المقدّمة


الحمدُ لله ربّ العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، والصلاة والسّلام على خير مدعوٍّ ومجيب، ورسول وحبيب، علم التقى، وبدر الدجى، محمّد المصطفى (صلى الله عليه وآله)، وعلى عترته أُولي الحجى وذوي النهى، والعروة الوثقى، وسفينة النجاة، التي أمن مَن ركبها، وغرق مَن تركها، وعلى صحبهم والتابعين لهم بإحسان، الحافظين للوديعة، ومَن أحبّوا الشريعة، واللعنة الدائمة على مَن نازعهم ونصب لهم.

وبعد،

تعرّفنا في ما مضى على عدّة جوانب من حياة المحقّق الكركي: الشخصيّة، والسياسيّة، والعلميّة، وآرائه وفوائده.

ففي البحث عن حياته الشخصيّة تحدّثنا عن اسمه، ومولده وموطنه، وأُسرته، وأخلاقه وسجاياه، وآثاره ومآثره، وكراماته، ومراحل حياته المختلفة، ثمّ مدحه وإطرائه، وأخيراً وفاته ومدفنه.

وفي حياته السياسيّة تعرّضنا لعدّة مواضيع لها صلة بالكركي وعصره: كالتصوّف والصوفيّة، وموقف العلماء من الحكّام، ونشوء الدولة الصفويّة وكيفيّة تعامل العلماء معها، ثمّ تحدّثنا بشكل مفصّل عن علاقة الكركي بهذه الدولة ابتداءً من تأسيسها حتّى سنة 940 هـ، حيث عاصر الكركي حاكمين من حكّامها هما الشاه إسماعيل وابنه الشاه طهماسب.


الصفحة 2
وفي حياته العلميّة سلّطنا الضوء على بعض المجالات التي كان للكركي دور فعّال فيها، فتحدّثنا عن عصره ومعاصريه، وأساتذته وشيوخه، والروايات التي حصل عليها والتي منحها، ومؤلّفاته، والكتب التي قرأها والتي قُرئت عليه، ومكانته العلميّة، ونشاطه العلميّ، والمحاورات والردود العلميّة التي جرت بينه وبين بعض الأعلام.

ثمّ أفردنا بحثاً مستقلاًّ وكاملاً لآرائه ونظريّاته المودعة في مؤلّفاته، والتي لم يُفرد لها تصنيفاً مستقلاً، حيث أجرينا عمليّة استقصاء كامل لكافّة مؤلّفاته، واستخرجنا منها هذه الآراء والنظريّات، وهي آراؤه الكلاميّة، والأُصوليّة، والرجاليّة، وفوائده التأريخيّة، وملاحظاته عن بعض المؤلّفات، وشواهده الشعريّة، والجداول والرسوم التي استعملها.

وفي نهاية كلّ بحث أفردنا فصلاً خاصّاً بعنوان " الملاحظات "، سجّلنا فيه الملابسات التي حصلت في حياته، والاشتباهات التي وقع فيها بعض المؤلّفين عند ترجمتهم للكركي.

والآن تعال معي عزيزي القارئ لنطلّ على جانب آخر من جوانب عظمة هذا الرجل، حيث نتعرّف على بعض آرائه ونظرياته التي استطاع أن يصهرها في بودقة التأليف عبر كتبه المختلفة من حيث مواضيعها وحجمها وأسباب تأليفها.

إنّ الوقوف على مؤلّفات المحقّق الكركي، ودراستها بشكل مفصّل ودقيق، يكشف لنا ـ من جانب ـ المستوى العلمي الذي تمتّع به هذا العالم، ومن جانب آخر يُظهر لنا المنزلة الاجتماعيّة الكبيرة التي كان يحتلّها آنذاك، ليس في أوساط الناس عموماً، بل حتّى عند كبار رجال الدولة، وعلى رأسهم الشاه إسماعيل وابنه الشاه طهماسب، وقد تعرّضنا لهذه النقاط بشكل مفصّل

الصفحة 3
في ما مضى من الكتاب عند حديثنا عن حياته.

والملاحظ أنّ مؤلّفات الكركي تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأوّل:

الرسائل، والتي تتناول عادةً البحث عن موضوع معيّن، أو مسألة فقهيّة واحدة. وهذه الرسائل يختلف حجمها، فبعضها يقع في أربعين أو خمسين صفحة، والبعض الآخر يقع في عدّة صفحات.

