الصفحة 40
فإن قيل: جاز أن يكون المراد بالوجوب المشروط بالإمام هو العينيّ، فإذا انتفى لانتفاء الشرط لم يلزم انتفاء الوجوب التخييريّ.

قلنا: لا يلزم انتفاؤه إذا ثبت، إلاّ أنّه لا مثبت له حينئذ ; لأنّ الوجوب العينيّ إذا جعلت دلائل وجوب الجمعة من الآية والحديث مقصورة عليه، لم يكن على ما سواه دليل.

فإن قيل: يمكن أن يراد بالآية والحديث الوجوب العينيّ في حال ظهور الإمام، والتخييريّ في حال غَيبته(1).

قلنا: يمتنع فهم ذلك من اللفظ ويقبح ارادته منه، ومع ذلك فمجرّد امكان ارادته عقلاً لا يقتضي ارادته.

وأقصى ما يقال في تفسير الآية: إنّ الأمر إمّا أن يكون للوجوب العينيّ، أو الوجوب في الجملة أعمّ منه ومن التخييريّ. ولمّا دلّ الإجماع على نفي العينيّ زمان الغَيبة، امتنع حمل الآية عليه، وتعيّن الحمل على الوجوب في الجملة.

وأيضاً فإنّ بناء القول بالمنع من الجمعة حال الغَيبة على كون الإذن مطلقاً ـ وإن لم يكن على وجه خاص ـ شرط الصحة لا يستقيم ; لأنّ هذا البناء يقتضي الجواز حال الغَيبة، وقد عرفتَ أنّ الفقيه المأمون الجامع للشرائط مأذون له بوجه كلّي، وكيف يبنى الشيء على ما ينافيه؟! هذا إذا اُريد المعنى الأوّل.

وإن اُريد الثاني ـ أعني الإذن الخاص ـ صح البناء ; لأنّه إذا ثبت

____________

1- في " ش3 ": الغَيبة.


الصفحة 41
كونه شرطاً للصحة، لزم نفيها حال الغَيبة لا محالة وإن كان شرط الوجوب لا يلزم نفيها حالتئذ، لأنّ الوجوب المشروط بالاذن الخاص إنّما هو العينيّ اتفاقاً، وشرط الصحة في تلك الحالة ـ وهو الاذن في الجملة ـ متحقّق.

والظاهر أنّ هذا هو المراد، بل كاد يكون قطعيّاً ; لأنّ بناء الشيء على ما يُنافية في كلام شيخنا الشهيد ـ مع كمال تحقّقه ودقة نظره ـ من أبعد الأشياء.

وإنّما أوردنا الكلام كما ترى ; ليتّضح أنّ المراد ما ذكرناه، وما ذكره المقداد(1) رحمه الله من البناء غير مستقيم ; لأنّ حضور الإمام (عليه السلام) إذا اُريد به ظهوره توسّعاً، وتجوّزاً إذا اُريد حضوره أو حضور نائبه الخاص اكتفاءً لوضوحه، واُريد بالوجوب المشروط على الشقّ الثاني الوجوب الحتمي، لم يخرج عن كلام الشهيد، إلاّ أنّ قوله: (وهو أولى ; لأنّ الفقيه... إلى آخره)(2) خال من الربط، إذ لا يلزم من نفوذ الأحكام الفقهيّة إلى آخره كون الأولى اشتراط الوجوب بحضور الإمام (عليه السلام) دون صحّة الجمعة.

ولو قيل في البناء: شرط الجمعة إمّا إذن الإمام (عليه السلام) على وجه خاص، أو مطلقاً. فعلى الأوّل يتخرّج المنع، وعلى الثاني الجواز، وكما دلّ الدليل على اعتبار الإذن في الجملة حيث يتعذّر الاذن الخاص، كان الأصح من القولين الجواز، فكان أجود.

وإنّما قلنا ذلك ; لأنّ اشتراط الجمعة بالإمام أو نائبه اجماعيّ كما عرفتَ، ومع ظهوره (عليه السلام) وتمكّنه لابدّ من الاستنابة صريحاً بالإجماع.

____________

1 و 2- التنقيح الرائع لمختصر الشرائع 1: 231.


الصفحة 42

تنبيه:

قد علم ممّا قدّمناه أنّه ليس المراد بجواز الجمعة حال الغيبة أو استحبابها ايقاعها كذلك ; لامتناعه من وجوه، فإنّ الاباحة لا تنتظم مع العبادة، وارادتها مع ذلك إرادة الاستحباب باطل ; لعدم دليل يدلّ على واحد منهما، والبدليّة على كلا(1) التقديرين متعذّرة، والجمع بين الجمعة والظهر استقلال غير مشروع اتّفاقاً، فلم يبق إلاّ إرادة الجواز بمعنى السائغ، وهو جنس للوجوب كما عرفت، أو الاستحباب العينيّ فإنّه يجامع الوجوب التخييريّ كما سبق.

