة حكم شرعي مناطها ظاهر الحال، لا ما في نفس الأمر. وحيث لم تتحقّق ملاقاته للنجس(3) لم يتحقّق الرافع لطهارته المقطوع بها قبل ذلك، فتحقّق انتفاء الحكم بالنجاسة.

____________

1- نهاية الإحكام 1: 249.

2- منتهى المطلب 1: 178.

3- في " ش2 ": النجاسة.


الصفحة 20
وأمّا اشتباهه بالنجس ; فلأنّ الاشتباه عبارة عن وقوع اللبس في تعيين الشيء المقطوع بنجاسته من الشيئين أو الأشياء ; لانتفاء العلم بعينه منهما، وتطرّق الاحتمال إلى كون كلّ واحد منهما هو النجس كما يتطرّق إلى الآخر، ومعلوم انتفاء هذا المعنى عن محلّ النزاع.

وإذا انتفى كلّ من الأمرين اللذين انحصر المقتضي لوجوب الاجتناب فيهما، وجب الحكم بانتفاء وجوب الاجتناب، وإلاّ لم يكن المقتضي مقتضياً هنا.

الرابع: أنّ عدم بقاء المتنازع على طهارته لو ثبت فإنّما يكون ثبوته لاحتمال ملاقاته للنجس ; للاتّفاق على انتفاء غيره ممّا يكون صالحاً للعلّة. وأمّا احتمال ملاقاته للنجس فإنّه بمجرده لا يزيل حكم الأصل المقطوع به، فإنّ الشكّ الطارئ لا يزيل اليقين السابق قطعاً.

وعند التحقيق فليس هناك ما يتخيّل منافاته إلاّ مجرد احتمال ملاقاته النجس المنفي بأصالة العدم، وبأنّ احتمال ملاقاته النجس مُعارض باحتمال كون الملاقي هو الطاهر، فيتكافآن، ويرجع إلى أصل الطهارة المعلوم قبل ذلك، كما هو مقرّر في باب الترجيح في الاُصول.

الخامس: أنّ من صِور النزاع(1) ما لو كان الملاقي لأحد الشيئين ماء معلوم الطهارة، فعلى القول بارتفاع الحكم بطهارته يجب الحكم بالتيمّم مع وجوده، والتالي باطل ; لقوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا}(2)، شرط لجواز التيمم فقد الماء، إلاّ ما أخرجه الدليل، فيبقى محل النزاع داخلاً ; لعموم الدليل الدال على اخراجه، المقتضي للتخصيص من كتاب أو سنّة أو

____________

1- في " ش2 ": صِوره.

2- المائدة: 6.


الصفحة 21
إجماع، فإنّ المخصّص للكتاب منحصر في الاُمور المذكورة، ومَن ادّعى مخصّصاً وجب عليه البيان.

وأمّا بيان الملازمة فظاهر ; لأنّ شرط جواز الوضوء والغسل كون الماء محكوماً بطهارته شرعاً، وعلى ما يدّعيه الخصم من ارتفاع الطهارة ينتفي الشرط.

وإذا كان الحكم في الماء مع الملاقاة المذكورة الطهارة، فكذا غيره ; لعدم الفاصل.

وفي معنى الآية المذكورة جميع العمومات والاطلاقات الواردة في السنّة بالأمر بالطهارة وازالة النجاسة مُطلقاً، فتكون كلّها بعمومها أو بإطلاقها دليلاً على ما ذهبنا إليه.

والعام والمطلق من الدلائل التي لا رادّ لها، إلاّ أن يتحقّق ما يخصّ العام أو يقيد المطلق، ومعلوم انتفاؤه في محلّ النزاع، إلاّ ما يخطر في الأوهام على خواطر من لم يُرَوّض نفسه بمعرفة طُرق الاستدلال الفقهية، فتراه يخبط خبط عشواء في الليلة الظلماء، لا يتميّز عنده غثّ ما في يديه مِن سمينه.

إذا عُرف ذلك فأقصى ما يمكن أن يحتج به مَن يُنازع في هذا الباب أمران:

الأوّل: أنّ المحلّ الملاقي لأحد الشيئين، المقطوع بنجاسة أحدهما من غير تعيين، لا يبقى على طهارته ; لملاقاته ما ألحقه الشارع بالنجس في حكمه، وإذا انتفى الحكم بالطهارة ثبت إمّا التنجيس أو المساواة للنجس في حكمه، وهو المدّعى.

