المقدّمة


الحمدُ لله ربّ العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، والصلاة والسّلام على خير مدعوٍّ ومجيب، ورسول وحبيب، علم التقى، وبدر الدجى، محمّد المصطفى (صلى الله عليه وآله)، وعلى عترته أُولي الحجى وذوي النهى، والعروة الوثقى، وسفينة النجاة، التي أمن مَن ركبها، وغرق مَن تركها، وعلى صحبهم والتابعين لهم بإحسان، الحافظين للوديعة، ومَن أحبّوا الشريعة، واللعنة الدائمة على مَن نازعهم ونصب لهم.

وبعد،

تعرّفنا في ما مضى على عدّة جوانب من حياة المحقّق الكركي: الشخصيّة، والسياسيّة، والعلميّة، وآرائه وفوائده.

ففي البحث عن حياته الشخصيّة تحدّثنا عن اسمه، ومولده وموطنه، وأُسرته، وأخلاقه وسجاياه، وآثاره ومآثره، وكراماته، ومراحل حياته المختلفة، ثمّ مدحه وإطرائه، وأخيراً وفاته ومدفنه.

وفي حياته السياسيّة تعرّضنا لعدّة مواضيع لها صلة بالكركي وعصره: كالتصوّف والصوفيّة، وموقف العلماء من الحكّام، ونشوء الدولة الصفويّة وكيفيّة تعامل العلماء معها، ثمّ تحدّثنا بشكل مفصّل عن علاقة الكركي بهذه الدولة ابتداءً من تأسيسها حتّى سنة 940 هـ، حيث عاصر الكركي حاكمين من حكّامها هما الشاه إسماعيل وابنه الشاه طهماسب.


الصفحة 2
وفي حياته العلميّة سلّطنا الضوء على بعض المجالات التي كان للكركي دور فعّال فيها، فتحدّثنا عن عصره ومعاصريه، وأساتذته وشيوخه، والروايات التي حصل عليها والتي منحها، ومؤلّفاته، والكتب التي قرأها والتي قُرئت عليه، ومكانته العلميّة، ونشاطه العلميّ، والمحاورات والردود العلميّة التي جرت بينه وبين بعض الأعلام.

ثمّ أفردنا بحثاً مستقلاًّ وكاملاً لآرائه ونظريّاته المودعة في مؤلّفاته، والتي لم يُفرد لها تصنيفاً مستقلاً، حيث أجرينا عمليّة استقصاء كامل لكافّة مؤلّفاته، واستخرجنا منها هذه الآراء والنظريّات، وهي آراؤه الكلاميّة، والأُصوليّة، والرجاليّة، وفوائده التأريخيّة، وملاحظاته عن بعض المؤلّفات، وشواهده الشعريّة، والجداول والرسوم التي استعملها.

وفي نهاية كلّ بحث أفردنا فصلاً خاصّاً بعنوان " الملاحظات "، سجّلنا فيه الملابسات التي حصلت في حياته، والاشتباهات التي وقع فيها بعض المؤلّفين عند ترجمتهم للكركي.

والآن تعال معي عزيزي القارئ لنطلّ على جانب آخر من جوانب عظمة هذا الرجل، حيث نتعرّف على بعض آرائه ونظرياته التي استطاع أن يصهرها في بودقة التأليف عبر كتبه المختلفة من حيث مواضيعها وحجمها وأسباب تأليفها.

إنّ الوقوف على مؤلّفات المحقّق الكركي، ودراستها بشكل مفصّل ودقيق، يكشف لنا ـ من جانب ـ المستوى العلمي الذي تمتّع به هذا العالم، ومن جانب آخر يُظهر لنا المنزلة الاجتماعيّة الكبيرة التي كان يحتلّها آنذاك، ليس في أوساط الناس عموماً، بل حتّى عند كبار رجال الدولة، وعلى رأسهم الشاه إسماعيل وابنه الشاه طهماسب، وقد تعرّضنا لهذه النقاط بشكل مفصّل

الصفحة 3
في ما مضى من الكتاب عند حديثنا عن حياته.

والملاحظ أنّ مؤلّفات الكركي تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأوّل:

الرسائل، والتي تتناول عادةً البحث عن موضوع معيّن، أو مسألة فقهيّة واحدة. وهذه الرسائل يختلف حجمها، فبعضها يقع في أربعين أو خمسين صفحة، والبعض الآخر يقع في عدّة صفحات.