إذا عرفت ذلك فقد قال شيخنا في (الذكرى) في تحقيق ما يراد بالاستحباب هنا: فالاستحباب إنّما هو في الاجتماع، أو بمعنى أنّه أفضل الأمرين الواجبين على التخيير(2). هذا كلامه، والمعنى الثاني هو الصواب، فإنّ استحباب الاجتماع مع وجوب الفعل ليس بجيد.

الباب الثالث

في أنّ الجمعة لا تُشرع حال الغَيبة إلاّ مع حضور الفقيه الجامع للشرائط، وكونه إماماً.

قد علم ممّا مضى أنّ إجماع الإماميّة في كلّ عصر على اشتراط الجمعة بالإمام أو نائبه واقع، وأشرنا إلى أنّ كبراء الأصحاب قد نقلوا ذلك

____________

1- في نسخه " ض ": أحد.

2- الذكرى: 231.


الصفحة 43
صريحاً(1).

فممنّ نقله المحقّق نجم الدين بن سعيد في (المعتبر)، قال في بيان سياق شروط الجمعة ـ وقد عدّ منها السلطان العادل أو نائبه ـ: وهو قول علمائنا(2).

ومن الناقلين له العلاّمة في كتبه، قال في (التذكرة): مسألة: يشترط في وجوب الجمعة السلطان أو نائبه عند علمائنا أجمع(3).

ثم قال: مسألة: أجمع علماؤنا كافّة على اشتراط عدالة السلطان، وهو الإمام المعصوم أو مَن يأمره بذلك(4).

ومنهم شيخنا المدقّق الشهيد، قال في (الذكرى): وشروطها ـ يعني الجمعة ـ: السلطان وهو الإمام المعصوم أو نائبه اجماعاً منّا(5).

والتصريح بذلك في باقي عبارات الأصحاب أمر ظاهر لا حاجة إلى التطويل بنقل جميعها، وأنت تعلم أنّ ثبوت الإجماع يكفي فيه شهادة الواحد، فما ظّنك بهؤلاء الأثبات(6).

وحينئذ نقول: إذا ثبت كون الإجماع واقعاً على اشتراط الإمام أو نائبه في وجوب الجمعة، امتنع وجوبها بدون الشرط، فإذا أمكن النائب الخاص تعيّن ; لأنّ النيابة على الوجه الخاص مقدّمة على النيابة العامّة، وإنّما يُصار إلى الثانية مع تعذّر الاُولى. ولا ريب أنّ مشروعيّة الجمعة حال الغَيبة إنّما

____________

1- تقدّم في الصفحة: 19.

2- المعتبر 2: 279.

3- تذكرة الفقهاء 4: 19 مسألة 381.

4- تذكرة الفقهاء 4: 20 مسألة 382.

5- الذكرى: 230.

6- في " ش3 ": الثقات.


الصفحة 44
هو بطريق الوجوب تخيّراً، كما عرفته غير مرّة، فيتناوله الاشتراط المذكور.

فإن قيل: لمَ لا يجوز أن يكون المراد كون المشروط بالإمام أو نائبه هو وجوبها عيناً حتماً، بل هو المتبادر إلى الأفهام من معنى الوجوب؟

قلنا: الوجوب مفهوم كلّي يصدق على الحتميّ والتخييريّ، والمضيّق والموسّع، والعيّني والكفائيّ. وكلّ مَن عرف اصطلاح الفقهاء والاُصوليين علمَ ذلك قطعاً على وجه لا يرتاب فيه.

ويؤيده أنّه يقَبل القسمة إلى الأقسام كلّها، ومورد القسمة يجب اشتراكه بين الأقسام. فإذا علّق حكم بالوجوب وجبت أجزاؤه على الماهيّة الكليّة، أعني مفهوم الوجوب المضاف إلى الجمعة مطلقاً، ولا يجوز حمله على بعض الأفراد دون بعض إلاّ بدليل يدلّ عليه، وبدون ذلك يمتنع شرعاً.

فمن عمد إلى ما نقله الأصحاب من الإجماع الذي حكيناه وحمله على فرد مخصوص من أفراد الوجوب ـ والحال ما قدّمناه ـ كان كمن حمل قوله (عليه السلام): " مفتاح الصلاة الطهور "(1) على الصلاة الواجبة أو اليوميّة مثلاً ; لأنّها أشيع وأكثر دوراناً على لسان أهل الشرع، وكفاه بذلك عاراً وافتراء.

