المقدّمة


الحمدُ لله ربّ العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، والصلاة والسّلام على خير مدعوٍّ ومجيب، ورسول وحبيب، علم التقى، وبدر الدجى، محمّد المصطفى (صلى الله عليه وآله)، وعلى عترته أُولي الحجى وذوي النهى، والعروة الوثقى، وسفينة النجاة، التي أمن مَن ركبها، وغرق مَن تركها، وعلى صحبهم والتابعين لهم بإحسان، الحافظين للوديعة، ومَن أحبّوا الشريعة، واللعنة الدائمة على مَن نازعهم ونصب لهم.

وبعد،

تعرّفنا في ما مضى على عدّة جوانب من حياة المحقّق الكركي: الشخصيّة، والسياسيّة، والعلميّة، وآرائه وفوائده.

ففي البحث عن حياته الشخصيّة تحدّثنا عن اسمه، ومولده وموطنه، وأُسرته، وأخلاقه وسجاياه، وآثاره ومآثره، وكراماته، ومراحل حياته المختلفة، ثمّ مدحه وإطرائه، وأخيراً وفاته ومدفنه.

وفي حياته السياسيّة تعرّضنا لعدّة مواضيع لها صلة بالكركي وعصره: كالتصوّف والصوفيّة، وموقف العلماء من الحكّام، ونشوء الدولة الصفويّة وكيفيّة تعامل العلماء معها، ثمّ تحدّثنا بشكل مفصّل عن علاقة الكركي بهذه الدولة ابتداءً من تأسيسها حتّى سنة 940 هـ، حيث عاصر الكركي حاكمين من حكّامها هما الشاه إسماعيل وابنه الشاه طهماسب.


الصفحة 2
وفي حياته العلميّة سلّطنا الضوء على بعض المجالات التي كان للكركي دور فعّال فيها، فتحدّثنا عن عصره ومعاصريه، وأساتذته وشيوخه، والروايات التي حصل عليها والتي منحها، ومؤلّفاته، والكتب التي قرأها والتي قُرئت عليه، ومكانته العلميّة، ونشاطه العلميّ، والمحاورات والردود العلميّة التي جرت بينه وبين بعض الأعلام.

ثمّ أفردنا بحثاً مستقلاًّ وكاملاً لآرائه ونظريّاته المودعة في مؤلّفاته، والتي لم يُفرد لها تصنيفاً مستقلاً، حيث أجرينا عمليّة استقصاء كامل لكافّة مؤلّفاته، واستخرجنا منها هذه الآراء والنظريّات، وهي آراؤه الكلاميّة، والأُصوليّة، والرجاليّة، وفوائده التأريخيّة، وملاحظاته عن بعض المؤلّفات، وشواهده الشعريّة، والجداول والرسوم التي استعملها.

وفي نهاية كلّ بحث أفردنا فصلاً خاصّاً بعنوان " الملاحظات "، سجّلنا فيه الملابسات التي حصلت في حياته، والاشتباهات التي وقع فيها بعض المؤلّفين عند ترجمتهم للكركي.

والآن تعال معي عزيزي القارئ لنطلّ على جانب آخر من جوانب عظمة هذا الرجل، حيث نتعرّف على بعض آرائه ونظرياته التي استطاع أن يصهرها في بودقة التأليف عبر كتبه المختلفة من حيث مواضيعها وحجمها وأسباب تأليفها.

إنّ الوقوف على مؤلّفات المحقّق الكركي، ودراستها بشكل مفصّل ودقيق، يكشف لنا ـ من جانب ـ المستوى العلمي الذي تمتّع به هذا العالم، ومن جانب آخر يُظهر لنا المنزلة الاجتماعيّة الكبيرة التي كان يحتلّها آنذاك، ليس في أوساط الناس عموماً، بل حتّى عند كبار رجال الدولة، وعلى رأسهم الشاه إسماعيل وابنه الشاه طهماسب، وقد تعرّضنا لهذه النقاط بشكل مفصّل

الصفحة 3
في ما مضى من الكتاب عند حديثنا عن حياته.

والملاحظ أنّ مؤلّفات الكركي تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأوّل:

الرسائل، والتي تتناول عادةً البحث عن موضوع معيّن، أو مسألة فقهيّة واحدة. وهذه الرسائل يختلف حجمها، فبعضها يقع في أربعين أو خمسين صفحة، والبعض الآخر يقع في عدّة صفحات.

