الصفحة 24
وغيرها من التربة الحسينيّة ـ على مشرّفها الصلاة والسّلام ـ من أعصر أئمتنا (عليهم السلام) إلى عصرنا هذا، وفي سائر الأعصر التي مرّت على الناس، فيما بين اُذنيك، وفي كلّ عصر وكلّ قطر جمعٌ من أكابر علماء الإماميّة ومحقّقيهم، والغالب في عملها أن تُشوى بالنار ; طلباً لتصلّبها وصيانتها عن التفتت والانتشار، وسهولة تطهيرها بالقليل والكثير لو عرض لها ما يوجب ذلك.

وهذا أمرٌ شائع شهيرٌ معلوم لكلّ عاقل لا ينكره أحد، ولم يزل الناس في كلّ طبقة يسجدون عليها، ويتناقلونها من قطر إلى قطر، ولم ينكر ذلك أحد، ولم ينه عنه ناه، ولم ينقل ناقل منع أحد منه ولا إنكاره لفعله، مع أنّه ممّا عمّت به البلوى، وكثر وقوعه، واشتهر بينهم فعله.

ولو كان السجود عليه ممنوعاً منه عندهم أو عند أحد منهم، لنهو عنه وأنكروا على فاعله، فيكون إطباقهم على التقرير على فعله إجماعاً منهم على الجواز، وأقل مراتب هذا الإجماع أن يكون إجماعاً سكوتيّاً، وهو حجّة عند جمع من الاُصوليين.

الرابع: النصوص الدالة على السجود على الأرض:

مثل ما رواه الفضل بن عبد الملك عن أبي عبدالله (عليه السلام): " لا يسجد إلاّ على الأرض، أو ما انبتته الأرض، إلاّ القطن والكتان "(1).

وقريب منه ما رواه عبد الرحمن بن أبي عبدالله عنه (عليه السلام)(2).

____________

1- الكافي 3: 330 حديث 1، التهذيب 2: 303 حديث 1225، الاستبصار 1: 331 حديث 1241، وسائل الشيعة 5: 344 ـ 345 الباب 1 من أبواب ما يسجد عليه حديث 6.

2- الكافي 3: 332 حديث 11، وسائل الشيعة 5: 347 الباب 2 من أبواب ما يسجد عليه حديث 2.


الصفحة 25
وروى هشام بن الحكم عنه (عليه السلام): " السجود لا يجوز إلاّ على الأرض، أو على ما أنبتت الأرض، إلاّ ما اُكل أو لبس "(1).

وجه الاستدلال بها: أنّه (عليه السلام) عيّن للسجود الأرض، والتربة المشويّة أرض قطعاً، كما أنّ غير المشويّة أرض ; لوجوه:

أ: أنّ التربة يصح تقسيمها إليهما فيقال: التربة إمّا مشويّة أو غير مشويّة، وصحة التقسيم دليل الصدق ; لأنّ مورد القسمة يجب صدقه على كلّ من القسمين، واشتراكه بينهما.

ب: حسن الاستفهام عن كلّ من الأمرين، فيقال: إذا قال قائل: هذه تربة، فإنّه يحسن أن يقال: هي تربة مشويّة أو غير مشويّة؟ وحسن الاستفهام دليل الحقيقة.

ج: أنّه يتبادر إلى الفهم عند اطلاق لفظ التربة الحسيّنية المعنى الأعمّ الصادق على المشويّة وغيرها، ومبادرة المعنى إلى الفهم عند اطلاق اللفظ دليل الحقيقة.

د: أنّ المشويّة لو خرجت عن كونها تربة، لكان الحالف أن لا يمسّ تربة الحسين (عليه السلام) بنجاسة لا يحنث لو مسّ المشويّة بها، وهو باطل قطعاً. ولكان الحالف أن يأكل منها ـ في موضع الجواز ـ لا يبرأ بأكل المشويّة. ولكان(2) المسلّم إليه في التربة الحسينية لا يبرأ بتسليم المشوية، وكذا الناذر أن يعطي غيره تربة الحسين (عليه السلام)، لا يبرأ باعطاء المشويّة، وبطلانها ظاهر.