ويزيد ذلك بياناً أنّ أجلّة الأصحاب صرّحوا في كتبهم بكون الفقيه الجامع للشرائط معتبراً حال الغَيبة، وهم الذين نقلوا إلينا الإجماع في هذه المسألة وغيرها، ومعتمدنا في الأدلّة النقليّة إنّما هو نقلهم، ولا ريب أنّهم

____________

1- سنن أبي داود 1: 16 حديث 61 باب فرض الوضوء، سنن الترمذي 1: 8 حديث 3 باب ما جاء أنّ مفتاح الصلاة الطهور، سنن ابن ماجة 1: 101 حديث 275 ـ 276 باب مفتاح الصلاة الطهور، سنن الدارمي 1: 175 باب مفتاح الصلاة الطهور، مسند أحمد بن حنبل 1: 129.


الصفحة 45
أعرف بموقع الإجماع وأعلم بما نقلوه، فلو كان الإجماع واقعاً على خلاف المدّعى لكانوا أحقّ بمتابعته وأبعد عن مخالفته.

ويُحقّق ما قلناه ما ذكره علم المتقدّمين وعلاّمة المتأخرين في (المختلف) لمّا ذكر احتجاج المخالف بوجهين، أحدهما: أنّ من شرط انعقاد الجمعة الإمام أو مَن نصّبه، وبانتفاء الشرط ينتفي المشروط قطعاً إلى آخر احتجاجهم، قال:

والجواب عن الأوّل بمنع الإجماع على خلاف صورة النزاع، وأيضاً فإنّا نقول بموجبه ; لأنّ الفقيه المأمون منصوب من قبل الإمام، ولهذا تمضي أحكامه، وتجب مساعدته على إقامة الحدود والقضاء بين الناس(1).

هذا كلامه، وحاصله: أنّه أجاب عن دليل الخصم ـ أنّ الاشتراط المذكور ثابت إجماعاً، وهو يقتضي عدم المشروعيّة في الغَيبة ـ بجوابين:

أحدهما: إنّا نمنع ثبوت الإجماع على عدم مشروعيّة الجمعة حال الغَيبة، وقد بيّنا الدليل الدال على المشروعيّة حينئذ، فيجب العمل به ; لعدم المنافي، والاشتراط المذكور إن أدعّي على وجه ينافي فعلها حال الغَيبة منعناه، وإلاّ لم يضرّنا.

الثاني: القول بالموجَب، وهو بفتح الجيم، معناه: تسليم الدليل مع بقاء النزاع، وحاصله: الاعتراف بصحة الدليل على وجه لا يلزم منه تسليم المتنازع فيه.

وتقريره: أنّ اشتراط الجمعة بالإمام أو مَن نصّبه حقّ، ولا يلزم عدم صحتها حال الغَيبة ; لأنّ الشرط حينئذ حاصل، فإنّ الفقيه المأمون منصوب

____________

1- مختلف الشيعة 2: 252 ـ 253 مسألة 147.


الصفحة 46
من قبل الإمام، ولهذا تمضي أحكامه، ويقيم الحدود، ويقضي بين الناس، وهذه الأحكام مشروطة بالإمام أو مَن نصّبه قطعاً بغير خلاف، فلولا أنّ الفقيه المذكور منصوب من قبل الإمام لجميع المناصب الشرعيّة لما صحّت منه الأحكام المذكورة قطعاً، وقد علمتَ بجميع ذلك في المقدّمة الثانية(1).

والمراد بالفقيه: هو الجامع لشرائط الفتوى، المعبّر عنه بالمجتهد، عبارة يتوهّم سامعها لقلّة لفظها سهولة معناها، وإنّما أوقعه في هذا الغلط شدّة الانحطاط عن مرتبتها(2)، وسنذكر تلك الشرائط عما قريب إن شاء الله تعالى(3).

ولا ريب أنّ مَن تأمّل هذا الكلام وفهم معناه، علم من سوقه أنّ اشتراط الجمعة حال الغَيبة بالمجتهد أمر محقّق مفروغ منه، كاشتراطها بالإمام أو منصوبه الخاص حال ظهوره، على وجه لا يتخالج خواطر ذوي الألباب فيه الشكّ.

وقريب ممّا ذكره في (المختلف) كلام شيخنا في (شرح الارشاد)، فإنّه قال في حكاية دليل المخالف على عدم المشروعيّة: لأنّ الشرط الإمام أو نائبه، والمشروط عدم عند عدم الشرط.

أمّا الصغرى ; فلرواية محمّد بن مسلّم عن أبي جعفر (عليه السلام): " تجب الجمعة على سبعة نفر، ولا تجب على أقلّ منهم: الإمام، وقاضيه "(4).