الثاني:

الحواشي والشروح لبعض الكتب المعتمدة عندنا، كالشرائع والمختصر النافع للمحقّق الحلّي، والقواعد والإرشاد والمختلف للعلاّمة الحلّي، والألفيّة الشهيديّة.

الثالث:

جواب الأسئلة والاستفتاءات التي كانت ترد عليه من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وبمستويات مختلفة في التعبير، وقد قام بعض تلامذته وبعض العلماء القريبين من عصره بجمعها وترتيبها.

وقد استطعتُ بحمد الله تعالى وتوفيقه طيلة سنوات عديدة، أن أجمع وأُحقّق من مؤلّفات هذا العالم الجليل أربعة وخمسين مؤلّفاً، معتمداً على مائة وعشرين نسخة خطيّة موجودة في عدّة مكتبات في الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة: قم المقدّسة، مشهد المقدّسة، طهران، همدان، يزد، خوانسار، أصفهان. وقد عانيت الكثير من المصاعب في جمع هذه النسخ الخطيّة، فإنّ الحصول على نسخة خطيّة واحدة من أقرب المكتبات إلينا في مدينة قم المقدّسة لا يخلو من مصاعب جمّة، فكيف بهذا الكمّ الهائل من النسخ الخطيّة.


الصفحة 4

منهجيّة التحقيق


اعتمدت في تحقيقي لهذه المجموعة من رسائل الكركي وحواشيه على طريقة واحدة، أُلخّصها بعدّة نقاط:

(1) اتّبعت طريقة التلفيق بين النسخ الخطيّة، وذلك لعدم عثوري على نُسخ الأصل التي كتبها الكركي بيده. نعم، بعض الرسائل عثرتُ لها على نُسخ مقروءة على الكركي، إلاّ أنّي لم أكتف بها وأضفتُ لها نُسخاً أُخرى.

(2) عند حصولي على عدّة نسخ خطيّة لإحدى هذه المؤلّفات، أقوم بمقابلة بعضها مع البعض الآخر، وإثبات الصحيح أو الأصح في المتن وما قابلهما في الهامش.

وعند عدم حصولي إلاّ على نسخة واحدة، فإنّي أجعلها الأصل في عملي، وأُشير في الهامش إلى ملاحظاتنا واستظهاراتنا عليها.

(3) استخراج كلّ ما يحتاج إلى تخريج من آيات قرآنيّة كريمة، وأحاديث شريفة، وأقوال العلماء في شتى العلوم، وشواهد شعريّة، وأماكن وبقاع. وحاولت قدر المستطاع أن أعتمد على المصادر الرئيسيّة في كافة الاستخراجات، إلاّ تلك المصادر المفقودة أساساً أو التي لم أُوفّق للحصول عليها، فقد استعنتُ في الحصول على أقوالها بواسطة مصادر أُخرى ميسّرة.

(4) لم أُترجم كافة الأعلام الّذين وردت أسماؤهم، بل ترجمتُ لبعضهم حسب الضرورة التي رأيتها.

(5) عند شروعي في تحقيق الحواشي والشروح وضعتُ متن الكتاب المشروح في أعلى كلّ صفحة، ويتلوه الشرح أو الحاشية التي كتبها الكركي.


الصفحة 5
ثمّ قمتُ بحذف المتن واكتفيت بالإشارة إليه ; رعاية للاختصار، وتلبيةً لاقتراح بعض الإخوة الأفاضل من المحقّقين.

(6) رتّبتُ الرسائل حسب مواضعيها، فوضعتُ أوّلاً الرسالة النجميّة التي جمع فيها الكركي بين علمي الكلام والفقه وأدرج فيها أيسر ما يجب على المكلّفين معرفته في الأُصول والفروع، ثمّ رسالة استنباط الأحكام التي تعبّر عن المنهج العلمي للكركي، ثمّ الرسائل الفقهيّة مرتّبة بترتيب كتب الفقه ابتداءً من الطهارة وانتهاءً بالقضاء، ثمّ الرسائل المتفرّقة وجوابات المسائل الفقهيّة التي وردت عليه.

(7) نظّمتُ فهارس فنيّة كاملة، تعميماً للفائدة واتّباعاً للمنهج الحديث في التحقيق.


