المقدّمة


الحمدُ لله ربّ العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، والصلاة والسّلام على خير مدعوٍّ ومجيب، ورسول وحبيب، علم التقى، وبدر الدجى، محمّد المصطفى (صلى الله عليه وآله)، وعلى عترته أُولي الحجى وذوي النهى، والعروة الوثقى، وسفينة النجاة، التي أمن مَن ركبها، وغرق مَن تركها، وعلى صحبهم والتابعين لهم بإحسان، الحافظين للوديعة، ومَن أحبّوا الشريعة، واللعنة الدائمة على مَن نازعهم ونصب لهم.

وبعد،

تعرّفنا في ما مضى على عدّة جوانب من حياة المحقّق الكركي: الشخصيّة، والسياسيّة، والعلميّة، وآرائه وفوائده.

ففي البحث عن حياته الشخصيّة تحدّثنا عن اسمه، ومولده وموطنه، وأُسرته، وأخلاقه وسجاياه، وآثاره ومآثره، وكراماته، ومراحل حياته المختلفة، ثمّ مدحه وإطرائه، وأخيراً وفاته ومدفنه.

وفي حياته السياسيّة تعرّضنا لعدّة مواضيع لها صلة بالكركي وعصره: كالتصوّف والصوفيّة، وموقف العلماء من الحكّام، ونشوء الدولة الصفويّة وكيفيّة تعامل العلماء معها، ثمّ تحدّثنا بشكل مفصّل عن علاقة الكركي بهذه الدولة ابتداءً من تأسيسها حتّى سنة 940 هـ، حيث عاصر الكركي حاكمين من حكّامها هما الشاه إسماعيل وابنه الشاه طهماسب.


الصفحة 2
وفي حياته العلميّة سلّطنا الضوء على بعض المجالات التي كان للكركي دور فعّال فيها، فتحدّثنا عن عصره ومعاصريه، وأساتذته وشيوخه، والروايات التي حصل عليها والتي منحها، ومؤلّفاته، والكتب التي قرأها والتي قُرئت عليه، ومكانته العلميّة، ونشاطه العلميّ، والمحاورات والردود العلميّة التي جرت بينه وبين بعض الأعلام.

ثمّ أفردنا بحثاً مستقلاًّ وكاملاً لآرائه ونظريّاته المودعة في مؤلّفاته، والتي لم يُفرد لها تصنيفاً مستقلاً، حيث أجرينا عمليّة استقصاء كامل لكافّة مؤلّفاته، واستخرجنا منها هذه الآراء والنظريّات، وهي آراؤه الكلاميّة، والأُصوليّة، والرجاليّة، وفوائده التأريخيّة، وملاحظاته عن بعض المؤلّفات، وشواهده الشعريّة، والجداول والرسوم التي استعملها.

وفي نهاية كلّ بحث أفردنا فصلاً خاصّاً بعنوان " الملاحظات "، سجّلنا فيه الملابسات التي حصلت في حياته، والاشتباهات التي وقع فيها بعض المؤلّفين عند ترجمتهم للكركي.

والآن تعال معي عزيزي القارئ لنطلّ على جانب آخر من جوانب عظمة هذا الرجل، حيث نتعرّف على بعض آرائه ونظرياته التي استطاع أن يصهرها في بودقة التأليف عبر كتبه المختلفة من حيث مواضيعها وحجمها وأسباب تأليفها.

إنّ الوقوف على مؤلّفات المحقّق الكركي، ودراستها بشكل مفصّل ودقيق، يكشف لنا ـ من جانب ـ المستوى العلمي الذي تمتّع به هذا العالم، ومن جانب آخر يُظهر لنا المنزلة الاجتماعيّة الكبيرة التي كان يحتلّها آنذاك، ليس في أوساط الناس عموماً، بل حتّى عند كبار رجال الدولة، وعلى رأسهم الشاه إسماعيل وابنه الشاه طهماسب، وقد تعرّضنا لهذه النقاط بشكل مفصّل

الصفحة 3
في ما مضى من الكتاب عند حديثنا عن حياته.