____________

1- في الصفحة: 17.

2- في " ش1 ": مرتقاها.

3- في الصفحة: 48.

4- الفقيه 1: 267 حديث 1222، التهذيب 3: 20 حديث 75، الاستبصار 1: 418 حديث 1607، وسائل الشيعة 7: 305 الباب 2 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها حديث 9.


الصفحة 47
ثمّ ساق الحديث إلى آخره وقال: وأمّا الكبرى فلما تقرّر في الاُصول، ويشكل بأنّه نفي الوجوب، ولا يلزم منه نفي الجواز المتنازع، ثم نقول: الفقيه منصوب من قبل الإمام ; لوجوب الترافع إليه(1). هذا كلامه.

أمّا الاشكال الذي أبداه فغير متّجه ; لأنّ نفي الوجوب وإن لم يستلزم نفي الجواز بنفسه، إلاّ أنّه يلزم بوجه آخر وهو انتفاء مثبته.

نعم، جوابه الثاني ـ أعني القول بالموجب ـ صحيح في موضعه، فإنّ الشرط حاصل ; لأنّ الشرط هو الإمام أو منصوبه اتفاقاً.

وبمعنى ما في (المختلف) أجاب المقداد في (شرح النافع)(2)، وكذا ابن فهد في شرحه له(3).

فأمّا المقداد فقال في مبنى الخلاف: إنّ حضور الإمام هل هو شرط في ماهيّة الجمعة ومشروعيتها، أم في وجوبها؟ فابن ادريس على الأوّل(4)، وباقي الأصحاب على الثاني، وهو أولى ; لأنّ الفقيه المأمون كما تنفذ أحكامه حال الغَيبة كذا يجوز الاقتداء به في الجمعة(5).

هذا كلامه، وقد عرفتَ ما فيه سابقاً، لكن الغرض منه هنا بيان تصريحه باشتراط الفقيه المأمون في الجمعة، ومن سياق عبارته يعلم أنّ اشتراط الفقيه أمر محقّق لا شكّ فيه.

وأمّا ابن فهد فإنّ عبارته في (شرح النافع) هي عبارة (المختلف) بعينها من غير زيادة ولا نقصان(6)، وقد حكينا عبارة (المختلف) فلا حاجة

____________

1- غاية المراد 1: 163 ـ 164.

2- التنقيح الرائع لمختصر الشرائع 1: 231.

3- المهذّب البارع في شرح مختصر النافع 1: 414.

4- السرائر 1: 290.

5- التنقيح الرائع لمختصر الشرائع 1: 231.

6- مختلف الشيعة 2: 252، المهذّب البارع في شرح مختصر النافع 1: 414.


الصفحة 48
إلى التكرار بغير فائدة، فهذه العبارة المذكورة مصرّحة بالاشتراط.

وممّا هو في حكم الصريح عبارة (التذكرة) فإنّه قال فيها: مسألة: وهل للفقهاء المؤمنين حال الغيبة والتمكّن من الاجتماع والخطبتين صلاة الجمعة؟ أطبق علماؤنا على عدم الوجوب ; لانتفاء الشرط، وهو ظهور الإذن من الإمام (عليه السلام)، واختلفوا في استحباب إقامة الجمعة، فالمشهور ذلك(1).

هذا كلامه، ومراده بعدم الوجوب هو الحتميّ ; لأنّ الاستحباب لا يُراد به إيقاع الجمعة مستحبة، كما عرفته، فلابدّ من حمل الوجوب المنفي على ما ذكرناه.

وقوله: (لانتفاء الشرط، وهو ظهور الإذن من الإمام (عليه السلام)) مراده به الإذن الخاص ; لأنّ الفقيه مأذون له على وجه العموم، وهو قد فرض المسألة من أوّلها في أنّه هل للفقهاء فعلها، أم لا؟ فلو لم يرد بالإذن ما قلناه لتدافع كلامه.

ومراده بالفقهاء: أنّ كلّ واحد منهم هل له أن يجمع بجماعة استقلالاً، أم لا؟ كما هو ظاهر.

ومَن نظر إلى تصويره المسألة بعين التحقيق علم أنّ اعتبار الفقيه في الجمعة ليس موضع كلام، إنّما الكلام في أنّها هل تشرع معه، أم لا؟

وقريب من هذه العبارة عبارة شيخنا في (الدروس) فإنّه قال فيها: تجب صلاة الجمعة ركعتين بدلاً من الظهر بشرط الإمام أو نائبه، وفي الغَيبة تجمع الفقهاء مع الأمن، وتجزىء عن الظهر على الأصح(2).

____________

1- تذكرة الفقهاء 4: 27 مسألة 389.