وآخر دعوانا أن الحمدُ لله ربّ العالمين

محمّد الحسّون


الصفحة 6


قاطعة اللجاج في تحقيق
حلّ الخراج





الصفحة 7

الصفحة 8

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين

الحمدُ لله ربّ العالمين، والصلاة والسّلام على رسول الله محمّد المصطفى وآله الطيّبين الطاهرين.

وبعد،

هذه رسالة (قاطعة اللّجاج في تحقيق حلّ الخراج)، والتي تُسمى بالرسالة الخراجيّة. تعرّض فيها مصنّفها المحقّق الكركي لمسألة مهمّة جداً اختلف الفقهاء فيها اختلافاً كبيراً، وهي مسألة الخراج، وحليّة أخذه في زمن الغيبة، وتعيين الأرض الخراجيّة من غيرها. انتهى من تأليفها في الحادي عشر من شهر ربيع الثاني سنة 916 هـ. وقد جعلها في تمهيد، ومقدّمات خمس، وخاتمة.

وقد فتحت هذه الرسالة فيما بعد باب النقاش والجدال بين العلماء حول هذه المسألة، فردّها الفاضل القطيفي برسالة سمّاها (السّراج الوهّاج لدفع عجاج قاطعة اللجاج)، وألف المقدّس الأردبيلي رسالة انتصاراً للفاضل القطيفي، وكتبَ الفاضل الشيباني ردّاً على الأردبيلي، فكتبَ المقدّس الأردبيلي ردّاً على الشيباني. ثمّ انقسم العلماء من بعدهم إلى مؤيّدين للكركي مخالفين للقطيفي، وإلى مخالفين للأوّل مؤيدين للثاني.

ولمزيد الاطلاع على هذه الرسالة انظر ما كتبناه عنها في حديثنا عن مؤلّفات الكركي.

اعتمدتُ في تحقيق هذه الرسالة على أربع نسخ خطيّة موجودة في

الصفحة 9
المكتبة المرعشيّة العامّة في مدينة قم المقدّسة:

الاُولى: ضمن المجموعة المرقّمة 5151، المذكورة في فهرس مخطوطات المكتبة 13: 357 تأريخ كتابتها سنة 1116 هـ وتقع هذه النسخة في خمس وثلاثين ورقة بحجم 18 × 12 سم، وكلّ ورقة تحتوي على خمسة عشر سطراً، وقد رمزنا لها بالحرف " ش1 ".

الثانية: ضمن المجموعة المرقّمة 1409، المذكورة في فهرس مخطوطات المكتبة 4: 187 تأريخ كتابتها سنة 1128 هـ. وتقع هذه النسخة في عشرين ورقة بحجم 24 × 12 سم، وكلّ ورقة تحتوي على ثلاثة وعشرين سطراً ـ وقد رمزنا لها بالحرف " ش2 ".

الثالثة: ضمن المجموعة المرقّمة 1176، المذكورة في فهرس مخطوطات المكتبة 3: 347، تأريخ كتابتها سنة 1137 هـ. وتقع هذه النسخة في إحدى عشرة ورقة بحجم 26 × 19 سم وكلّ ورقة تحتوي على عشرين سطراً، وقد رمزنا لها بالحرف " ش3 ".

الرابعة: ضمن المجموعة المرقّمة 1519، المذكورة في فهرس مخطوطات المكتبة 4: 319، تأريخ كتابتها سنة 1246 هـ. وتقع هذه النسخة في عشرين ورقة بحجم 21 × 5/15 سم وكلّ ورقة تحتوي على ثمانية عشر سطراً، وقد رمزنا لها بالحرف " ش4 ".

والحمد لله ربّ العالمين.


الصفحة 10


الصفحة الاُولى من النسخة "ش1"

الصفحة 11

الصفحة الأخيرة من النسخة "ش1"

الصفحة 12

الصفحة الاُولى من النسخة "ش2"

الصفحة 13

الصفحة الأخيرة من النسخة "ش2"

الصفحة 14

الصفحة الاُولى من النسخة "ش3"

الصفحة 15

الصفحة الأخيرة من النسخة "ش3"

الصفحة 16

الصفحة الاُولى من النسخة "ش4"

الصفحة 17

الصفحة الأخيرة من النسخة "ش4"

الصفحة 18
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أيّدَ كلمة الحقّ بالبراهين القاطعة، وأعلا كلمة الصدق بالحُجج اللامعة، ودوّخ(1) أباطيل المُفترين بالدلائل الدامغة، وأذلّ أعناق المغاليين بالبيّنات القامعة.