الثاني:

الحواشي والشروح لبعض الكتب المعتمدة عندنا، كالشرائع والمختصر النافع للمحقّق الحلّي، والقواعد والإرشاد والمختلف للعلاّمة الحلّي، والألفيّة الشهيديّة.

الثالث:

جواب الأسئلة والاستفتاءات التي كانت ترد عليه من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وبمستويات مختلفة في التعبير، وقد قام بعض تلامذته وبعض العلماء القريبين من عصره بجمعها وترتيبها.

وقد استطعتُ بحمد الله تعالى وتوفيقه طيلة سنوات عديدة، أن أجمع وأُحقّق من مؤلّفات هذا العالم الجليل أربعة وخمسين مؤلّفاً، معتمداً على مائة وعشرين نسخة خطيّة موجودة في عدّة مكتبات في الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة: قم المقدّسة، مشهد المقدّسة، طهران، همدان، يزد، خوانسار، أصفهان. وقد عانيت الكثير من المصاعب في جمع هذه النسخ الخطيّة، فإنّ الحصول على نسخة خطيّة واحدة من أقرب المكتبات إلينا في مدينة قم المقدّسة لا يخلو من مصاعب جمّة، فكيف بهذا الكمّ الهائل من النسخ الخطيّة.


الصفحة 4

منهجيّة التحقيق


اعتمدت في تحقيقي لهذه المجموعة من رسائل الكركي وحواشيه على طريقة واحدة، أُلخّصها بعدّة نقاط:

(1) اتّبعت طريقة التلفيق بين النسخ الخطيّة، وذلك لعدم عثوري على نُسخ الأصل التي كتبها الكركي بيده. نعم، بعض الرسائل عثرتُ لها على نُسخ مقروءة على الكركي، إلاّ أنّي لم أكتف بها وأضفتُ لها نُسخاً أُخرى.

(2) عند حصولي على عدّة نسخ خطيّة لإحدى هذه المؤلّفات، أقوم بمقابلة بعضها مع البعض الآخر، وإثبات الصحيح أو الأصح في المتن وما قابلهما في الهامش.

وعند عدم حصولي إلاّ على نسخة واحدة، فإنّي أجعلها الأصل في عملي، وأُشير في الهامش إلى ملاحظاتنا واستظهاراتنا عليها.

(3) استخراج كلّ ما يحتاج إلى تخريج من آيات قرآنيّة كريمة، وأحاديث شريفة، وأقوال العلماء في شتى العلوم، وشواهد شعريّة، وأماكن وبقاع. وحاولت قدر المستطاع أن أعتمد على المصادر الرئيسيّة في كافة الاستخراجات، إلاّ تلك المصادر المفقودة أساساً أو التي لم أُوفّق للحصول عليها، فقد استعنتُ في الحصول على أقوالها بواسطة مصادر أُخرى ميسّرة.

(4) لم أُترجم كافة الأعلام الّذين وردت أسماؤهم، بل ترجمتُ لبعضهم حسب الضرورة التي رأيتها.

(5) عند شروعي في تحقيق الحواشي والشروح وضعتُ متن الكتاب المشروح في أعلى كلّ صفحة، ويتلوه الشرح أو الحاشية التي كتبها الكركي.


الصفحة 5
ثمّ قمتُ بحذف المتن واكتفيت بالإشارة إليه ; رعاية للاختصار، وتلبيةً لاقتراح بعض الإخوة الأفاضل من المحقّقين.

(6) رتّبتُ الرسائل حسب مواضعيها، فوضعتُ أوّلاً الرسالة النجميّة التي جمع فيها الكركي بين علمي الكلام والفقه وأدرج فيها أيسر ما يجب على المكلّفين معرفته في الأُصول والفروع، ثمّ رسالة استنباط الأحكام التي تعبّر عن المنهج العلمي للكركي، ثمّ الرسائل الفقهيّة مرتّبة بترتيب كتب الفقه ابتداءً من الطهارة وانتهاءً بالقضاء، ثمّ الرسائل المتفرّقة وجوابات المسائل الفقهيّة التي وردت عليه.

(7) نظّمتُ فهارس فنيّة كاملة، تعميماً للفائدة واتّباعاً للمنهج الحديث في التحقيق.