الثاني:

الحواشي والشروح لبعض الكتب المعتمدة عندنا، كالشرائع والمختصر النافع للمحقّق الحلّي، والقواعد والإرشاد والمختلف للعلاّمة الحلّي، والألفيّة الشهيديّة.

الثالث:

جواب الأسئلة والاستفتاءات التي كانت ترد عليه من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وبمستويات مختلفة في التعبير، وقد قام بعض تلامذته وبعض العلماء القريبين من عصره بجمعها وترتيبها.

وقد استطعتُ بحمد الله تعالى وتوفيقه طيلة سنوات عديدة، أن أجمع وأُحقّق من مؤلّفات هذا العالم الجليل أربعة وخمسين مؤلّفاً، معتمداً على مائة وعشرين نسخة خطيّة موجودة في عدّة مكتبات في الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة: قم المقدّسة، مشهد المقدّسة، طهران، همدان، يزد، خوانسار، أصفهان. وقد عانيت الكثير من المصاعب في جمع هذه النسخ الخطيّة، فإنّ الحصول على نسخة خطيّة واحدة من أقرب المكتبات إلينا في مدينة قم المقدّسة لا يخلو من مصاعب جمّة، فكيف بهذا الكمّ الهائل من النسخ الخطيّة.


الصفحة 4

منهجيّة التحقيق


اعتمدت في تحقيقي لهذه المجموعة من رسائل الكركي وحواشيه على طريقة واحدة، أُلخّصها بعدّة نقاط:

(1) اتّبعت طريقة التلفيق بين النسخ الخطيّة، وذلك لعدم عثوري على نُسخ الأصل التي كتبها الكركي بيده. نعم، بعض الرسائل عثرتُ لها على نُسخ مقروءة على الكركي، إلاّ أنّي لم أكتف بها وأضفتُ لها نُسخاً أُخرى.

(2) عند حصولي على عدّة نسخ خطيّة لإحدى هذه المؤلّفات، أقوم بمقابلة بعضها مع البعض الآخر، وإثبات الصحيح أو الأصح في المتن وما قابلهما في الهامش.

وعند عدم حصولي إلاّ على نسخة واحدة، فإنّي أجعلها الأصل في عملي، وأُشير في الهامش إلى ملاحظاتنا واستظهاراتنا عليها.

(3) استخراج كلّ ما يحتاج إلى تخريج من آيات قرآنيّة كريمة، وأحاديث شريفة، وأقوال العلماء في شتى العلوم، وشواهد شعريّة، وأماكن وبقاع. وحاولت قدر المستطاع أن أعتمد على المصادر الرئيسيّة في كافة الاستخراجات، إلاّ تلك المصادر المفقودة أساساً أو التي لم أُوفّق للحصول عليها، فقد استعنتُ في الحصول على أقوالها بواسطة مصادر أُخرى ميسّرة.

(4) لم أُترجم كافة الأعلام الّذين وردت أسماؤهم، بل ترجمتُ لبعضهم حسب الضرورة التي رأيتها.

(5) عند شروعي في تحقيق الحواشي والشروح وضعتُ متن الكتاب المشروح في أعلى كلّ صفحة، ويتلوه الشرح أو الحاشية التي كتبها الكركي.


الصفحة 5
ثمّ قمتُ بحذف المتن واكتفيت بالإشارة إليه ; رعاية للاختصار، وتلبيةً لاقتراح بعض الإخوة الأفاضل من المحقّقين.

(6) رتّبتُ الرسائل حسب مواضعيها، فوضعتُ أوّلاً الرسالة النجميّة التي جمع فيها الكركي بين علمي الكلام والفقه وأدرج فيها أيسر ما يجب على المكلّفين معرفته في الأُصول والفروع، ثمّ رسالة استنباط الأحكام التي تعبّر عن المنهج العلمي للكركي، ثمّ الرسائل الفقهيّة مرتّبة بترتيب كتب الفقه ابتداءً من الطهارة وانتهاءً بالقضاء، ثمّ الرسائل المتفرّقة وجوابات المسائل الفقهيّة التي وردت عليه.

(7) نظّمتُ فهارس فنيّة كاملة، تعميماً للفائدة واتّباعاً للمنهج الحديث في التحقيق.