2- الدروس 1: 186.


الصفحة 49
إذا عرفتَ ذلك، فاعلم أنّه لو كان اشتراط الجمعة بالفقيه حال الغَيبة موضع خلاف الأصحاب ـ مع ما تلوناه من الدلائل، وما حكيناه من عبارات كبراء الأصحاب المصرّحة بالاشتراط ـ لكان اللازم بحكم الدليل الانقياد إلى ما قالوه والمصير إلى ما نقلوه، فكيف ولا نعلم أنّ أحداً من العلماء الإماميّة في عصر من الأعصار صرّح بكون الجمعة في حال الغَيبة واجبة حتماً مطلقاً أو تخييراً بدون حضور الفقيه.

فالإجتراء(1) على المخالفة في واحد من الأمرين عنوان الجُرأة على الله سبحانه، وعدم التحرّج من القول عليه، وآية الجهل الصرف في سلوك مناهج الشريعة المصطفويّة المطهرّة، أعاذنا الله من ذلك بمنّه وكرمه.

وقديماً آنست من بعض الفضلاء أنّ عبارة (الذكرى) تدلّ على أنّ الفقيه المذكور ليس شرطاً لمشروعيّة الجمعة حال الغَيبة، فرددّت ذلك وأعلمته أنّه خلاف الإجماع، والعبارة لا تقتضي ما ذكره، ونحن نذكر العبارة ونحقّق ما فيها بعون الله تعالى:

قال في سياق شروط النائب: التاسع: إذن الإمام له، كما كان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)يأذن لأئمة الجمعات، وأمير المؤمنين (عليه السلام) بعده، وعليه اطباق الإماميّة، هذا مع حضور الإمام (عليه السلام).

وأمّا مع غَيبته كهذا الزمان ففي انعقادها قولان، أصحهما ـ وبه قال معظم الأصحاب ـ الجواز إذا أمكن الاجتماع والخطبتان، ويعلّل بأمرين:

أحدهما: أنّ الإذن حاصل من الأئمة الماضين، فهو كالإذن من إمام الوقت. وساق الكلام إلى أن قال: ولأنّ الفقهاء حال الغَيبة يباشرون ما هو أعظم من ذلك بالإذن، كالحكم والافتاء، فهذا أولى.

____________

1- في هامش " ش3 ": فالاصرار (خ ل).


الصفحة 50
والثاني: أنّ الاذن إنّما يُعتبر مع إمكانه، أمّا مع عدمه فيسقط اعتباره، ويبقى عموم القرآن والأخبار خالياً عن المعارض.

ثمّ أورد صحيحتي عمر بن يزيد(1) ومنصور(2) السالفتين، واحتج باطلاقهما واطلاق غيرهما من الأخبار، ثم قال: والتعليلان حسنان، والاعتماد على الثاني(3).

هذا آخر كلامه، والمقتضي لحصول الوهم فيه ثلاثة أشياء:

الأوّل: أنّه جعل بناء التعليل الثاني على سقوط اعتبار إذن الإمام في الجمعة حيث لا يمكن، وجعل الإعتماد على هذا التعليل، وإذا سقط اعتباره لم يحتج إلى وجود الفقيه المأمون ; لأنّ الباعث على اعتباره وجوده هو كون الإذن من الإمام شرطاً للصلاة.

الثاني: أنّه اعتبر في أحد التعليلين ضرورة الجمعة عند الفقهاء حال الغَيبة، ولم يعتبره في الثاني، فلولا أنّ المراد عدم اعتبار الفقيه لمشروعيّته لكان التعليلان شيئاً واحداً لا شيئين.

الثالث: أنّه احتج بعموم القرآن ـ يعني اطلاقه واطلاق الأخبار ـ وذلك يقتضي عدم الاشتراط المذكور ; لمنافاة الاطلاق الاشتراط.

ولا يخفى على ذوي الطباع السليمة ضعف هذه الخيالات، وفساد هذه الأوهام:

أمّا الأوّل ; فلأنّ المراد بالإذن الذي بنى التعليل الثاني على سقوط اعتباره مع عدم امكانه: هو الإذن الخاص دون الاذن مطلقاً، ولا يلزم من

____________

1- تقدّمت مصادرها في الصفحة 24.

2- تقدّمت مصادرها في الصحفة: 25.

3- الذكرى: 231.


الصفحة 51
سقوط اعتبار الاذن الخاص سقوط اعتبار الاذن مطلقاً.

ويدل على أنّ المراد الاذن الخاص ما سبق من كلامه قبل هذا، وما ذكره بعد:

فأمّا ما سبق فقوله: إنّ اشتراط الجمعة بالإمام أو نائبه اجماعي(1)، وحينئذ فلا يعقل سقوط الإذن مطلقاً ; لمنافاة الاجماع له.