____________

1- الفقيه 1: 177 حديث 840، علل الشرائع: 341 حديث 1، التهذيب 2: 234 حديث 925، وسائل الشيعة 5: 343 الباب 1 من أبواب ما يسجد عليه حديث 1.

2- ولكان المسلم إليه في التربة الحسينيّة لا يبرأ بتسليم المشوية: لم ترد في " م " و" ش3 ".


الصفحة 26
هـ: لو حلف السيّد أن لا يضرب عبده إلاّ عند مخالفته، فأَمَرَهُ باحضار تربة الحسين (عليه السلام)، فأحضر المشويّة منها، لم يحنث بضربه ; لوجود المخالفة لو خرجت عن كونها تربة، والتالي باطل قطعاً.

وإذا ثبتَ صِدق اسم التربة عليها وجب أن يصدق عليها اسم الأرض، فيتعلّق بها حكم جواز السجود.

وما يتوهّمه الضعفاء من أنّ الخزف والآجر وإن كان في الأصل من أجزاء الأرض، لكنهما قد خرجا عنها بالطبخ ; لأنّه قد حدث عليها اسم آخر جديد، من الأوهام الفاسدة ; لأنّ مجرّد حدوث الاسم لا يقتضي المباينة في كلّ صورة، فإنّه وإن كان يقتضيا في مثل ما إذا اُحرق التراب فصار رماداً، فإنّ مفهوم كلّ من الأرض والرماد متباينان تبايناً كليّاً.

إلاّ أنّه في بعض الصور لا يقتضيها كما في الحجر، فإنّه في الأصل تراب تصلّب بواسطة الشمس، فحدث له اسم الحجر، ولم يخرج بذلك عن كونه أرضاً بالاتفاق، وإنّما هو صنف من أصنافها، غاية ما في الباب أنّه كان تراباً فخرج عن هذا الصنف من الأرض إلى صنف آخر.

وكذا الرمل وأرض النورة والجص، فيكون تغيّر الصفة والاسم ها هنا من قبيل الاختلاف بين الماهيّة وصنفها، وأصل التصادق معه موجود، فإنّ الماهيّة أعمّ من صنفها مطلقاً على ما هو معلوم.

والاختلاف الحادث للخزف والآجر من هذا القبيل، فهما صنفان من أصناف الأرض يصدق عليهما دون العكس، وسيأتي إن شاء الله تعالى لهذا الكلام مزيد تحقيق.

الخامس:

ما رواه ابن بابويه في (الفقيه) عن الصادق (عليه السلام): " السجود على طين قبر الحسين (عليه السلام) ينوّر إلى الأرض السابعة، ومَن كانت

الصفحة 27
معه سبحة مِن طين قبر الحسين (عليه السلام) كُتبَ مسبّحاً بها وان لم يسبّح بها "(1).

وما رواه الشيخ عن معاوية بن عمّار قال: كان لأبي عبدالله عليه السّلام خريطة ديباج صفراء فيها تربة أبي عبدالله (عليه السلام)، وكان إذا حضرته الصلاة صبّه على سجّادة وسجد عليه، ثم قال: " السجود على تربة أبي عبدالله (عليه السلام) يخرق الحجب السبع "(2).

وجه الاستدلال: أنّ الطين ها هنا لا يراد به المبتل قطعاً اتّفاقاً، بل الجاف، فيصدق على المشوي وغيره. وكذا التربة الواردة في الحديث الثاني ; للوجوه السابقة. فإنّ تقسيمه إليهما صحيح، فيقال: الطين الجاف إمّا مشوي أو غيره، ويحسن الاستفهام عن كلّ منهما، وكلّ من صحة التقسيم وحسن الاستفهام دليل الحقيقة.

وكذا باقي الوجوه، فإنّه حيث كان المراد بالطين هنا الجاف، لو حلف أن لا يمسّ طين قبر الحسين (عليه السلام) بنجاسة يحنث لو مسّ بها الطين الجاف المشوي، وذلك دليل الصدق.