وآخر دعوانا أن الحمدُ لله ربّ العالمين

محمّد الحسّون


الصفحة 6


الجمعة





الصفحة 7

الصفحة 8

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين

الحمدُ لله على سوابغ نعمه الغزار، والصلاة والسّلام على نبيّه وآله الأطهار.

وبعد،

بين يديك عزيزي القارئ رسالة (الجمعة) أو (تحقيق حكم الجمعة في زمان الغيبة)، سمّاها بهذين الاسمين مصنّفها المحقّق الكركي.

وهي رسالة لطيفة، تتّصف بالعمق والشموليّة، مع سلاسة العبارة وسهولتها، تقع في ثلاثة أبواب وخاتمة. بحث فيها مؤلّفها مسألة مهمة طالما اختلف العلماء فيها، وكثر البحث والجدال حولها، ولا زال قائماً إلى يومنا هذا، وهي مسألة حكم صلاة الجمعة حال غيبة الإمام (عليه السلام)، فذكر رحمه الله قولين: الوجوب، والمنع. وأشار إلى القائلين بكلّ قول، وادلّتهم، وما اُورد على كلّ قول، وما اُجيب عنه، واختار هو القول بالوجوب التخييري بشرط وجود الفقيه الجامع للشرائط.

انتهى من تأليفها في اليوم السادس من محرم الحرام سنة إحدى وعشرين وتسعمائة هجريّة، وأورد أكثرها باختلاف في بعض الألفاظ مع الاختصار في قسم من المطالب ضمن كتابه الكبير (جامع المقاصد في شرح القواعد).

ولأهميّة هذه الرسالة ترجمها إلى الفارسيّة محمد صادق سركاني،

الصفحة 9
الذي كان حيّاً سنة 1033 هـ، كما قام بالردّ عليها الشيخ إبراهيم القطيفي، حيث ألّف رسالة في هذا الموضوع واختار القول بحرمة صلاة الجمعة في حال الغيبة مطلقاً.

ولمزيد الاطلاع على هذه الرسالة راجع ما كتبناه عنها عند حديثنا عن مؤلّفات الكركي.

اعتمدتُ في تحقيق هذه الرسالة على أربع نسخ خطيّة، هي:

أوّلاً: النسخة الخطيّة المحفوظة في المكتبة المرعشيّة العامّة في مدينة قم المقدّسة، ضمن المجموعة المرقمة 110، والمذكورة في فهرس مخطوطات المكتبة 1: 131، كتبها محمّد الحسينيّ سنة 924 هـ. وتقع هذه النسخة في إحدى عشرة ورقة بحجم 21 × 28 سم، وكلّ ورقة تحتوي على اثنين وعشرين سطراً، وقد رمزنا لها بالحرف " ش1 ".

ثانياً: النسخة الخطيّة المحفوظة في المكتبة المرعشيّة العامّة في مدينة قم المقدّسة أيضاً ضمن المجموعة المرقمة 4933، والمذكورة في فهرس مخطوطات المكتبة 13: 133 كتبها حسين بن عبدالرحيم رستمداري سنة 964 هـ. وتقع هذه النسخة في سبع أوراق بحجم 5 / 18 × 13 سم، وكلّ ورقة تحتوي على ثمانية عشر سطراً، وقد رمزنا لها بالحرف " ش2 ".

ثالثاً: النسخة الخطيّة المحفوظة في المكتبة المرعشيّة العامّة في مدينة قم المقدّسة أيضاً ضمن المجموعة المرقمة 1409، والمذكورة في فهرس مخطوطات المكتبة 4: 185، كُتبت سنة 1128 هـ. وتقع هذه النسخة في اثنتي عشرة ورقة بحجم 24 × 12 سم، وكلّ ورقة تحتوي على ثلاثة وعشرين سطراً، وقد رمزنا لها بالحرف " ش3 ".


الصفحة 10
رابعاً: النسخة الخطيّة المحفوظة في المكتبة الرضويّة في مدينة مشهد المقدّسة تحت رقم 2423، والمذكورة في فهرس مخطوطات المكتبة 2: 65، وهي مجهولة الكاتب والتأريخ. وقد ذكر مفهّرس المكتبة أنّها بخطّ المصنّف، وذكر هذا أيضاً الشيخ الطهراني في الذريعة 15: 75، وعند مقابلتها ظهرت فيها أخطاء وأسقاط ممّا يدل على أنّها ليست بخط المصنّف. تقع هذه النسخة في عشرين ورقة بحجم 3 / 19 × 29 سم، وكل ورقة تحتوي على ستة عشر سطراً، وقد رمزنا لها بالحرف " ض ".