وقوله: ويعلل بأمرين: أحدهما: أنّ الاذن حاصل من الأئمة الماضين، فهو كالإذن من إمام الوقت(2).

فإن مقتضاه أنّ الاذن من الأئمة الماضين قائم مقام الاذن من إمام العصر، حيث إنّه مُعتبر وشرط، فإذا قوبل الثاني بهذا التعليل، وبني على عدم اعتبار الاذن، تبادر إلى الفهم بغير شك الإذن الخاص.

وأمّا ما ذكره بعده فقوله عندما حكى قول المانعين من الجمعة في حال الغَيبة: وهو القول الثاني من القولين، بناءً على أنّ إذن الإمام شرط الصحة، وهو مفقود(3).

فإنّ المراد بالاذن هو الإذن الخاص، كما حقّقناه فيما مضى. وإذا جعل بناء قول المانعين على كون الإذن شرطاً، فالمناسب أن يبني قول المجوّزين على أنّ ذلك الإذن غير شرط، ولو سلّم فيكفي لعدم تحقّق المخالفة احتمال ارادته.

فإن قيل: ما ذكرتم من أنّ سقوط اعتبار الاذن الخاص لا يستلزم سقوط اعتبار الاذن مطلقاً حقّ، لكن كما لا يستلزم سقوطه مطلقاً لا يستلزم

____________

1- الذكرى: 230.

2- الذكرى: 231 سطر 20.

3- الذكرى: 231 سطر 11 ـ 12.


الصفحة 52
ثبوته في الجملة، فمن أين يستفاد اشتراط الفقيه في محلّ النزاع؟

قلنا: قد علم أنّه أسلف في أوّل كلامه أنّ اشتراط وجوب الجمعة بالإمام أو نائبه اجماعي، فيلزم منه اشتراط الفقيه في الغَيبة ; لِما ثبت من كونه نائباً.

فإن قيل: فما الذي يكون حاصل التعليل الثاني حينئذ؟

قلنا: حاصله أنّ إذن الإمام الذي ادّعى المانع كونه شرطاً للجمعة إنّما نقول بشرطيّته حال الامكان لا مطلقاً، إذ لا دليل يدلّ على الاطلاق، فإذا تعذّر سقط وبقي وجوب الاذن في الجملة مستفاداً من الإجماع.

فإن قيل: فما الفرق بين التعليلين حينئذ؟

قلنا: الفرق بينهما أنّ التعليل الأوّل فيه اعتراف باشتراط إذن الإمام مطلقاً على كلّ حال، وفي حال الغَيبة يكتفى عنه بما يقوم مقامه، وهو الاذن في الجملة. والتعليل الثاني حاصله نفي اشتراط إذن الإمام مع عدم الامكان، فاشتراط الفقيه إن لم يكن لازماً عن هذا، لكنه يثبت بمقتضى الإجماع السابق.

وكيف قُدّر فلا يلزم أن يكون ما في (الذكرى) خلافاً لما عليه الأصحاب لأمرين:

أحدهما: أنّه قد اضطرب رأيه في الفتوى، حيث إنّه عند حكاية قول المانعين قال: وهذا القول متجه... إلى آخره(1)، وظاهره رجحان هذا القول.

الثاني: أنّ عبارة (الدروس)(2) على خلاف ذلك، وهي بعد

____________

1- الذكرى: 231.

2- الدروس 1: 186.


الصفحة 53
(الذكرى)، وسمعنا كثيراً من بعض أشياخنا رحمهم الله: إنّه رحمه الله كان يقول: خذوا عني ما في (الدروس)، فلا مجال لمتعنّت أن يجعل ذلك قولاً يخالف ما عليه الأصحاب.

وبما ذكرناه من البيان اتّضح بطلان الوهم الثاني أيضاً.

وأمّا الثالث ; فلأنّ عموم القرآن والأخبار إنّما يُريد به في مقابل ما يدّعيه الخصم من اشتراط الجمعة بالإذن الخاص في زمان الغَيبة، فهو عموم إضافي ; لامتناع إرادة العموم مطلقاً، للاتفاق على اشتراط العدد والخطبتين والجماعة، وذلك مقيّد للاطلاق وإن لم يكن مذكوراً فإنّه مراد، كما في قوله تعالى: { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا}(1)، فإن التقدير، إذا قمتم مُحدثين ; لثبوت أنّه صلّى الله عليه وآله صلّى الخمس بطهارة واحدة وقال: " إنّما أردتُ أن اعلّمكم "(2).