والصلاة والسّلام على المبعوث بخير الأديان، محمّد المختار من شجرة بني عدنان، وعلى آله الأطهار المُهتدين، وعترته الأخيار الحفظة للدين.

وبعدُ،

فإنّي لمّا توالى على سمعي تصدّي جماعة من المتسمّين بسمة الصلاح، ولُّمَة(2) من غوغاء(3) الهمج الرُعاع(4)، أتباع كلّ ناعق(5)، الذين أخذوا من الجهالة بحظٍّ وافر، واستولى عليهم الشيطان، فحلّ منهم في

____________

1- دَوّخَ: قهرَ وذلّل. ترتيب كتاب العين 1: 606، الصحاح 1: 421 " دوخ ".

2- في " ش1 ": وثُلّة (لمة خ ل).

واللُّمَةُ: الجماعة من الرجال والنساء. ترتيب كتاب العين 3: 1653 " لم ".

والثُلَّةُ: جماعة من الناس كثيرة. ترتيب كتاب العين 1: 248 " ثل "، الصحاح 4: 1648 " ثلل ".

3- الغوغاء: الجراد، وبه سُمّيت سَفِلةُ الناس غوغاء. ترتيب كتاب العين 2: 1362 " غوغ "، الصحاح 6: 2450 " غوى ".

4- همج الناس: رُذالَتُهُمْ، والرعاع من الناس الحمقى. ترتيب كتاب العين 3: 1897 الصحاح 1: 351 " همج ".

5- النَعِيقُ: صوت الراعي بغنمه. الصحاح 4: 1559 " نعق ".


الصفحة 19
سويداء(1) الخاطر، لتقريض(2) العرض وتمزيق الأديم(3)، والقدح بمخالفة الشرع الكريم، والخروج عن سواء المنهج القويم.

حيث إنّا لمّا اُلزمنا الإقامة ببلاد العراق، وتعذّر علينا الانتشار في الآفاق، لأسباب ليس هذا محلّ ذكرها(4)، لم نجد بُدّاً من التعلّق بالقرية ; لدفع الاُمور الضروريّة من لوازم متممّات(5) المعيشة، مقتفين في ذلك أثر جمع كثير من العلماء، وجمّ غفير من الكُبراء الأتقياء، اعتماداً على ما ثبت بطريق أهل البيت عليهم السلام من أنّ أرض العراق ونحوها ممّا فُتح عنوةً بالسيف لا يملكها مالك مخصوص، بل هي للمسلمين قاطبة، يؤخذ منها الخراج أو المقاسمة، ويصرف في مصارفه التي بها رواج الدين، بأمر إمام الحقّ من أهل البيت عليهم السّلام، كما وقع في أيام أمير المؤمنين (عليه السلام).

وفي حال غيبته (عليه السلام) قد أذن أئمتنا عليهم السّلام لشيعتهم في تناول ذلك من سلاطين الجور ـ كما سنذكره مفصّلاً ـ فلهذا تداوله العلماء الماضون والسلف الصالحون، غير مستنكر ولا مستهجَن.

وفي زماننا حيث استولى الجهل على أكثر أهل العصر، واندرس بينهم معظم الأحكام، وخفيت مواقع الحلال والحرام، هدرت شقاشق(6)

____________

1- السويداء: حبّة الشونيز ـ وهي الحبّة الخضراء ـ وسويداء القلب: حبّته. ترتيب كتاب العين 2: 873، الصحاح 2: 492 "سود".

2- التقريض: التقطيع. ترتيب كتاب العين 3: 1461 " قرض ".

3- أديم كلّ شيء: ظاهر جلده. ترتيب كتاب العين 1: 72 " أدم ".

4- لأسباب ليس هذا محلّ ذكرها: لم ترد في " رسالة السراج الوهاج " للفاضل القطيفي.

5- في " ش ": مهمات.

6- الشِقْشِقة: التي يخرجها الجمل العربي من جوفه، ينفخ فيها فتظهر من شدقيه، ولا تكون إلاّ للعربي. ومنه حديث علي عليه السلام: " تلك شِقشِقَةٌ هَدَرَتْ ثم قَرَّتْ ". مجمع البحرين 5: 195 " شقق ".