وآخر دعوانا أن الحمدُ لله ربّ العالمين

محمّد الحسّون


الصفحة 6

الصفحة 7


الأرض المندرسة





الصفحة 8

الصفحة 9

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين

الحمدُ لله وكفى، والصلاة والسّلام على رسوله المصطفى، وعلى آله الأئمّة الشرفاء.

وبعد،

هذه رسالة (الأرض المندرسة)، والتي يُعبّر عنها البعض بـ (الأرض البائرة)، أو (الأرض المخروبة بعد العمران)، أو (المواتيّة)، أو (أحكام الأرضين).

وهي رسالة لطيفة بيّن فيها مصنّفها المحقّق الكركي حكم الأرض المملوكة العامرة إذا اندرست وخربت بعد أن كانت ملكاً لمسلم، وفرّق في الحكم فيما إذا كان مالكها موجوداً أو لا، انتقلت إليه بالشراء أو الهبة أو الإحياء. ثم شرع ببيان حكم كلّ قسم من هذه الأقسام.

ولمعرفة المزيد عن هذه الرسالة انظر ما كتبناه عنها في حديثنا عن مؤلّفاته.

اعتمدتُ في تحقيق هذه الرسالة على أربع نسخ خطيّة، هي:

(1) النسخة الخطيّة المحفوظة في المكتبة المرعشيّة العامّة في مدينة قم المقدّسة ضمن المجموعة المرقّمة 4933 والمذكورة في فهرس مخطوطات المكتبة 13: 129، تأريخ كتباتها سنة 964 هـ. وتقع هذه النسخة في أربع أوراق بحجم 5 / 18 × 13 سم، وكلّ ورقة تحتوي على

الصفحة 10
ستة عشر سطراً، رمزنا لها بالحرف "ش1".

(2) النسخة الخطيّة المحفوظة في المكتبة المرعشيّة العامّة في مدينة قم المقدّسة أيضاً ضمن المجموعة المرقّمة 1409 والمذكورة في فهرس مخطوطات المكتبة 4: 186، تأريخ كتابتها سنة 1128 هـ. وتقع هذه النسخة في أربع أوراق بحجم 24 × 12 سم، وكلّ ورقة تحتوي على ثلاثة وعشرين سطراً، رمزنا لها بالحرف "ش2".

(3) النسخة الخطيّة المحفوظة في مكتبة جامع گوهرشاد في مدينة مشهد المقدّسة ضمن المجموعة المرقّمة 1109، والمذكورة في فهرس مخطوطات المكتبة 3: 1535، تأريخ كتابتها سنة 1031 هـ. وتقع هذه النسخة في أربع أوراق بحجم 5 / 7 × 10 سم، وكلّ ورقة تحتوي على خمسة عشر سطراً، رمزنا لها بالحرف "ك".

(4) النسخة المحفوظة من مكتبة الفاضل الخوانساري، في مدينة خواسنار ضمن المجموعة المرقّمة 239، والمذكورة في فهرس مخطوطات المكتبة 1: 200، كتبت في القرن العاشر. وتقع هذه النسخة في خمس أوراق بحجم 5 / 12 × 5 / 18، وكلّ ورقة تحتوي على عشرين سطراً، وقد رمزنا لها بالحرف "س".

والحمدُ لله رب العالمين.


الصفحة 11


الصفحة الاُولى من النسخة المحفوظة في المكتبة المرعشيّة "ش1"

الصفحة 12

الصفحة الأخيرة من النسخة المحفوظة في المكتبة المرعشيّة "ش1"

الصفحة 13

الصفحة الاُولى من النسخة المحفوظة في المكتبة المرعشيّة "ش2"

الصفحة 14

الصفحة الأخيرة من النسخة المحفوظة في المكتبة المرعشيّة "ش2"

الصفحة 15

الصفحة الاُولى من النسخة المحفوظة في مكتبة الفاضل الخوانساري "س"

الصفحة 16

الصفحة الأخيرة من النسخة المحفوظة في مكتبة الفاضل الخوانساري "س"

الصفحة 17

الصفحة الاُولى من النسخة المحفوظة في مكتبة جامع كوهرشاد "ك"

الصفحة 18

الصفحة الأخيرة من النسخة المحفوظة في مكتبة جامع كوهرشاد "ك"

الصفحة 19
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله حمداً كثيراً كما هو أهله، والصلاة على حبيبه ونبيَّه محمَّد وآله.