والملاحظ أنّ مؤلّفات الكركي تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأوّل:

الرسائل، والتي تتناول عادةً البحث عن موضوع معيّن، أو مسألة فقهيّة واحدة. وهذه الرسائل يختلف حجمها، فبعضها يقع في أربعين أو خمسين صفحة، والبعض الآخر يقع في عدّة صفحات.

الثاني:

الحواشي والشروح لبعض الكتب المعتمدة عندنا، كالشرائع والمختصر النافع للمحقّق الحلّي، والقواعد والإرشاد والمختلف للعلاّمة الحلّي، والألفيّة الشهيديّة.

الثالث:

جواب الأسئلة والاستفتاءات التي كانت ترد عليه من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وبمستويات مختلفة في التعبير، وقد قام بعض تلامذته وبعض العلماء القريبين من عصره بجمعها وترتيبها.

وقد استطعتُ بحمد الله تعالى وتوفيقه طيلة سنوات عديدة، أن أجمع وأُحقّق من مؤلّفات هذا العالم الجليل أربعة وخمسين مؤلّفاً، معتمداً على مائة وعشرين نسخة خطيّة موجودة في عدّة مكتبات في الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة: قم المقدّسة، مشهد المقدّسة، طهران، همدان، يزد، خوانسار، أصفهان. وقد عانيت الكثير من المصاعب في جمع هذه النسخ الخطيّة، فإنّ الحصول على نسخة خطيّة واحدة من أقرب المكتبات إلينا في مدينة قم المقدّسة لا يخلو من مصاعب جمّة، فكيف بهذا الكمّ الهائل من النسخ الخطيّة.


الصفحة 4

منهجيّة التحقيق


اعتمدت في تحقيقي لهذه المجموعة من رسائل الكركي وحواشيه على طريقة واحدة، أُلخّصها بعدّة نقاط:

(1) اتّبعت طريقة التلفيق بين النسخ الخطيّة، وذلك لعدم عثوري على نُسخ الأصل التي كتبها الكركي بيده. نعم، بعض الرسائل عثرتُ لها على نُسخ مقروءة على الكركي، إلاّ أنّي لم أكتف بها وأضفتُ لها نُسخاً أُخرى.

(2) عند حصولي على عدّة نسخ خطيّة لإحدى هذه المؤلّفات، أقوم بمقابلة بعضها مع البعض الآخر، وإثبات الصحيح أو الأصح في المتن وما قابلهما في الهامش.

وعند عدم حصولي إلاّ على نسخة واحدة، فإنّي أجعلها الأصل في عملي، وأُشير في الهامش إلى ملاحظاتنا واستظهاراتنا عليها.

(3) استخراج كلّ ما يحتاج إلى تخريج من آيات قرآنيّة كريمة، وأحاديث شريفة، وأقوال العلماء في شتى العلوم، وشواهد شعريّة، وأماكن وبقاع. وحاولت قدر المستطاع أن أعتمد على المصادر الرئيسيّة في كافة الاستخراجات، إلاّ تلك المصادر المفقودة أساساً أو التي لم أُوفّق للحصول عليها، فقد استعنتُ في الحصول على أقوالها بواسطة مصادر أُخرى ميسّرة.

(4) لم أُترجم كافة الأعلام الّذين وردت أسماؤهم، بل ترجمتُ لبعضهم حسب الضرورة التي رأيتها.

(5) عند شروعي في تحقيق الحواشي والشروح وضعتُ متن الكتاب المشروح في أعلى كلّ صفحة، ويتلوه الشرح أو الحاشية التي كتبها الكركي.


الصفحة 5
ثمّ قمتُ بحذف المتن واكتفيت بالإشارة إليه ; رعاية للاختصار، وتلبيةً لاقتراح بعض الإخوة الأفاضل من المحقّقين.

(6) رتّبتُ الرسائل حسب مواضعيها، فوضعتُ أوّلاً الرسالة النجميّة التي جمع فيها الكركي بين علمي الكلام والفقه وأدرج فيها أيسر ما يجب على المكلّفين معرفته في الأُصول والفروع، ثمّ رسالة استنباط الأحكام التي تعبّر عن المنهج العلمي للكركي، ثمّ الرسائل الفقهيّة مرتّبة بترتيب كتب الفقه ابتداءً من الطهارة وانتهاءً بالقضاء، ثمّ الرسائل المتفرّقة وجوابات المسائل الفقهيّة التي وردت عليه.