الصفحة 20
الجاهلين، وكثرت جرأتهم على أهل الدين، استخرتُ الله تعالى وكتبتُ في تحقيق هذه المسألة رسالة ضمّنتُها ما نقله فقهاؤنا في ذلك من الأخبار عن الأئمة الأطهار عليهم السّلام، وأودعتها ما صرّحوا به في كتبهم من الفتوى بأنّ ذلك حلالٌ لا شكّ فيه، وطِلق لا شبهة تعتريه، على وجه بديع، تذعن له قلوب العلماء، ولا تمجّه(1) أسماع الفضلاء.

واعتمدتُ في ذلك أن اُبيّن من هذه المسألة التي أفل(2) بدرها، وجُهل قدرها، غيرةً على عقائل المسائل، لا حرصاً على حطام هذا العاجل، ولا تفادياً من تعريض جاهل، فإنّ لنا بموالينا أهل البيت عليهم السّلام أعظم اُسوة وأكمل قُدوة، فقد قال الناس فيهم الأقاويل، ونسبوا إليهم الأباطيل، وبملاحظة " لو كان المؤمن في جُحر ضَبٍّ "(3) يُبَرّد كلّ غليل.

مع أنّي لم أقتصر في ما أشرت إليه على مجرّد ما نبّهتُ عليه، بل أضفتُ إلى ذلك من الأسباب التي تُثمر الملك وتُفيد الحلّ، ما لا يشوبه شكّ ولا يلحقه لبس من شراء حصّة من الأشجار، والاختصاص بمقدار معيّن من البذر، فقد ذكر أصحابنا طرقاً للتخلّص من الربا وإسقاط الشفعة،

____________

1- مَجَّ لعابه: أي قَذَفَهُ ورَمى به. النهاية 4: 297، مجمع البحرين 2: 329 " مجج ".

2- أفلَ: غاب. مجمع البحرين 5: 307 " أفل ".

3- قطعة من حديث رواه أنس بن مالك عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وتمامه: " لو كان المؤمن في جُحر ضَبٍّ لَقيَّضَ الله له فيه مَن يُؤذيه ". وورد أيضاً بلفظ " في حُجر فأرة ".

انظر كنز العمال 1: 146 حديث 717 و156 حديث 781.


الصفحة 21
ونحوها ممّا هو مشهور متداول بل لا ينفك منها إلاّ القليل النادر، وقد استقرّ في النفوس قبوله وعدم النفرة منه، مع أنّ ما اعتمدته في ذلك أولى بالبعد عن الشبهة، وأحرى بسلوك جادة الشريعة.

ولم اُودع في هذه الرسالة من الفتوى إلاّ ما اعتقدتُ صحته، وأقدمتُ على لقاء الله تعالى به، مع علمي بأنّ مَن خلا قلبهُ من الهوى، وبصرُ بصيرته من القذى(1)، وراقبَ الله تعالى في سريرته وعلانيته، لا يجد بُدّاً من الاعتراف به والحكم بصحّته.

وسميّتها بـ " قاطعة اللجاج في تحقيق حلّ الخراج "، ورتّبتها على مقدّمات خمس، ومقالة، وخاتمة. وسألت الله أن يُلهمني إصابة الحقّ ويُجنّبني القول بالهوى، إنّه ولي ذلك والقادر عليه.

المقدّمة الاُولى:
في أقسام الأرضين

وهي في الأصل على قسمين:

أحدهما:

أرض بلاد الاسلام، وهي على قسمين أيضاً(2): عامر، وموات.

فالعامر ملك لأهله، لا يجوز التصرّف فيه إلاّ باذن مُلاّكه.

والموات إن لم يجر عليه ملك مسلم فهو لإمام المسلمين يفعل به ما يشاء، وليس هذا القسم من محلّ البحث المقصود.

____________

1- القذى: ما يقع في العين والماء والشراب من تراب أو تبن أو وسخ أو غير ذلك. النهاية 4: 30 " قذا "، القاموس المحيط 4: 376 " قذى ".

2- على قسمين أيضاً: لم ترد في " ش3 ".


الصفحة 22

القسم الثاني:

ما ليس كذلك، وهو أربعة أقسام:

أحدها: ما يُملك بالاستغنام ويُؤخذ قهراً بالسيف، وهو المسمّى بالمفتوح عنوة.