وحيث اُجريت الآية على الاطلاق بالاضافة إلى المتنازع فيه ; لعدم ما يوجب التقييد، لا يلزم أن لا يكون مقيّده بما دلّ الدليل على التقييد به من اعتبار النائب في الغيبة.

وينبّه على أنّ مراده ما قلناه: أنّه في (شرح الإرشاد) بعد أن ردّ استدلال المانعين بالقول بموجب دليلهم من حيث إنّ الفقيه منصوب من قبل الإمام، احتج في آخر البحث على الجواز بعموم الآية(3)، فلولا أنّ مراده بالعموم ما قلناه لتنافى أوّل كلامه وآخره.

____________

1- المائدة: 6.

2- صحيح مسلم 1: 232 حديث 277، سنن أبي داود 1: 44 حديث 171 و172، سنن الترمذي 1: 89 حديث 61، سنن ابن ماجة 1: 70 حديث 510 و511، سنن النسائي 1: 85 باب الوضوء لكلّ صلاة، مسند أحمد بن حنبل 3: 132 و133 و5: 350 و358.

3- غاية المراد 1: 166.


الصفحة 54

خاتمة وإرشاد

هذا أوان بيان أوصاف الفقيه النائب في زمان الغَيبة، الموعود بذكرها في المقدّمة الثانية، وقد سبق أنّها ثلاثة عشر:

الأوّل: الإيمان ; لأنّ العدالة شرط كما سنبيّن، وغير المؤمن لا يكون عدلاً، وإليه الاشارة بقوله (عليه السلام) في حديث عمر بن حنظلة السابق: " منكم "(1).

الثاني: العدالة ; لوجوب التثبّت عند خبر الفاسق(2)، وإليه الاشارة بقوله (عليه السلام): " أعدلهما "(3).

الثالث: العلم بالكتاب.

الرابع: العلم بالسنّة، لا على معنى أن يعلم الجميع، بل ما لابدّ منه في درك الأحكام، ولا يشترط حفظ ذلك، بل أهليّة التصرّف، بحيث إذا راجع أصلاً معتمداً أمكنه الوقوف على ما هو بصدده.

الخامس: العلم بالإجماع ; لأنّه أحد المدارك، وللتحرّز من الفتوى بخلافه.

السادس: العلم بالقواعد الكلاميّة التي تستمد منها الاُصول والأحكام.

السابع: العلم بشرائط الحد والبرهان ; لامتناع الاستدلال من دونه.

الثامن: العلم باللغة والنحو والصرف، لا بالجميع، بل المحتاج إليه

____________

1 و 3- تقدّمت مصادره في الصفحة 17:

2- الحجرات: 6.


الصفحة 55
على وجه يقتدر على التصرّف إذا راجع.

التاسع: العلم بالناسخ والمنسوخ وأحكامهما، وكذا أحكام الأوامر والنواهي، والعموم والخصوص، والاطلاق والتقييد، والاجمال والبيان، والعلم بمقتضى اللفظ شرعاً وعرفاً ولغة، ونحو ذلك مما يتوقّف عليه فهم الخطاب، ككون المراد مقتضى اللفظ إن تجرّد عن القرينة، وما دلّت عليه على تقدير وجودها.

العاشر: أن يعلم أحوال التعارض والترجيح.

الحادي عشر: العلم بالجرح والتعديل وأحوال الرواة، وتكفي فيه شهادة مَن يعتمد عليه من الأوّلين، وقد اشتمل على ذلك الكتب المعتمدة في الحديث والرجال، ونقّح الفقهاء جملة من ذلك في الكتب الفقهية.

الثاني عشر: أنّ له نفساً قدسيّة وملكة نفسانيّة يقتدر معها على اقتناص الفروع من الاُصول، وردّ الجزئيات إلى قواعدها، وتقوية القوي، وتضعيف الضعيف، والترجيح في موضع التعارض.

فلا يكفي العلم بالاُمور السالفة بدون الملكة المذكورة، وكذا لا يكفي الاطلاع على استدلال الفقهاء وفهم كلامهم من دون أن يكون موصوفاً بما ذكرنا، بحيث ينفق ممّا آتاه الله ولا يكون كلاًّ على من سواه.

ولابدّ في ذلك من ممارسة أهل الصنعة، واقتباس التدرّب في ذلك منهم، وظهور الاستقامة على صفحات أحواله بينهم على وجه لا يكاد يدفع.

فلا يجوز لمن يخاف عذاب الآخرة وتتلّون وجنتاه بالحياء أن يقدم على القول على الله ورسوله وأئمته صلوات الله عليه وعليهم بمجرد اعتقاده في نفسه فهم المراد، وظنّه سلوك نهج السداد، ومطالعة عبارات الأوّلين.