هذا تحقيقٌ لمسألة(1) مهمّة صورتها: أنّه اذا خربت الأرض المملوكة العامرة واندرست آثارها بعد أن كانت ملكاً لمسلم: فإمّا أن يكون مالكها موجوداً معلوماً، أو لا.

فإن كان الأوّل: فإمّا أن يكون قد انتقلت إليه بالشراء أو الهبة أو شبههما، أو بالإحياء.

فإن كان ملكه إياها بشراء ونحوه، لم تملك بالإحياء بعد خرابها بلا خلاف بين العلماء، نقل الإجماع على ذلك العلامة في (التذكرة)(2).

وإن كان ملكها بالإحياء ثمّ تركها حتّى عادت مواتاً، فللأصحاب في ذلك أقوال:

أحدها: أنّها كالمملوكة بالشراء وشبههه لا يصحّ إحياؤها لأحد، ولا تملك بالإحياء والعمارة، بل تكون للمالك أو لورثته، وهو الظاهر من كلام ابن إدريس(3).

الثاني: أنّ المحيي لها يملكها إذا كان ذلك في زمان غيبة الإمام (عليه السلام)،

____________

1- في "ش1" و"ش2": مسألة.

2- تذكرة الفقهاء 2: 401.

3- السرائر 1: 480.


الصفحة 20
وليس للأوّل انتزاعها منه، اختاره المحقّق نجم الدين بن سعيد في (الشرائع)(1).

وقريب منه اختيار العلاّمة في (التذكرة)، فإنّه ذهب إلى أنّ الأرض إذا خربت بعد الإحياء صارت مباحة كما كانت عليه أوّلاً(2).

الثالث: قول الشيخ في (النهاية): من أحيى أرضاً كان أملك بالتصرّف فيها إذا كان ذلك بإذن الإمام ; لأنّ هذه الأرض له. فإن كانت الأرض الميتة لها مالك معروف كان عليه أن يُعطي صاحب الأرض طسق الأرض، وليس للمالك انتزاعها من يده ما دام هو راغباً فيها(3).

وقريب منه كلام شيخنا الشهيد(4) في (الدروس)، فإنّه بعد أن ذكر أنّ الإحياء يشترط فيه أن لا تكون الأرض مملوكة لمسلم أو معاهد(5)، قال: فلو سبق ملك واحد منهما لم يصح الإحياء، نعم لو تعطّلت الأرض وجب عليه(6) أحد الأمرين: إمّا الإذن لغيره، أو الانتفاع. فلو امتنع فللحاكم الإذن، وللمالك طسقها على المأذون، فلو تعذّر الحاكم فالظاهر جواز الإحياء مع الامتناع من الأمرين وعليه طسقها(7).

ومحصّل الكلامين يرجع إلى أنّ المذكورة باقية على ملك الأوّل، وإلاّ لم يستحقّ طسقها، أي اُجرتها. غاية ما هناك أنّه لما أعرض عن عمارتها

____________

1- شرائع الإسلام 1: 323.

2- تذكرة الفقهاء 2: 401.

3- النهاية: 420.

4- الشهيد: لم ترد في "ش1".

5- في "ش1": لمعاهد.

6- عليه: لم ترد في "ش1".

7- الدروس 3: 56 ـ 57.


الصفحة 21
وأذن الإمام في إحيائها، كان الثاني أحقّ بها والملك للأوّل.

وأقواها الأوّل، حجّته العمومات مثل قوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاّ أن تكون تجارة}(1).

وقوله عليه السّلام: "الناس مسلّطون على أموالهم"(2).

وقوله (عليه السلام): "المسلم على المسلم حرام ماله"(3).

ولأنّ الملك واستحقاق التصرّف ومنع الغير منه، كان ثابتاً قبل عروض خراب الأرض، والأصل بقاؤه.

ولأنّ أسباب زوال الملك محصورة شرعاً، وليس هذا واحداً منها.

ولأنّ سليمان بن خالد سأل الصادق (عليه السلام) عن الرجل يأتي الأرض الخربة فيستخرجها ويجري أنهارها ويعمّرها ويزرعها، فماذا عليه؟ قال: "الصدقة"، قلتُ: فإن كان يعرف صاحبها؟ قال: "فليؤدِ إليه حقّه"(4).

وهي ظاهرة في أداء الأرض إليه واُجرتها.