والحمد لله ربّ العالمين


الصفحة 11


الصفحة الاُولى من النسخة المحفوظة في المكتبة المرعشيّة "ش1"

الصفحة 12

الصفحة الأخيرة من النسخة المحفوظة في المكتبة المرعشيّة "ش1"

الصفحة 13

الصفحة الاُولى من النسخة المحفوظة في المكتبة المرعشيّة "ش2"

الصفحة 14

الصفحة الأخيرة من النسخة المحفوظة في المكتبة المرعشيّة "ش2"

الصفحة 15

الصفحة الاُولى من النسخة المحفوظة في المكتبة المرعشيّة "ش3"

الصفحة 16

الصفحة الأخيرة من النسخة المحفوظة في المكتبة المرعشيّة "ش3"

الصفحة 17

الصفحة الاُولى من النسخة المحفوظة في المكتبة الرضويّة "ض"

الصفحة 18

الصفحة الأخيرة من النسخة المحفوظة في المكتبة الرضويّة "ض"

الصفحة 19

الصفحة 20
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين

بعدَ حمدِ الله على سوابغ نعمه(1) الغامرة(2)، والصلاة على حبيبه محمّد وعترته الطاهرة.

فقد طال تكرار سؤال المتردّدين إليّ عن حال شرعيّة صلاة الجمعة في هذه الأزمان، التي مُني أهلها بغيبة الإمام المعصوم عليه صلوات الله الحي القيوم، وأنّها على تقدير الشرعيّة ما الذي يُعتبر لصحتها واجزائها عن صلاة الظهر، وأظهروا عندي في مرّات(3) كثيرة أنّ الناس في ذلك كالمتحيّرين، لا يدرون ما يصنعون، ولا يعلمون أيّ طريق يسلكون.

فلمّا رأيتُ أنّ الأمر قد تفاقم، والخلف والخلاف قد تراكم، سألتُ الله الخيرة في إملاء جملة من القول لتحقيق الحقّ في هذه المسألة، على وجه أرجو من التوفيقات الإلهيّة أن ينكشف بها القناع ويزول بها اللبس، متضرّعاً إليه سبحانه أن يجعلها خالصةً لوجهه الكريم، وموجبةً لثوابه الجسيم.

وحين أجلت الرؤية في ما لابدّ منه لايضاح الصواب خطر لي أن أضعها على ثلاثة أبواب:

____________

1- سبغت النعمةُ: اتسعتْ، وأسبغ الله عليه النعمة: أي أتمّها. الصحاح 4: 1321 " سَبَغَ ".

2- الغمر: الماء الكثير، الصحاح 2: 772 " غمر ".

3- في " ش1 ": مراتب.


الصفحة 21

الباب الأوّل
في المقدّمات، وهي ثلاث

الاُولى:

اختلف علماء الاُصول في أنّ الوجوب إذا رُفع هل يبقى الجواز، أم لا؟

وتحرير محل النزاع: أنّه إذا ثبت الوجوب بدليل شرعي في محلّ، ثم رُفع بدليل آخر عن ذلك المحل، هل يبقى الجواز ثابتاً فيه، حيث إنّ الدليل الدال على الوجوب دلّ على شيئين: الوجوب، والجواز. والدليل الرافع له إنّما يرفع الوجوب خاصّة؟

بكلّ من القولين قال جمع من العلماء:

أمّا القائلون ببقاء الجواز(1) فاحتجوا بأنّ المقتضي للجواز موجود، والمانع منه منتف، فوجب القول بتحقّقه.

أمّا الأوّل: فلأن الأمر الدال على الوجوب متحقّق ; لأنّه المفروض، والوجوب ماهيّة مركّبة من الاذن في الفعل والمنع من الترك، فيكون مقتضياً لهما، ضرورة كون المقتضي للمركّب مقتضياً لكلّ جزء من أجزائه ; لامتناع تحقّق المركّب من دون تحقّق الأجزاء.

وأمّا الثاني: فلأنّ الموانع كلّها منتفية بحكم الأصل، ما عدا رفع

____________

1- ذهب إليه جمع من الاُصوليين منهم: محبّ الله بن عبد الشكور في فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت 1: 103، والقاضي البيضاوي في منهاج الاُصول المطبوع بمتن الابهاج في شرح المنهاج 1: 126. ولمزيد الاطلاع أنظر: القوانين للميرزا القمّي 1: 127.