الثاني: أن كُلاًّ من الشيئين المشتبهين ثبت له الحكم بالاشتباه قطعاً،

الصفحة 22
فوجب اجتنابه لذلك، ومتى ثبت ذلك لزم في المحل الملاقي له مثله، وحقيّة المقدّم ظاهرة.

بيان الملازمة: أنّ ملاقاة أحد الشيئين للآخر برطوبة تقتضي المساواة بين الشيئين(1) في الحكم بزوال الطهارة وثبوت النجاسة والاشتباه، وتحقّق المساواة في موضع النزاع يقتضي زوال الحكم بالطهارة، وهو المدّعى.

على أنّ العلاّمة في (المنتهى) قال ما صورته: الرابع: لو استعمل الاناءين وأحدهما نجس مشتبه، وصلّى، لم تصح صلاته ولم يرتفع حدثه، سواء قدّم الطهارتين، أو صلّى بكلّ واحد صلاة ; لأنّه ماء يجب اجتنابه، فكان كالنجس. وكذا لو استعمل أحدهما وصلّى به لم تصح صلاته، ووجب عليه غسل ما أصابه المشتبه بماء متيقّن الطهارة كالنجس، وهو أحد وجهي الحنابلة، وفي الآخر لا يجب غسله ; لأنّ المحلّ طاهر بيقين فلا يزول بشكّ النجاسة(2).

والجواب: لا فرق في المنع بين تيقّن النجاسة وشكّها هنا، بخلاف غيره(3). هذا آخر كلامه.

والجواب عن الأمر الأوّل: أنّ المشتبه بالنجس ليس مُلحقاً بالنجس في نجاسته قطعاً، ولا في القطع بتنجيس الملاقي له أيضاً ; لانتفاء العلم بنجاسته، فإنّ نجاسته بعينه أمر مُحتمل وإن كان نجاسة أحدهما مقطوعاً بها، وإنّما المتحقّق إلحاقه له فيه وجوب اجتنابه في الأمر المشروط بالطهارة ; لتكافؤ الطهارة والنجاسة فيه.

____________

1- بين الشيئين: لم ترد في " ط ".

2- انطر: المغني 1: 81، الشرح الكبير 1: 81.

3- منتهى المطلب 1: 178 ـ 179.


الصفحة 23
والحاصل أن نقول في الجواب: إن اُريد أنّ المشتبه بالنجس قد ألحقه الشارع به في جميع أحكامه، فهو باطل.

وإن اُريد إلحاقه به في تنجيس ما يلاقيه أو في وجوب اجتناب ما يلاقيه، فهو ممنوع، ولا يلزم من ثبوت المنع فيه ثبوته في ما يلاقيه.

والجواب عن الثاني: انّا لا نسلّم أنّ ملاقاة أحد الشيئين للآخر برطوبة تقتضي المساواة بينهما في الحكم مطلقاً، وإنّما يثبت التساوي بينهما إذا كان المحلّ الملاقي معلوم النجاسة، فيتساويان فيها.

أمّا وصف الاشتباه فقد عرفت أنّه إنّما يثبت إذا كان احتمال النجاسة مكافئاً لاحتمال الطهارة وناقلاً عن حكم الأصل، وذلك إنّما يكون إذا قطع بنجاسة أحدهما ولم يتعيّن. وهذا المعنى معلوم الانتفاء عن محلّ النزاع، فإنّه إنّما وقع الشكّ في كون الملاقي له هو الطاهر فيبقى على أصله، أو النجس فيخرج عنه إلى النجاسة مع استسلاف يقين الطهارة الحاصل قبل تدافع الاحتمالين، ومع تقدّم اليقين المذكور فكيف يتعقّل حصول الشك.

وجملة القول في الأمرين المستدل بهما يرجع إلى أنّ المشتبه بالنجس إذا لاقاه جسم آخر برطوبة أفاده حكم الاشتباه، وهذا مجرّد دعوى لا دليل عليها، والمنع متوجّه إليه ما بلغ وجه.

وسنده أنّ معنى الاشتباه لا يمكن تعقلّه في المحل(1) الملاقي ; لما بيّناه من أنّ شرطه تكافؤ الاحتمالين على وجه يكون احتمال النجاسة ناقلاً عن حكم الأصل بالقطع بوقوع النجاسة في الشيئين، الذي هذا أحدهما كما عرفت، والشرط منتف ها هنا فينتفي الاشتباه، وهذا بحمد الله واضح عند

____________

1- المحل: لم ترد في " ك ".


الصفحة 24
مَن له أدنى بصيرة.