(7) نظّمتُ فهارس فنيّة كاملة، تعميماً للفائدة واتّباعاً للمنهج الحديث في التحقيق.


وآخر دعوانا أن الحمدُ لله ربّ العالمين

محمّد الحسّون


الصفحة 6


خروج المقيم
عن حدود البلد





الصفحة 7

الصفحة 8

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين

الحمدُ لله الذي فطر السموات والأرض فاستوتا، ولو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا، وصلّى الله على نور الأنوار وحبيب الجبّار محمّد وآله الأطهار.

وبعد،

هذه رسالة (خروج المقيم عن حدود البلد)، وقد يُعبّر عنها بـ (الخروج عن حدّ الترخّص من محلّ الاقامة)، صنّفها المحقّق الكركي علي ابن عبد العالي رحمه الله بشكل مختصر إملاءً على بعض تلامذته، حيث أوضح الحكم في مسألة ما لو نوى المسافر اقامة عشرة أيام في غير بلده، ثم خرج من موضع الإقامة بحيث تجاوز حدود البلد ولم يبلغ مسافة. وقال: فيها ستة أوجه، ثم شرع ببيان هذه الأوجه.

اعتمدتُ في تحقيق هذه الرسالة على نسختين خطيّتين محفوظتين في المكتبة المرعشيّة العامّة في مدينة قم المقدّسة:

الاُولى: ضمن المجموعة المرقمة 4933 والمذكورة في فهرس مخطوطات المكتبة 13: 130، تأريخ كتابتها سنة 964 هـ. وتقع هذه النسخة ثلاث أوراق بحجم 5 / 18 × 13 سم، وكلّ ورقة تحتوي ستة عشر سطراً، وقد رمزنا لها بالحرف " ش1 ".

الثانية: ضمن المجموعة المرقمة 1003. ذُكرت هذه المجموعة في

الصفحة 9
فهرس مخطوطات المكتبة 3: 199، ولم يرد ذِكرٌ لهذه الرسالة في هذا الفهرس، وقد وردت في هامش الورقتين 54 و55 منها، ورمزنا لها بالحرف " ش2 ".

والحمد لله ربّ العالمين


الصفحة 10


الصفحة الاُولى من النسخة المحفوظة في المكتبة المرعشيّة "ش1"

الصفحة 11

الصفحة الأخيرةُ من النسخة المحفوظة في المكتبة المرعشيّة "ش1"

الصفحة 12

الصفحة الاُولى من النسخة المحفوظة في المكتبة المرعشيّة "ش2"

الصفحة 13

الصفحة الأخيرة من النسخة المحفوظة في المكتبة المرعشيّة "ش2"

الصفحة 14
بسم الله الرحمن الرحيم

لو نوى المسافر إقامة عشرة في غير بلده، ثم خرج من موضع الإقامة بحيث تجاوز حدود البلد ولم يبلغ مسافة، فلا يخلو: إمّا أن يكون عازماً على العود وإقامة(1) عشرة أيام مستأنفة، أو على العود من دون الإقامة، أو عزم على المفارقة وعدم العود، أو تردّد عزمه في العود وعدمه، أو في الإقامة وعدمها، أو ذهل عن ذلك، فهذه ستة أحوال:

الأوّل: أن يعزم على العود والإقامة عشرة اُخرى، وهذا يتمّ ذاهباً وعائداً ومقيماً عند عامّة الأصحاب ; لأنّه خرج من بلد فرضه فيه التمام إلى ما دون المسافة، ففرضه فيه التمام، ويعود إليه على وجه يقتضي وجوب التمام، فلا موجب للتقصير.

الثاني: أن يعزم على العود مع عدم إقامة عشرة اُخرى، وقد اختلف كلام الأصحاب فيه: فالشيخ(2)، وابن البرّاج(3)، وجماعة كالعلاّمة(4)يوجبون القصر عليه في ذهابه وعوده ; لأنّه نقض مقامه بالخروج من محلّ الإقامة وليس في نيّته إقامة اُخرى، فيعود إليه حكم السفر.

وشيخنا الشهيد وجماعة يوجبون عليه التمام ذهاباً وإياباً وفي البلد، والقصر في عوده(5)، وهو الأقوى.