الصفحة 22
الوجوب، وهو غير صالح للمانعيّة ; لأنّه إنّما يقتضي رفع الوجوب الذي قد علمت تركّبه من الجزءين، ورفع المركّب قد يكون برفع جميع الأجزاء، وقد يكون برفع أحدها، فهو أعمّ من كلّ منها، والعام لا يدلّ على خاص معيّن، فإذاً لا دلالة لرفع الوجوب على رفع الجواز.

قيل عليه: بعد رفع المركّب لا يُعلم بقاء الجواز ; لأنّ رفع المركّب قد يكون برفع الجزءين معاً، والمقتضي منسوخ، فلا يقطع ببقاء مقتضاه.

ورُدّ: بأنّ بقاء الجواز متحقّق ; لتحقّق مقتضيه أوّلاً، والأصل استمراره، فلا يرفع بالاحتمال، والمنسوخ إنّما هو الوجوب لا نفس الأمر المقتضي للجواز، فلا يُقطع بعدم بقائه ; للاكتفاء في رفع الوجوب برفع المنع من الترك. وعدم القطع ببقاء مقتضي الأمر غير قادح ; لأنّ المدّعى ظهور بقائه لا القطع به.

والتحقيق: أنّ الجواز المدلول عليه بالأمر الدال على الوجوب هو الجنس ـ أعني الاذن في الفعل ـ لا الجواز الذي معناه استواء الطرفين، وذلك أمر كلّي لا تحقّق له إلاّ في ضمن فرد من أفراده الأربعة، أعني: الوجوب، والندب، والكراهة، والإباحة. وبعد رفع الوجوب يمتنع بقاء الجواز المدلول عليه بالأمر تضمّناً ; لامتناع تحقّق الكلّي لا في ضمن فرد من أفراده.

والجواز الذي معناه استواء الطرفين لم يدلّ عليه دليل أصلاً، إذ لا يلزم من ثبوت الوجوب ثبوته، كما لا يلزم من رفعه رفعه ولا ثبوته، فينتفي بحكم الأصل، وحينئذ فيقطع بانتفاء ذلك الجواز.

إذا عرفتَ ذلك فقوله في الجواب: (بقاء الجواز متحقّق ; لتحقّق مقتضيه)، إن أراد به الجواز الذي هو الأمر الكلّي، فهو فاسد ; لأنّ بقاءه

الصفحة 23
بعد انتفاء الوجوب مُمتنع، لأنّ تحقّقه إنّما كان ضمناً، وذلك لا يقتضي بقاءه بعد انتفاء الجزء الآخر، بل انتفاء ذلك الجزء يقتضي انتفاءه إن لم يدلّ دليل على تقييده بجزء آخر، والفرض أن لا دليل يدلّ على ذلك أصلاً.

وإن أرادالجواز بالمعنى الآخر، فظاهر بطلانه.

وأمّا القائلون بعدم بقاء الجواز(1) فاحتجوا بأنّ الجواز الذي هو جزء من مفهوم الوجوب هو الجواز بالمعنى الأعم كما عرفت ; لامتناع ذلك في الأخص، وتقوّمه بالفصل الذي هو المنع من الترك، فإذا ارتفع ارتفع ; لاستحالة بقائه منفكاً عن فصل.

قيل عليه: نمنع استلزام ارتفاع هذا الفصل ارتفاع الجنس لتقوّمه بفصل عدم المنع من الترك ; لأنّ ارتفاع المنع من الترك ـ الذي هو فصل الوجوب ـ يقتضي ثبوت عدم المنع منه، فيقوم به الجنس ; لاحتياجه إلى فصل ما، لا إلى فصل معيّن.

وجوابه: أنّ ارتفاع المنع من الترك قد يكون برفع كلّ من الجزءين، وقد يكون برفع الحرج بالترك خاصّة. فارتفاعه اعمّ من كلّ منهما، ولا دلالة للعام على الخاص، فلم يتحقّق فصل عدم الحرج بالترك، وحكم الأصل يقتضي نفيه، فينتفي الجواز،، وهذا هو الحقّ.