وأيضاً فإنّ قوله (عليه السلام): " ومَن كانت معه سبحة مِن طين قبر الحسين (عليه السلام) " يدلّ على ذلك ; لأنّ " مِن " في مثل هذا التركيب يناسب أن تكون تبعيضيّة، وحيث كانت السبحة بعض الطين وإنّما تتخذ غالباً مشويّة، فيندرج في لفظ الحديث المشوي، فيكون شاملاً له باطلاقه ودالاًّ على جواز السجود عليه.

وممّا يدلّ على أنّ المراد بطين قبر الحسين (عليه السلام) التربة اليابسة ما روي عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنّه قال في طين قبر الحسين عليه السّلام " الشفاء

____________

1- الفقيه 1: 174 حديث 725، وسائل الشيعة 5: 365 ـ 366 الباب 16 من أبواب ما يسجد عليه حديث 1. وفيهما: " الأرضين السبعة ".

2- مصباح المتهجّد: 115، وسائل الشيعة 5: 366 الباب 16 من أبواب ما يسجد عليه حديث 3.


الصفحة 28
من كلّ داء، وهو الدواء الأكبر "(1) فإنّه لا يراد إلاّ التربة قطعاً.

وفي مرسلة عنه (عليه السلام): " يؤخذ طين قبر الحسين (عليه السلام)من عند القبر إلى سبعين ذراعاً "(2).

وعن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام): " لا تستغني شيعتنا عن أربع: خمرة يصلّي عليها، وخاتم يتختّم به، وسواك يستاك به، وسبحة من طين قبر أبي عبدالله (عليه السلام) فيها ثلاث وثلاثون حبّة، متى قلّبها فذكر الله كُتب له بكلّ حبّة أربعون حسنة، وإذا قلّبها ساهياً يعبث بها كُتب له عشرون حسنة "(3).

وعن محمّد بن عبدالله بن جعفر الحميري قال: كتبتُ إلى الفقيه أسأله هل يجوز أن يسبّح الرجل بطين القبر، وهل فيه فضل؟ فأجاب وقرأتُ التوقيع ومنه نسختُ: " تسبّح به، فما في شيء من التسبيح أفضل منه، ومن فضله أنّ المسبّح ينسى التسبيح ويُدير السبحة فيُكتب له ذلك التسبيح "(4).

وعن محمّد بن عبدالله المذكور قال: كتبتُ ا لى الفقيه أسأله عن طين القبر يوضع مع الميّت في قبره، هل يجوز ذلك أم لا؟ فأجاب وقرأتُ التوقيع ومنه نسختُ: " يوضع مع الميّت في قبره " الحديث(5).

____________

1- التهذيب 6: 74 حديث 142، وسائل الشيعة 14: 524 الباب 70 من أبواب المزار حديث 7.

2- التهذيب 6: 74 حديث 144، كامل الزيارات: 279، وسائل الشيعة 14: 511 الباب 67 من أبواب المزار حديث 3.

3- التهذيب 6: 75 حديث 147، وسائل الشيعة 5: 359 الباب 11 من أبواب ما يسجد عليه الحديث 3 و14: 536 الباب 75 من أبواب المزار حديث 2.

4- التهذيب 6: 75 حديث 148، وسائل الشيعة 14: 536 الباب 75 من أبواب المزار حديث 1.

5- التهذيب 6: 76 حديث 149، وسائل الشيعة 3: 29 الباب 12 من أبواب التكفين حديث 1.


الصفحة 29
وروى العلاّمة في (التذكرة) أنّ الصادق (عليه السلام) أمر بوضع شيء من تربة الحسين (عليه السلام) مع المرأة التي قذفتها الأرض مراراً بعد موتها ودفنها، ففعل ذلك فاستقرت(1).

فهذه الأخبار وما جرى مجراها تدلّ على أنّ المراد من طين قبر الحسين (عليه السلام) هو التربة الشريفة حين جفافها، وتدلّ على أنّ السبحة يقع عليها اسم التربة والطين أيضاً، فإنّ قول الراوي: هل يجوز أن يسبّح الرجل بطين القبر؟ وقوله (عليه السلام) في الجواب " تسبّح " إلى آخر الحديث، صريح في ذلك، فهو من الاستعمالات الشائعة.