____________

1- في " ش2 ": والإقامة.

2- المبسوط 1: 137.

3- المهذّب 1: 107.

4- نهاية الإحكام 2: 164.

5- الدروس 1: 214.


الصفحة 15
أمّا الحكم الأوّل ; فلأنّه إنّما يخرج عن حكم المقيم(1) بقصد المسافة، وهي منتفية في الذهاب.

وأمّا الثاني ; فلوجود قصد المسافة، حيث إنّه قاصد إلى بلده في الجملة، أمّا الآن أو بعد سفر آخر، والبلد الذي كان مُقيماً فيه قد ساوى غيره بالنسبة إليه من حين بلوغ الترخّص.

لا يقال: هذا آت في الذهاب أيضاً ; لزوال حكم الإقامة ببلوغ حدّ الترخّص، وتحقّق عزم المسافة على الوجه السابق.

لأنّا نقول: المعروف بينهم أنّ للذهاب حكماً منفرداً عن العود، فلا يكمل أحدهما بالآخر إلاّ في مَن قصد أربعة فراسخ عازماً على العود في يومه أو ليلته، وإنّما اُخرجت هذه بحكم النصّ، ولولا ذلك لكان المتردّد في ثلاث فراسخ ثلاث مرّات أو في اثنين أربع مرّات بحيث لا يبلغ حدود البلد في حال عوده يلزمه القصر، وهو باطل، بل كان نحو طالب الآبق يلزمه القصر بعد المنزل الذي يبلغ ما قصد مسيره مع عوده إلى بلده ثمانية فراسخ، وهو باطل اتّفاقاً، وإنّما يلزمه القصر بعد عزم العود وبلوغ المسافة، أمّا قبله فلا ولو زاد على المسافة أضعافاً.

بل لم يكن للتقييد بقصد العود ليوم أو ليلة في مَن قصد أربعة فراسخ معنىً أصلاً ; إذ لو اعتبر تكميل الذهاب بالعود صدقَ عزم المسافة في مَن قصد الرجوع مِن غده، وهو معلوم البطلان.

الثالث: لو عزم العود وتردّد في الاقامة فوجهان: أحدهما الاتمام مطلقاً ; لانتفاء المقتضي للقصر وهو عزم المسافة، وأصحّهما الاتمام في

____________

1- في " ش2 ": الإقامة.


الصفحة 16
الذهاب والبلد، والقصر في العود ; لأنّ حكم الإقامة يزول بمفارقة البلد، وإنّما يعود إليه بقصد إقامة اُخرى، ولم يحصل لمنافاة التردّد له.

الرابع: لو عزم على المفارقة قصّر بخفاء الجدران والأذان على اصح الوجهين، وربّما احتمل ضعيفاً التقصير بالشروع في السير، وهو بعيد ; لأنّ جميع أقطار البلد سواء في وجوب الاتمام، والحدود من جملة البلد.

الخامس: أن يتردّد في العود وعدمه فوجهان: أحدهما أنّه كالثاني ; لأنّ حكم القصر موقوف على الجزم بالمفارقة ولم يحصل، واصحّهما أنّه كالرابع ; لأنّ المقتضي للاتمام في الذهاب هو العزم على العود ولم يحصل، فهو مسافر.

السادس: أن يذهل عن قصد العود والإقامة وعدمهما، والظاهر إلحاقه بما قبله. نعم لو كان له عزم العود أو الإقامة قبل زمان الخروج، وذهل عنه حين الخروج، اعتبر قصده السابق.

فرع:

لو خرج ناويَ المقام عشراً إلى ما دون المسافة، عازماً على العود وإقامة مستأنفة، لكن من نيّته قبل الاقامة التردّد إلى البلد الذي خرج إليه مراراً متعدّدة، ففرضه في هذه المرّات كلّها الاتمام ذهاباً وعوداً ; لوجود المقتضي للاتمام، وهو خروجه من بلد يقيم فيه إلى ما دون المسافة، وعزمه على إقامة العشرة، وتعدّد مرّات التردّد قبل الإقامة لا يقدح ; إذ لا يصير بذلك مسافراً من دون قصد المسافة، وهو منتف بقصد الإقامة قبله، والله اُعلم.