وأمّا ما ذكره شيخنا العلاّمة في (المنتهى)، فإن كان الحجّة في مجرّد ذِكْرِهِ له، فهو من اللطائف ; لأنّ العاجز عن الدليل شأنه أن يتمسّك بما ليس بدليل.

وإن كان الحجّة في دليله، فأنت إذا نظرتَ إلى دليله في قوله: وكذا لو استعمل أحدهما وصلّى به لم تصح صلاته، ووجب عليه غسل ما أصابه المشتبه بماء متيقّن الطهارة كالنجس(1). فإنّ هذا في قوّة ما ذكره أوّلاً في المسألة التي قبل هذه من قوله: لأنّه ما يجب اجتنابه فكان كالنجس(2).

فإنّه إن أراد بهذا التشبيه القياس، بأن يكون الفرع هو المشتبه، والأصل هو النجس، والجامع الذي هو المشترك وجوب الاجتناب، والحكم هو وجوب غسل ما أصابه.

ردّدناه أوّلاً: بأنّه قياس، وبعد تسليم قبوله نمنع تعليل الحكم في الأصل بما ادّعي عليه، ونمنع وجود العلّة بعينها في الفرع ; لأنّ الموجود فيه ليس هو مطلق وجوب الاجتناب، بل وجوب الاجتناب في الأمر المشروط بالطهارة، فلا يصلّي في الثوب المشتبه، ولا يسجد على الأرض المشتبهة.

وإن أراد به الاحتجاج بأنّ الشارع ساوى بين المشتبه والنجس، فلا حجّة فيه ; لانّ المساواة لا تقتضي العموم، كما هو مبيّن في الاُصول، وتبعّض الوجوه لا يُفيد ; إذ تكفي حينئذ المساواة في حكم من الأحكام ولا يتعيّن ما ذكره.

____________

1- منتهى المطلب 1: 178.

2- منتهى المطلب 1: 176.


الصفحة 25
وإن كان المراد الاستئناس لذلك بقوله (رحمه الله)، فناهيك به جلالة وعظماً، إلاّ أنّ أنظار الفقهاء والعلماء تزيد وتنقص، فقد تجد أفحل الفحول قد(1) يتمسّك بأضعف ما يتمسّك به ضعفاء العقول، ليتّضح أنّ الجميع في مقام النقص والحاجة، فكيف يمكن الركون إلى كلام أحد لمن يزعم أنّه مُستضيء بنور بصيرته من دون أن يعلم خلوّ ذلك من مرّة.

على أنّ لنا أن نجعل لكلامه مخرجاً، وهو أنّ الماء الذي في الاناءين المشتبه أحدهما بالطاهر، أمرهما(2) أغلظ من غيرهما في نظر الشارع، حيث أمر بإراقتهما، وبيّن أنهما باستحقاقهما للاراقة بمنزلة المراق، فإنّ ذلك يُشعر بسدّ الباب في مباشرة شيء منهما.

أو لأنّ الماء لرقته، أجزاؤه قابلة للتفرّق والشيوع، فلو جوّزنا للمكلّف مباشرته لجاز دخوله في الصلاة وهو معه، وقد عرفت ثبوت المنع من ذلك. وهذا بخلاف الثوب الذي يلاقيه محلّ طاهر برطوبة طاهرة، فإنّ المشتبه بحاله لم تنفصل منه أجزاء أصلاً ورأساً.

ولا يبعد أن يكون قوله (رحمه الله) آخراً في الجواب: لا فرق بين تيقّن النجاسة وشكها هنا، بخلاف غيره(3)، اشارة إلى ما قلناه. وإذا أمكن حمل كلام مثله على المعنى القويم، من غير احتياج إلى العدول عن الظاهر، تعيّن المصير إليه، بل إذا احتمل كلامه أمرين سقط احتجاج مَن جعله حجّة له، والله المرشد والهادي إلى صوب الصواب.

في آخر نسخة " ط " ورد: نقلته عن خطّه الشريف لا زال ظلّه العالي

____________

1- قد: لم ترد في " ش 1".

2- في " ش 1 ": هما.

3- منتهى المطلب 1: 179.


الصفحة 26
عليّاً.

قوبل بما نقل عنه وهو ما نقل المولى المشار إليه (رحمه الله) تعالى من خطّه (قدس سره)يوم الاثنين أوّل شهر رجب المرجّب سنة تسع وسبعين وتسعمائة بالمشهد المقدّس المعلّى المزكّى الرضوي.