ولأنّ القول بملكيّة هذه الأرض بالإحياء، مع القول بعدم ملكيّة المملوكة بسبب غير الإحياء إذا خربت فأحياها غير مالكها لا يجتمعان، والثاني ثابت بالإجماع، فينتفي الأوّل.

بيان التنافي: أنّ عروض الموت للأرض إن كان سبباً للخروج عن الملك وجب الحكم بالخروج في الموضعين معاً، وإلاّ وجب الحكم بعدم

____________

1- النساء: 29.

2- وقوله (عليه السلام): "الناس مسلّطون على أموالهم": لم ترد في "ش1" و"ك".

3- مُسند أحمد بن حنبل 4: 546 ـ 547 حديث 15589، مجمع الزوائد 4: 172.

4- التهذيب 7: 148 حديث 658، وسائل الشيعة 25: 411 باب 1 من أبواب كتاب إحياء الموات حديث 2.


الصفحة 22
الخروج فيهما معاً.

ولقوله (عليه السلام): "من أحيى أرضاً ميتة في غير حقّ مسلم فهو أحقّ بها"(1).

ولقوله (عليه السلام): "ليس لعرق ظالم حقّ"(2).

قال في (التذكرة) بعد إيراد هذا الحديث: قال هشام بن عروة في تفسيره العرق الظالم: أن يأتي الرجل الأرض الميتة لغيره فيغرس فيها(3).

ولرواية السكوني عن الصادق (عليه السلام) قال: "قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: مَن غرس شجراً أو حضر وادياً بدياً(4) لم يسبقه إليه أحد، أو أحيى أرضاً ميتة فهي له قضاء من الله ورسوله"(5).

وهذه الرواية وما جرى مجراها مقيّدة للأخبار المطلقة الدالة على الملك بالإحياء.

حجّة الثاني: أنّ هذه الأرض أصلها مباح، فإذا تركها حتى عادت إلى ما كانت عليه صارت مُباحة، كما لو أخذ ماء من دجلة ثم ردّه إليها ; لأنّ العلّة في تملّك هذه الأرض الإحياء والعمارة، فإذا زالت العلّة يزول المعلول وهو الملك، فإذا أحياها الثاني فقد أوجد سبب الملك، فيثبت له الملك، كما لو التقط ملتقطٌ شيئاً ثمّ سقط من يده وضاع عنه فالتقطه غيره،

____________

1- فتح الباري لابن حجر 5: 19، نصب الراية للزيعلي 4: 171، تلخيص الحبير لابن حجر 3: 62.

2- سنن أبي داود 3: 178 حديث 3073، سنن الترمذي 3: 662 حديث 1378، السنن الكبرى للبيهقي 6: 99.

3- تذكرة الفقهاء 2: 401.

4- في "ش1" و"ش2" و"ك": حضر بئراً، وفي الفقيه غرس شجراً بدياً.

5- الكافي 5: 280 حديث 6، الفقيه 3: 151 حديث 665، التهذيب 7: 151 حديث 670، الاستبصار 3: 107 حديث 379، وسائل الشيعة 25: 413 ـ 414، الباب 2 من أبواب كتاب إحياء الموات حديث 1.


الصفحة 23
فإنّ الثاني يكون أحقّ.

ولصحيحة أبي خالد الكابلي عن الباقر (عليه السلام) قال: "وجدنا في كتاب علي (عليه السلام): {إنّ الأرض لله يورثها مَن يشاء من عباده والعاقبة للمتقين}(1)أنا وأهل بيتي ورثنا الأرض، ونحن المتقّون، والأرض كلّها لنا، فمن أحيى أرضاً من المسلمين فليعمّرها وليؤدِّ خراجها إلى الإمام من أهل بيتي، وله ما أكل منها، وإن تركها أو خربها فأخذها رجل من المسلمين من بعده فعمرّها وأحياها فهو أحقّ بها من الذي تركها، فليؤدِّ خراجها إلى الإمام من أهل بيتي، وله ما أكل منها حتى يظهر القائم من أهل بيتي"(2) الحديث.

ولصحيحة معاوية بن وهب عن الصادق (عليه السلام) قال: سمعته يقول: "أيّما رجل أتى خربة بائرة فاستخرجها وكرى أنهارها وعمّرها فإن عليه فيها الصدقة، فإن كانت أرضاً لرجل قبله فغاب عنها وتركها وأخربها ثم جاء بعد يطلبها فإنّ الأرض لله عزّ وجلّ ولمن عمرّها"(3).