وهذه الأرض للمسلمين قاطبة، لا يختصّ بها المُقاتلة عند أصحابنا كافّة، خلافاً لبعض العامّة(1)، ولا يُفَضَّلون فيها على غيرهم، ولا يتخيّر الإمام بين قسمتها ووقفها وتقرير أهلها عليها بالخراج، بل يقبّلها الإمام لمن

____________

1- اختلف العامّة في حكم هذه الأرض على عدّة آراء، أشار إليها المصنّف بشكل مُجمل هنا، وفصّلها الشيخ الطوسي في الخلاف 4: 194 ـ 195 مسألة 18 قائلاً:

وعند الشافعي: أنّ حكمه حكم ما لا يُنقل ويحوّل، خمسه لأهل الخمس، والباقي للمقاتلة الغانمين، وبه قال ابن الزبير.

وذهب قوم إلى أنّ الإمام مخيّر بين شيئين: بين أن يُقسّمه على الغانمين، وبين أن يقفه على المسلمين. ذهب إليه عمر، ومعاذ، والثوري، وعبدالله بن المبارك.

وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنّ الإمام مخيّر فيه بين ثلاثة أقوال: بين أن يُقسّمه على الغانمين، وبين أن يقفه على المسلمين، وبين أن يقرّ أهلها عليها ويضرب عليها الجزية باسم الخراج. فإن شاء أقرّ أهلها الّذين كانوا فيها. وإن شاء أخرج أولئك وأتى بقوم آخرين من المشركين وأقرّهم فيها وضرب عليهم الجزية باسم الخراج.

وذهب مالك إلى أنّ ذلك يصير وقفاً على المسلمين بنفس الاستغنام والأخذ من غير ايقاف الإمام، فلا يجوز بيعه ولا شراؤه.

انظر: الاُم 4: 181، مغني المحتاج 4: 234، الأحكام السلطانيّة للماوردي: 137، تبيين الحقائق 3: 248، رحمة الاُمّة 2: 171، الميزان الكبرى 2: 880 المحلّى 7: 342، المغني لابن قدامة 2: 576 ـ 577، الأحكام السلطانيّة للفرّاء الحنبلي: 146، شرح فتح القدير 4: 303 ـ 304، بداية المجتهد 1: 387، مقدّمات ابن رشد 1: 271، أسهل المدارك 2: 13.


الصفحة 23
يقوم بعمارتها بما يراه من النصف، أو الثلث، أو غير ذلك.

وعلى المتقبِّل اخراج مال القبالة الّذي هو حقّ الرقبة، وفي ما يفضل في يده ـ إذا كان نصاباً ـ العشر أو نصف العشر.

ولا يصح التصرّف في هذه الأرض بالبيع والشراء والوقف، وغير ذلك.

وللإمام أن ينقلها من متقبّل إلى آخر إذا انقضت مدّة(1) القبالة أو اقتضت المصلحة ذلك، وله التصرّف فيها بحسب ما يراه الإمام من مصلحة المسلمين.

وارتفاع هذه الأرض يُصرف إلى المسلمين وإلى مصالحهم، وليس للمقاتلة فيه إلاّ مثل ما لغيرهم من النصيب في الارتفاع.

وثانيها: أرض من أسلم أهلها عليها طوعاً من غير قتال.

وحكمها أن تُترك في أيديهم ملكاً لهم يتصرّفون فيها بالبيع والشراء والوقف، وسائر أنواع التصرّف، إذا قاموا بعمارتها، ويُؤخذ منهم العشر أو نصفه زكاة بالشرائط. فإن تركوا عمارتها وتركوها خراباً كانت للمسلمين قاطبة، وجاز للإمام أن يقبّلها ممّن يعمرها بما يراه(2) من النصف أو الثلث أو الربع، ونحو ذلك.

وعلى المتقبّل بعد إخراج حقّ القبالة ومؤنة الأرض مع وجود النصاب العشر أو نصفه(3)، وعلى الإمام أن يُعطي أربابها حقّ الرقبة من القبالة على المشهور.

____________

1- في " ش3 ": هذه.

2- بما يراه: لم ترد في " ش2 " و" ش4 ".

3- في " ش4 ": أو نصف العشر.