وحينئذ فيكون اسم التربة واسم الطين من الاستعمالات الحاصلة في كلامهم (عليهم السلام) واقعة على التربة المشويّة، فإنّهم (عليهم السلام) قد أطلقوا ذلك على السبحة، وهي لا تكون غالباً إلاّ مشويّة، واتخاذها غير مشويّة لا يكاد يوجد إلاّ نادراً.

فتكون هذه الاستعمالات كلّها حجّة على أنّ الطين الواقع في قوله (عليه السلام): " السجود على طين قبر الحسين ينور إلى الأرض السابعة " صادق على التربة المشويّة.

وأيضاً فإنّ هذا متبادر من إطلاق اسم التربة إلى أفهام أهل العرف، فيجب الحمل عليه، فيكون الحديث حجّة ومتمسّكاً في جواز السجود على التربة المشويّة، وفي ثبوت الفضل فيها كغيرها.

فهذه الوجوه كلّ واحد منها حجّة كافية في التمسّك به، فما ظنّك بجملتها.

____________

1- تذكرة الفقهاء 2: 489.


الصفحة 30
إذا تقرّر هذا، فاعلم أنّه لا يكاد يوجد ما يتمسّك به في هذا الباب لمن توهّم عدم جواز السجود على التربة المشويّة، إلاّ تخيّل أنّها بالطبخ قد استحالت، وخرجت عن اسم الأرض ولحقت بالرماد والدخان، كالخزف والآجر، ولولا ذلك لم يحكم بطهرهما بالطبخ لو كانا نجسين.

والدليل على استحالتهما بالطبخ أن صورتهما النوعيّة قد تغيّرت، فإنّه قد حدث لهما بالطبخ تصلّب لم يكن، وحدث لهما لون مخصوص وكيفيّة لم تكن، وخرجا عن مشابهة أجزاء الأرض والطين، وحدث لهما اسم جديد.

ولأجل ذلك مَنَعَ مَنْ حكم بطهرهما بالطبخ في التيمّم عليهما ; نظراً إلى حصول الاستحالة المذكورة، ومتى تحقّق حصول الاستحالة عن كونهما أرضاً امتنع القول بجواز السجود على التربة المشويّة.

هذا نهاية ما يمكن أن يوجّه به كلام هذا المانع، وهو توجيه فاسد، وكلام رديء، لا يكاد يحفل به ويرد جوابه، والكلام عليه في مواضع:

الأوّل: قوله إنّ الخزف والآجر إذا كان طينهما نجساً يطهران.

وللأصحاب في ذلك قولان: أحدهما قول الشيخ(1) ومَن تابعه، والمشهور العدم.

وقد حكى العلاّمة في (المنتهى) عن الشيخ الاستدلال على الطهارة بما رواه الحسن بن محبوب قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الجص يوقد عليه بالعذرة وعظام الموتى، ويجصّص به المسجد، أيسجد عليه؟ فكتب إليّ بخطه: " إنّ الماء والنار قد طهّراه "(2).

____________

1- الخلاف 1: 499 مسألة 239 كتاب الصلاة.

2- منتهى المطلب 3: 288، الكافي 3: 330 حديث 3، الفقيه 1: 175 حديث 829، التهذيب 2: 235 حديث 928، وسائل الشيعة 5: 358 الباب 10 من أبواب ما يسجد عليه حديث 1.


الصفحة 31
ولا دلالة فيها على المدّعى.

أمّا أوّلاً ; فلأنّ ظاهرها أنّ المسؤول عن طهارته هو العذرة وعظام الموتى ; وذلك لأنّ صريحها السؤال عن الجص من حيث إنّه يوقد بالعذرة والعظام فيختلطان به، وهو يرجع إلى ما قلناه.

ولانتفاء ما يدلّ على أنّ الجص عرضت له النجاسة بهما أوبغيرهما.

وحينئذ نقول بالموجب، ويبقى النزاع بحاله، فإنّ العذرة والعظام إذا احترقا وصارا رماداً حصل فيهما الاستحالة المطهّرة لا محالة، وأيّ دلالة في ذلك على طهارة الخزف والآجر النجسين بالطبخ.على أنّه لو قُدّر أنّ المسؤول عنه الجص الّذي تنجّس قبل الاحتراق، يتوجّه على الحديث القول بالموجب أيضاً ; لصيرورته بالاحتراق رماداً أيضاً، وليس هو من محلّ النزاع في شيء.