فإنّ خياطة ثوب واصلاح طعام مع كونه من الاُمور الحسيّة لا يتمّ

الصفحة 56
بدون التوفيق، فما ظنّك بالشريعة المطهّرة التي قرع نبينا وإمامنا صلوات الله عليهما وآلهما لأجلها رؤوس جماجم قريش، وأضرب عن كونهم واسطة قلادة الرحم والمتحرّمين بحرمة ذلك الحرم.

ومن خفي عليه ما قلناه فليستمع إلى قوله (عليه السلام): " خُذ العلم من أفواه الرجال "(1)، وقوله (عليه السلام): " لا يغرنّكم الصحفيّون "(2) أي: الّذين يأخذون علمهم من الصحف والدفاتر.

وليتنبّه المقتحم لجّة الهلكة بالتوثّب على هذه المنزلة أنّه قائل على الله، فإمّا مع كمال البصيرة واليقين، وإمّا من الافتراءعليه سبحانه في خسران مبين، بدليل قوله تعالى: {قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون}(3).

وتعلّل ذوي الأوهام الفاسدة بقول أكثر العلماء بجواز تجزؤ الاجتهاد، كتعلل العليل بما لا يشفيه، فإنّ المراد بتجزؤ الاجتهاد: القدرة على الاستنباط بالملكة المذكورة في بعض أبواب الفقه ومسائله دون بعض، بعد العلم بالاُمور المذكورة كلّها على الوجه المعتبر ـ إن أمكن وقوع هذا الفرض ـ إلى أن يسمع أو يرى مَن يفهم كلام العلماء دليل مسألة فيحسن من نفسه رجحانه والاذعان إلى قبوله، فإنّ ذلك مشترك بين هؤلاء وبين كثير من صلحاء عجائز أهل الإسلام مع تحاشّهنّ عن التلوّث بالجرأة على الله إلى هذا المقام.

____________

1- ذكره العلاّمة في البحث الثالث من مقدّمة كتاب تحرير الأحكام 1: 3، ورواه الأحسائي في عوالي اللآلي 4: 78 حديث 68، وعنه في بحار الأنوار 2: 105 حديث 64 باب من يجوز أخذ العلم منه ومن لا يجوز، وسفينة البحار 2: 17.

2- ذكره العلاّمة في البحث الثالث من مقدّمة كتاب تحرير الأحكام 1: 3، ورواه الأحسائي في عوالي اللآلي 4: 78 حديث 69، وعنه في بحار الأنوار 2: 105 حديث 65 باب من يجوز أخذ العلم منه ومن لا يجوز، وسفينة البحار 2: 17.

3- يونس: 60.


الصفحة 57
وإلى هذه الاُمور المذكورة كلّها وقعت الاشارة بقوله (عليه السلام): " وروى حديثنا وعرف أحكامنا "(1)، فإنّ معرفة الأحكام بدون ذلك ممّتنع. ويستفاد منه أنّ وصف النيابة مطلقاً(2) لا يثبت للمتجزئ، فإنّ الاضافة في الجمع تفيد العموم، والمراد معرفتها باعتبار التهيؤ والاستعداد القريب.

الثالث عشر: أن يكون حافظاً، بحيث لا يغلب عليه النسيان، فيختلّ تصرّفه في الصناعة ; لتعذّر درك الأحكام حينئذ ; وليس المراد عدم عرض النسيان كما هو ظاهر، فإنّ السهو كالطبيعة الثانية للإنسان، وما أحسن ما قيل: أوّل ناس أوّل الناس.

وها هنا نحبس عنان اليراعة حامدين الله سبحانه، مصلّين على حبيبه وصفوته محمّد وأطايب عترته.

ومَن وقف على ما أفدناه في هذه المسألة المهمّة، فليتنبّه إلى ما أودعناه في مطاوي عباراتها(3) من الفوائد العلمّية والنصائح الدينيّة، وليجعل محطّ نظره في مطالعتها وملاحظتها، بل في جميع حالاته، هو قصد وجه الله العظيم، وليعلم أنّ أيام هذه المهلة عمّا قليل ينصرم، فإمّا إلى نعيم لا يفنى، وإمّا إلى سوء الجحيم.

وفرغ من تسويدها مؤلّفها العبد المعترف بذنوبه وعيوبه علي بن عبد العالي تجاوز الله عن سيآته، وحشره في زمرة مواليه وساداته، سادس شهر محرّم الحرام افتتاح سنة إحدى وعشرين وتسعمائة، حامدّاً مصلّياً عوداً على بدء.

____________

1- تقدّمت مصادره في الصحفة 17.

2- مطلقاً: لم ترد في " ض ".

3- في " ش ": عبارته.