الصفحة 24
أفتى به الشيخ (رحمه الله) في (المبسوط)(1) و(النهاية)(2)، وأبو الصلاح(3)، وهو الظاهر من عبارة المحقّق نجم الدين في (الشرائع)(4)، واختاره العلاّمة في (المنتهى)(5) و(التذكرة)(6) و(التحرير)(7) و(المختلف)(8).

وابن حمزة وابن البرّاج ذهبا إلى أنّها تصير للمسلمين قاطبة، وأمرها إلى الإمام(9). وكلام شيخنا في (الدروس) قريب من كلامهما فإنّه قال: يقبّلها الإمام بما يراه، ويصرفه في مصالح المسلمين(10).

وابن ادريس منع من ذلك كلّه وقال: إنّها باقية على ملك الأوّل، ولا يجوز التصرّف فيها إلاّ باذنه(11)، وهو متروك.

احتجّ الشيخ بما رواه صفوان بن يحيى وأحمد بن محمّد بن أبي نصر، قالا: ذكرنا له الكوفة وما وُضع عليها من الخراج، وما سار فيها أهل بيته، فقال: " مَن أسلم طوعاً تُركت أرضه في يده، وأُخذ منه العشر ممّا سقت السماء والأنهار، ونصف العشر ممّا كان بالرِّشاء(12) في ما عمّروه منها، وما لم يعمّروه منها أخذه الإمام فقبّله ممّن يُعمّره، وكان للمسلمين،

____________

1- المبسوط 1: 234 ـ 235.

2- النهاية: 194.

3- الكافي في الفقه: 260.

4- شرائع الإسلام 1: 323.

5- منتهى المطلب 2: 935.

6- تذكرة الفقهاء 1: 427.

7- تحرير الأحكام 1: 142.

8- مختلف الشيعة 4: 438 مسألة 54.

9- الوسيلة: 132، المهذّب 1: 182.

10- الدروس 2: 40.

11- السرائر 1: 477.

12- الرِّشاء: الحبل الذي يتوصّل به إلى الماء. مجمع البحرين 1: 184 " رشا ".


الصفحة 25
وعلى المتقبّلين في حصصهم العشر أو نصف العشر "(1).

وفي الصحيح عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر قال: ذكرتُ لأبي الحسن الرضا (عليه السلام) الخراج وما سار به أهل بيته، فقال: " العشر ونصف العشر على مَن أسلم تطوّعاً تُركت أرضه في يده، واُخذ منه العشر ونصف العشر في ما عمّر منها، وما لم يعمّر أخذها الوالي فقبّله ممّن يعمره، وكان للمسلمين، وليس في ما كان أقلّ من خمسة أوساق شيء، وما اُخذ بالسيف فذلك للإمام يقبّله بالذي يرى، كما صنع رسول الله صلّى الله عليه وآله بخيبر "(2).

واعترض في (المختلف) بأنّ السؤال وقع(3) عن أرض الخراج، ولا نزاع فيه، بل النزاع في أرض مَن أسلم أهلها عليها.

ثم أجاب بأنّ الجواب وقع أوّلاً عن أرض مَن أسلم أهلها عليها، ثم انّه (عليه السلام) أجاب عن أرض العنوة(4).

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ العلاّمة في (المختلف) أجاب بهاتين الروايتين على مختار الشيخ والجماعة، وهما في الدلالة على مختار ابن حمزة وابن البرّاج أظهر.

ثمّ احتجّ لهما برواية(5) لا تدلّ على مطلوبهما، بل ولا تلتئم مع

____________

1- التهذيب 4: 38 حديث 96 و118 حديث 341، ورواه الشيخ الكليني في الكافي 3: 512 حديث 2، وأخرجه الحرّ العاملي في وسائل الشيعة 15: 157 ـ 158 الباب 72 من أبواب جهاد العدو وما يناسبه الحديث 1.

2- التهذيب 4: 119 حديث 342، وسائل الشيعة 15: 158 الباب 72 من أبواب جهاد العدو وما يناسبه الحديث 2.

3- في " ش1 " و" ش2 ": إنّما وقع.

4- مختلف الشيعة 4: 439 مسألة 54.

5- وهي رواية معاوية بن وهب عن الصادق (عليه السلام)، التي رواها الشيخ الطوسي في التهذيب 7: 152 حديث 672، والاستبصار 3: 108 حديث 381.