وأمّا ثانياً ; فلأنّ الماء المذكور في الحديث هو ما يُحَلُّ به الجص، إذ ليس من لوازم عمل الجص خلطه بماء غير هذا، ومثل هذا الماء لا يُطهّر الجص لو كان نجساً قطعاً.

وحمله على إعداده للجفاف بالشمس بعيد متعسّف، وقد طعن فيه في (المنتهى)(1) بهذا الاشكال(2)، وتقدّمه في ذلك صاحب (المعتبر)(3).

وفي (التذكرة) علّل قول الشيخ بالطهارة بأنّ النار قد أحالت الأجزاء

____________

1- منتهى المطلب 3: 288.

2- في هامش " ش3 ": هذا نجس أحالت النار أجزاءه الرطبة، وكلّ نجس أحالته النار كذلك طهر. " منه مُدّ ظله ".

3- المعتبر 1: 452.


الصفحة 32
الرطبة(1).

وضعف هذا الاستدلال معلوم ; لورود المنع على الكبرى.

وفي (الذكرى): استدلّ الشيخ بأنّ الآجر يجري مجرى الرماد(2).

وليس في شيء من هذا الكلام تصريح بدعوى الاستحالة، ولا شبهة في أنّ ادعاءها فاسد، فإن الاستحالة ـ التي عُلم من الشارع تطهير النجس بها في مواضع ـ هي استحالة الماهيّة بحيث تصير ماهية اُخرى، وتتغيّر الصورة النوعيّة بحيث تخرج عن ذلك النوع إلى نوع آخر، ويجب لها بذلك اسم مفهوم مُباين لمفهوم الاسم الذي كان معلّقاً عليها قبل ذلك، كما في استحالة العذرة والميتة دوداً، والعلقة مضغة، والخمر خلاًّ، والعلف النجس روثاً لحيوان مأكول، والعظم النجس رماداً على ما سبق في الحديث المتقدّم، وما جرى هذا المجرى.

فإنّ الدود نوع آخر وماهيّة اُخرى غير ماهيّة العذرة والميتة، وبين هاتين الماهيّتين تباين كلّي قطعاً، وكذا الخمر والخل والعلقة والمضغة والأعيان النجسة والرماد والدخان، إلى آخر ما ذكر.

وليس مطلق التغيّر استحالة تقتضي حصول الطهارة في النجس إذا بقيت الماهيّة بحالها، كما إذا تغيّر صنف من أصناف الماهيّة فصار صنفاً آخر والماهيّة بحالها فيهما، مثل المَدَر فإنّه طين عرض له اليبوسة، فخرج عن كونه تراباً وطيناً إلى كونه مَدَراً، ولم يخرج عن كونه أرضاً، فالثلاثة أصناف للأرض التي هي الماهيّة، وثبوتها في كلّ من الثلاثة متحقّق.

وإنّما كانت الاستحالة بالمعنى الأوّل مطهّرة في جميع صور تحقّقها

____________

1- تذكرة الفقهاء 1: 74.

2- الذكرى: 15.


الصفحة 33
عند مَن قال به دون الثاني ; للنصّ، والإجماع في كثير من صورها، والاحتجاج في الجميع بأنّ(1) الحكم بالتنجيس قد علّقه الشارع بذلك الاسم الخاصّ والماهيّة الخاصّة، وقد انتفى كلّ منهما، وحدث ماهيّة اُخرى واسم آخر، فلا يبقى حكم النجاسة بعد زوال متعلّقه ; لامتناع بقاء الحكم بعد زوال محلّه.

بخلاف الاستحالة بالمعنى الثاني ; لبقاء الماهيّة بحالها وإن تغيّر الصنف إلى صنف آخر، فيجب أن يبقى الحكم بالنجاسة عملاً بالاستصحاب.

وتغيّر الطين إلى الخزف والآجر من هذا القبيل، فإنّ ماهيّة الأرض موجودة فيهما وإن تغيّرت صورة التراب والطين إلى صورة الخزف والآجر بسبب الطبخ، فلا يكون المقتضي للتطهير حاصلاً.