والجواب عن الأوّل: أنّه قياس مع الفارق، فإنّ الماء المردود إلى النهر يمتنع بقاؤه على الملك بعد اختلاطه بالماء المباح، إذ لو بقي مملوكاً لزم تحريم النهر جميعه، على أنّه لا يمتنع أن يكون ملكيّة الماء أضعف من ملكيّة الأرض، فإنّه لو فاض الماء عن النهر المستخرج من المباح كان مباحاً.

____________

1- الأعراف: 128.

2- الكافي 5: 279 حديث 5، التهذيب 7: 152 حديث 674، الاستبصار 3: 108 حديث 382، وسائل الشيعة 25: 414 ـ 415 الباب 3 من أبواب كتاب إحياء الموات حديث 2.

3- الكافي 5: 279 حديث 2، التهذيب 7: 152 حديث 672، وسائل الشيعة 25: 414 الباب 3 من أبواب كتاب إحياء الموات حديث 1.


الصفحة 24
وعن الثاني: أنّ عِلل الشرع معرّفات للأحكام، فلا يزول الحكم بزوالها، والتقاط المال بعد ضياعه سبب جديد في استحقاق التملّك، بخلاف إحياء المملوك.

وعن الثالث: القول بموجبه، فإنّه متى أعرض الأوّل عن ملكه حتى خرب وانقطع نظره عنه، جاز إحياؤه باذن الإمام (عليه السلام) لا بدونه، إذ لا يجوز إحياء الموات الأصلي إلاّ باذنه، فغيره أولى. فإذا رأى الإمام (عليه السلام) المصلحة في الاذن لغيره في عمارته فعمّره، فإن المحيي له الآن أحقّ به من غيره، وإن قاطعه عليه مدّة طويلة أو قصيرة كان في تلك المدّة أحقّ به من كلّ أحد.

لا يقال: ما ذكره خلاف ظاهر الرواية.

لأنّا نقول: المفهوم من قوله (عليه السلام): "تركها أو خربها" ذلك، ولو سلّمنا أنّه خلاف الظاهر كان الحمل عليه واجباً ; للجمع بين الأدلّة.

وعلى الرابع: بالحمل على الإذن من الإمام (عليه السلام)، والمقاطعة مدّة معلومة، وأنّ المراد من كون الأرض المذكورة لمن عمّرها الأحقيّة اللازمة عن ذلك ; جمعاً بين الرواية والدلائل المذكورة أوّلاً.

وقد يُحتج للثالث بالدلائل المذكورة في الأوّل والثاني ; لأنّ القول الثالث مُرّكب من أمرين: بقاء الملك للأوّل، وكون الثاني أحقّ به ويجب عليه طسقه، فيحتج على الأمر الأوّل بالدلائل الاُولى، وعلى الأمر الثاني بالدلائل الأخيرة.

والجواب عن ذلك: التنافي بين تلك الدلائل ; لأنّ بقاء الملك على الأوّل يمنع من أحقيّة الثاني، إلاّ إذا كان الإحياء باذن الإمام (عليه السلام) ومقاطعته مدّة معلومة ونحو ذلك على ما يراه نيابة عن المالك، فإنّه حينئذ ينفذ ذلك

الصفحة 25
على المالك، ويكون ذلك بمنزلة ما لو قاطع المالك بنفسه، والتنزيل على هذا اعتراف بصحة القول الأوّل.

واعلم أنّ قول شيخنا الشهيد (رحمه الله): إنّ الأرض إذا تعطّلت يجب على المالك أحد الأمرين: إمّا الانتفاع، أو الاذن للغير فيه، ومع الامتناع باذن الحاكم، فإن لم يوجد استقل مريد الإحياء به(1)، ممّا لا يدل عليه دليل أصلاً، فإنّ الدلائل المسوقة آخراً إن اُجريت على ظاهرها دلّت على خروج الأرض عن ملكه ودخولها في ملك المحيي بالإحياء، وإن صُرفت عن ظاهرها لم تُصرف بالتشهي، بل بحسب ما يقتضيه الصارف لها، والدلائل المذكورة أوّلاً تقتضي الصرف إلى ما ذكرناه، والله أعلم بالصواب.

في آخر نسخة "س": نقلت من خطّ محقّقها لازال ظلّه العالي على العالمين.

____________

1- الدروس 3: 56 ـ 57.