____________

1- منهم: الشيخ حسن بن زين الدين الشهيد الثاني في معالم العلماء وملاذ المجتهدين: 90، وأبو حامد محمّد بن محمّد الغزالي في المستصفى من علم الاُصول 1: 73، ومحمّد بن نظام الدين محمّد الأنصاري في فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت 1: 103، والعلاّمة الحلّي في نهاية الاُصول (مخطوط) البحث الرابع أحكام الوجوب ورقة 91، وعلي بن عبد الكافي السبكي في الإبهاج في شرح المنهاج 1: 126، ولمزيد الاطلاع أنظر: القوانين للميرزا القمّي 1: 127.


الصفحة 24

المقدّمة الثانية:

اتفق أصحابنا رضوان الله عليهم على أنّ الفقيه العدل الإمامي الجامع لشرائط الفتوى، المعبّر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعية، نائب من قبل أئمة الهدى صلوات الله وسلامه عليهم في حال الغَيبة، في جميع ما للنيابة فيه مدخل، وربّما استثنى الأصحابُ القتلَ والحدود مطلقاً.

فيجب التحاكم إليه، والانقياد إلى حكمه، وله أن يبيع مال الممتنع من أداء الحقّ إن احتيج إليه، ويلي أموال الغيّاب والأطفال والسُفهاء والمفلسين، ويتصرّف على المحجور عليهم، إلى آخر ما يثبت للحاكم المنصوب من قبل الإمام (عليه السلام).

والأصل فيه ما رواه الشيخ في (التهذيب) باسناد إلى عمر بن حنظلة، عن مولانا الصادق جعفر بن محمّد عليهما السلام أنّه قال: " أنظروا إلى مَن كان منكم قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فارضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً. فإذا حكم بحكمنا ولم يقبله منه، فإنّما بحكم الله استخفّ، وعلينا ردّ والرادّ علينا الرادّ على الله، وهو على حدّ الشرك بالله، وإذا اختلفا فالحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما "(1).

وفي معناه أحاديث كثيرة(2).

____________

1- التهذيب 6: 218 حديث 514 و301 حديث 845. ورواه الشيخ الكليني في الكافي 1: 54 حديث 10 و7: 412 حديث 5، والطبرسي في الاحتجاج: 355.

2- انظر وسائل الشيعة 27: 136 ـ 153 الباب 11 من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به.


الصفحة 25
وقد استخرج الأصحاب الأوصاف المعتبرة في الفقيه المجتهد من هذا الحديث ونحوه، وضبطوها في ثلاثة عشر شيئاً، سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى في آخر الرسالة(1).

والمقصود من هذا الحديث هنا: أنّ الفقيه الموصوف بالأوصاف المعيّنة، منصوب من قبل أئمتنا (عليهم السلام)، نائب عنهم في جميع ما للنيابة فيه مدخل بمقتضى قوله: " فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً "، وهذه استنابة على وجه كلّي.

ولا يقدح كون ذلك في زمن الصادق (عليه السلام) ; لأنّ حكمهم وأمرهم (عليهم السلام)واحد، كما دلّت عليه أخبار اُخرى(2).

ولا كون الخطاب لأهل ذلك العصر ; لأنّ حكم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)والإمام (عليه السلام) على الواحد حكم على الجماعة بغير تفاوت، كما ورد في حديث آخر(3).

____________

1- في " ض ": ومَن أراد معرفتها فليرجع إلى مضانّها من كتب الأصحاب.

2- الكافي 1: 41 حديث 4، وسائل الشيعة 27: 80 حديث 11 الباب 8 من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به.

3- قول النبي (ص): " حكمي على الواحد حكمي على الجماعة " ورد في موسوعة أطراف الحديث 4: 551 نقلاً عن الأسرار المرفوعة لعلي القارئ: 188، وتذكرة الموضوعات للفتني: 186، وكشف الخفاء للعجلوني 1: 436، والدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة للسيوطي: 75، والفوائد المجموعة للشوكاني: 200.

وفي عوالي اللآلي 1: 456 حديث 197 و2: 98 حديث 270 ورد قول النبيّ(صلى الله عليه وآله) هكذا: " حكمي على الواحد حكمي على الجوامع ".

وروى الترمذي في سننه 4: 151 حديث 1597 كتاب السير " 22 " باب ما جاء في بيعة النساء " 37 " قول النبيّ (ص): " إنّما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة ". وأخرجه كذلك الدار قطني في سننه 4: 147 حديث 16 كتاب المكاتب، والشوكاني في نيل الأوطار 1: 30.