واعلم أنّ تغيّر التراب إلى الخزف والآجر شبيه بتغيّره في صيرورته حجراً بسبب اكتساب الرطوبة واللزوجة وتأثير الشمس فيه، كما أشرنا إليه سابقاً، ولاشكّ أنّه لم يخرج بذلك عن كونه أرضاً، لا ينكر ذلك أحد، وإنّما وقع النزاع في جواز التيمّم به بين المحقّقين من حيث الاختلاف في وقوع اسم الصعيد عليه، المأمور بالتيمّم به في الآية الشريفة(2).

ومن ثمّ لم ينازع أحد في جواز السجود عليه، ولو خرج عن كونه أرضاً لم يجزئ السجود عليه مطلقاً.

ولا يخفى أنّ الذي يمنع من السجود على الخزف والآجر يلزمه أن يمنع من السجود على الحجر بطريق أولى ; لأنّ التغيّر فيه أشد.

____________

1- الجميع بأنّ: لم ترد في " ش1 " " ش2 ".

2- الكهف: 40.


الصفحة 34
الثاني: المنع من التيمّم على الخزف والآجر، ولا نعرف قائلاً بالمنع مطلقاً إلاّ ما يحكى عن ابن الجنيد(1).

وأمّا الشيخ في (النهاية)(2)، والمفيد(3)، وابن ادريس(4) فإنّهم شرطوا في جواز التيمّم به وبالحجر عدم التراب.

وصرّح الشيخ في (المبسوط) و(الخلاف) بالجواز ; محتجاً بكون ذلك أرضاً(5)، حكاه عنه وعن المرتضى شيخنا في (الذكرى)(6) ولو كان الحكم بطهارة الآجر بالطبخ ـ لو كان نجساً ـ لاستحالته وخروجه عن كونه أرضاً، امتنع القول بجواز التيمّم به اختياراً واضطراراً، فوضح أنّه لم يخرج عن كونه أرضاً، كما لم يخرج الحجر والرمل وأرض النورة والجص، وإنّما هذه أصناف للأرض حدث لها ما أخرجها عن كونها تراباً إلى هذه الأشياء، فيبقى حكم الأرض ثابتاً لها.

وقد صرّح العلاّمة في (النهاية) في باب التيمّم بهذا التعليل(7).

نعم، في صدق اسم الصعيد عليها خلاف بين أهل اللغة، فإن في تفسيره قولان:

أحدهما: أنّه التراب الخالص(8).

____________

1- حكاه عنه العلاّمة في مختلف الشيعة 1: 260.

2- النهاية: 49.

3- المقنعة: 60.

4- السرائر 1: 137.

5- المبسوط 1: 31، الخلاف 1: 134 مسألة 77 كتاب الطهارة.

6- الذكرى: 21.

7- نهاية الإحكام 1: 198.

8- قاله ابن دُريد في جمهرة اللغة 2: 654 " صعد " وحكاه عن أبي عبيدة، والجوهري في الصحاح 2: 498 " صعد "، وفي مجمع البحرين 3: 85 " صعد ": قال الأزهري: ومذهب أكثر العلماء أنّه التراب الطاهر الذي على وجه الأرض أو خرج من باطنها.


الصفحة 35
والثاني: أنّه وجه الأرض مطلقاً(1).

فعلى الثاني يعمّها، دون الأوّل.

ويؤيد الثاني قوله تعالى: {فتصبح صعيداً زلقاً}(2)، والمراد بالزلق: الأملس الذي تزلق عليه الأقدام(3)، والأصل في الاطلاق الحقيقة.

فظهر بما قرّرناه أنّ المانع من التيمّم على الآجر، لم يمنع لأجل استحالته عن الأرض، كما وقع في الاحتجاج للمانع من السجود عليه، حيث إنّهم سوّوا بينه وبين الحجر، ولو تحقّقت الاستحالة امتنع السجود على الحجر، وهو معلوم البطلان.

ولأنّ أكثر المانعين إنّما يمنعون من التيمّم به عند وجود التراب، وقد علمت أنّه لو ثبتت الاستحالة لم يُجزئ التيمّم أصلاً كالرماد، فتبيّن بطلان هذه الدعوى في قوله: ولأجل ذلك مَنَعَ مَنْ حكم بطهرهما بالطبخ من التيمّم عليهما.

الثالث: في الكلام في قوله: إنّ مَن حكم بطهر الخزف والآجر بالطبخ ـ لو كان طينهما نجساً ـ منع من التيمّم عليهما.

ولا ريب أنّه ليس كذلك، فإنّ من المانعين من التيمّم عليهما ابن

____________

1- قاله الخليل الفراهيدي في العين 2: 988 " صعد "، وحكاه الجوهري في الصحاح 2: 498 " صعد " عن ثعلب، وحكاه الطريحي في مجمع البحرين 3: 85 " صعد " عن الزجّاج.

2- الكهف: 40.

3- الصحاح 4: 1491 " زلق ".


الصفحة 36
الجنيد(1)، ولم يُنقل عنه القول بطهرهما بالطبخ.

والشيخ وإن قال بالطهارة إلاّ أنّه في بعض كتبه شرط في جواز التيمّم بهما وبالحجر فقد التراب(2) وفي بعضها جواز التيمم بها اختياراً(3).

والعلاّمة في (نهايته) حكم بطهرهما بالطبخ، وتردّد في جواز التيمّم عليهما وعلى الحجر قبل دقّها، وجزم بالجواز معه، فسوّى بينهما وبين الحجر(4).

فظهر بما قرّرناه ـ مضافاً إلى ما سبق ـ أنّ الحكم بطهارة الخزف والآجر، والمنع من التيمّم عليهما، ليس لادعاء استحالتهما وخروجهما عن الأرض، وأنّه ليس كلّ مَن حكم بالطهارة فيهما منع من التيمّم بهما، وبالعكس.

فقد حكم في (النهاية) بالطهارة وجوّز التيمّم بما دُقّ(5)، ومنع في (المعتبر) من التيمّم وتوقّف في الطهارة(6)، وحينئذ فلا يكون للمنع من السجود عليهما وجه أصلاً، ولا للمخالفة في الجواز مجال.

ومن ثمّ لا نجد من الأصحاب مخالفاً في جواز السجود على الحجر والرمل وأرض النورة والجص والسباخ إذا لم يعلها الملح ; لأنّ أحداً لا ينكر كون هذه الأشياء أرضاً، ولا يتخيّل خروجها عن ماهيّة الأرض بما حدث لها من التغيّر المخرج لها عن كونها تراباً إلاّ متوهّم لم يُلاحظ ما

____________

1- حكاه عنه العلاّمة في مختلف الشيعة 1: 260.

2- النهاية: 49.

3- المبسوط 1: 31، الخلاف 1: 134 مسألة 77 كتاب الطهارة.

4- نهاية الإحكام 1: 198.

5- نهاية الإحكام 1: 198.

6- المعتبر 1: 375.


الصفحة 37
حقّقناه. وقد بيّنا أنّ المخالفة في جواز التيمّم عليها مستندة إلى كونها ليست تراباً، فلا يقع عليها اسم الصعيد لا إلى كونها ليست أرضاً.

ولا شكّ أنّ مخالفة الحجر ونحوه للتراب أشد من مخالفة الخزف والآجر له. فلو تخيّل مُتخيّل منع السجود عليها، لوجبَ أن يمنعَ من الحجر بطريق أولى.

على أنّا لو سلّمنا تحقّق الاستحالة في الآجر، لم يكن ذلك كافياً في المنع من السجود عليه ما لم يوجد قائل من الفقهاء بالمنع ينتفي به انعقاد الإجماع، فإنّ مجرّد وجود دليل على حكم مسألة لا يعرف به قائل لا يقتضي وجود قول آخر فيها، سواء كان الدليل قويّاً أو ضعيفاً، فكيف إذا كان دليلاً واهياً، ناشئاً عن محض التوهّم، ينادي على نفسه بالفساد.

واعلم أنّه يوجد في كلام بعض الأصحاب التصريح بحصول الاستحالة عن اسم الأرض في الخزف والآجر، وهو صاحب (المعتبر)، مع أنّه مصرّح بجواز السجود عليه، محتجّاً بأنّ السجود يجوز على ما ليس بأرض(1).

وإذا أحطت بما قدّمناه علماً، لم يلحقك ريب في أنّ الاستحالة عن اسم الأرض لم تحصل، وقطعتَ بأنّ المنع من السجود من الاُمور المقطوع ببطلانها.

فوضح بحمد الله تعالى أنّه ليس في الشرع ما يدلّ على المنع من السجود على التربة المشويّة بوجه من الوجوه، لا في النصوص ولا في الدلائل المستنبطة منها، قويّها وضعيفها، ولا في كلام أحد من الفقهاء الّذين هم أهل الحلّ والعقد، وهم المشار إليهم في هذا الفن.

____________

1- المعتبر 1: 375.


الصفحة 38
فكيف يحلّ لمن يخاف المعاد ونقاش الحساب، أن يُحدث في الدين قولاً بمجرّد الخيالات الواهية، والتوهّمات الفاسدة التي يحسبها الظمآن ماءً، وبعد أدنى تأمل لا يجدها شيئاً.

وأعجب من ذلك كلّه، أنّه بعد أن تمرّ مدّة تزيد على ثمانمائة سنة، والناس على اختلاف طبقاتهم وتفاوت درجاتهم يتناقلون التربة الحسينيّة المشوِّية ويصلّون عليها، حتى أن الصلاة عليها بينهم أظهر من كثير من الاُمور المعتبرة في الصلاة، ولا ينكر ذلك منكر، ولا يمنع منه مانع، يحدث في آخر الزمان مَن يخفى عليه الفرق بين الشيء وشبهه، ولا يميّز موضع الخلاف بين الفقهاء والوفاق، يصرّح بالمنع من ذلك وينهى عنه نهياً عاماً.

ويُظهر هذه المقالة، بحيث يسير بها الركبان، وينقلها الناس عنه في مجالس العلم وأندية الفضل، ولا يحذر من أن يكون الخطأ والمجازفة في جانبه، لا في جانب الطبقات التي مرّ عليها ما يزيد على ثمانمائة سنة. ولا يبالي بالتصرّف في الدين بمثل هذه الأراء الضعيفة والخيالات الواهية، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم.

الثاني

الكلام مع سلاّر رحمه الله في كراهيّة السجود على التربة الشريفة إذا شويت بالنار(1).

وهذا القول ضعيف، فإنّا لا نجد في الشرع ما يصلح أن يكون علّة لذلك ودليلاً عليه، إلاّ توهّم حصول الاستحالة، وقد عرفت أنه توهّم ضعيف، وتبيّن لك فساد منشئه.

والأخبار التي تلوناها في حال التربة الشريفة تتناول باطلاقها كلاًّ من

____________

1- المراسم: 66.


الصفحة 39
المشويّة وغيرها بغير تفاوت، بل ظاهر بعضها إرادة المشويّة. والحكم بالكراهيّة يحتاج إلى دليل شرعي ; لأنّها من أقسام التكليف قطعاً، فمع انتفائه يكون القول بها فاسداً ; لانتفاء مستنده شرعاً، ويكون جواز السجود ثابتاً في المشويّة وغيرها،بل هما سواء في أصل الاستحباب، لا يتميّز أحدهما عن الآخر فيه.

ومن العجب العجاب القول بجواز السجود على الرمل والحجر وأرض النورة من غير كراهيّة، بل على القرطاس، مع ما(1) في الأوّل من المخالفة لأصلها وهو التراب، وما في الأخير من مخالفة أصله من النبات، والحكم بكراهيّة السجود على التربة الشريفة الحسينيّة صلوات الله على مشرّفها إذا شويت، للمخالفة التي لا تبلغ المخالفة في الاُولى مع انتفاء النصّ على ذلك.

إنّ هذا بعيد عن التحقيق، حقيق بالاعراض عنه وعدم الالتفات إليه. والله سبحانه وتعالى أعلم بحقائق أحكامه، وله الحمد أولاً وآخراً، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله أجمعين.

فرغ من كتابتها مؤلّفها الفقير إلى الله تعالى علي بن عبد العالي، بالمشهد المقدّس الغروي على مشرّفها الصلاة والسلام، في حادي عشر شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة، وأحسن الله خاتمتها.

____________

1- في " م ": لما.