المقدّمة


الحمدُ لله ربّ العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، والصلاة والسّلام على خير مدعوٍّ ومجيب، ورسول وحبيب، علم التقى، وبدر الدجى، محمّد المصطفى (صلى الله عليه وآله)، وعلى عترته أُولي الحجى وذوي النهى، والعروة الوثقى، وسفينة النجاة، التي أمن مَن ركبها، وغرق مَن تركها، وعلى صحبهم والتابعين لهم بإحسان، الحافظين للوديعة، ومَن أحبّوا الشريعة، واللعنة الدائمة على مَن نازعهم ونصب لهم.

وبعد،

تعرّفنا في ما مضى على عدّة جوانب من حياة المحقّق الكركي: الشخصيّة، والسياسيّة، والعلميّة، وآرائه وفوائده.

ففي البحث عن حياته الشخصيّة تحدّثنا عن اسمه، ومولده وموطنه، وأُسرته، وأخلاقه وسجاياه، وآثاره ومآثره، وكراماته، ومراحل حياته المختلفة، ثمّ مدحه وإطرائه، وأخيراً وفاته ومدفنه.

وفي حياته السياسيّة تعرّضنا لعدّة مواضيع لها صلة بالكركي وعصره: كالتصوّف والصوفيّة، وموقف العلماء من الحكّام، ونشوء الدولة الصفويّة وكيفيّة تعامل العلماء معها، ثمّ تحدّثنا بشكل مفصّل عن علاقة الكركي بهذه الدولة ابتداءً من تأسيسها حتّى سنة 940 هـ، حيث عاصر الكركي حاكمين من حكّامها هما الشاه إسماعيل وابنه الشاه طهماسب.


الصفحة 2
وفي حياته العلميّة سلّطنا الضوء على بعض المجالات التي كان للكركي دور فعّال فيها، فتحدّثنا عن عصره ومعاصريه، وأساتذته وشيوخه، والروايات التي حصل عليها والتي منحها، ومؤلّفاته، والكتب التي قرأها والتي قُرئت عليه، ومكانته العلميّة، ونشاطه العلميّ، والمحاورات والردود العلميّة التي جرت بينه وبين بعض الأعلام.

ثمّ أفردنا بحثاً مستقلاًّ وكاملاً لآرائه ونظريّاته المودعة في مؤلّفاته، والتي لم يُفرد لها تصنيفاً مستقلاً، حيث أجرينا عمليّة استقصاء كامل لكافّة مؤلّفاته، واستخرجنا منها هذه الآراء والنظريّات، وهي آراؤه الكلاميّة، والأُصوليّة، والرجاليّة، وفوائده التأريخيّة، وملاحظاته عن بعض المؤلّفات، وشواهده الشعريّة، والجداول والرسوم التي استعملها.

وفي نهاية كلّ بحث أفردنا فصلاً خاصّاً بعنوان " الملاحظات "، سجّلنا فيه الملابسات التي حصلت في حياته، والاشتباهات التي وقع فيها بعض المؤلّفين عند ترجمتهم للكركي.

والآن تعال معي عزيزي القارئ لنطلّ على جانب آخر من جوانب عظمة هذا الرجل، حيث نتعرّف على بعض آرائه ونظرياته التي استطاع أن يصهرها في بودقة التأليف عبر كتبه المختلفة من حيث مواضيعها وحجمها وأسباب تأليفها.

إنّ الوقوف على مؤلّفات المحقّق الكركي، ودراستها بشكل مفصّل ودقيق، يكشف لنا ـ من جانب ـ المستوى العلمي الذي تمتّع به هذا العالم، ومن جانب آخر يُظهر لنا المنزلة الاجتماعيّة الكبيرة التي كان يحتلّها آنذاك، ليس في أوساط الناس عموماً، بل حتّى عند كبار رجال الدولة، وعلى رأسهم الشاه إسماعيل وابنه الشاه طهماسب، وقد تعرّضنا لهذه النقاط بشكل مفصّل

الصفحة 3
في ما مضى من الكتاب عند حديثنا عن حياته.

والملاحظ أنّ مؤلّفات الكركي تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأوّل:

الرسائل، والتي تتناول عادةً البحث عن موضوع معيّن، أو مسألة فقهيّة واحدة. وهذه الرسائل يختلف حجمها، فبعضها يقع في أربعين أو خمسين صفحة، والبعض الآخر يقع في عدّة صفحات.

الثاني:

الحواشي والشروح لبعض الكتب المعتمدة عندنا، كالشرائع والمختصر النافع للمحقّق الحلّي، والقواعد والإرشاد والمختلف للعلاّمة الحلّي، والألفيّة الشهيديّة.

الثالث:

جواب الأسئلة والاستفتاءات التي كانت ترد عليه من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وبمستويات مختلفة في التعبير، وقد قام بعض تلامذته وبعض العلماء القريبين من عصره بجمعها وترتيبها.

وقد استطعتُ بحمد الله تعالى وتوفيقه طيلة سنوات عديدة، أن أجمع وأُحقّق من مؤلّفات هذا العالم الجليل أربعة وخمسين مؤلّفاً، معتمداً على مائة وعشرين نسخة خطيّة موجودة في عدّة مكتبات في الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة: قم المقدّسة، مشهد المقدّسة، طهران، همدان، يزد، خوانسار، أصفهان. وقد عانيت الكثير من المصاعب في جمع هذه النسخ الخطيّة، فإنّ الحصول على نسخة خطيّة واحدة من أقرب المكتبات إلينا في مدينة قم المقدّسة لا يخلو من مصاعب جمّة، فكيف بهذا الكمّ الهائل من النسخ الخطيّة.


الصفحة 4

منهجيّة التحقيق


اعتمدت في تحقيقي لهذه المجموعة من رسائل الكركي وحواشيه على طريقة واحدة، أُلخّصها بعدّة نقاط:

(1) اتّبعت طريقة التلفيق بين النسخ الخطيّة، وذلك لعدم عثوري على نُسخ الأصل التي كتبها الكركي بيده. نعم، بعض الرسائل عثرتُ لها على نُسخ مقروءة على الكركي، إلاّ أنّي لم أكتف بها وأضفتُ لها نُسخاً أُخرى.

(2) عند حصولي على عدّة نسخ خطيّة لإحدى هذه المؤلّفات، أقوم بمقابلة بعضها مع البعض الآخر، وإثبات الصحيح أو الأصح في المتن وما قابلهما في الهامش.

وعند عدم حصولي إلاّ على نسخة واحدة، فإنّي أجعلها الأصل في عملي، وأُشير في الهامش إلى ملاحظاتنا واستظهاراتنا عليها.

(3) استخراج كلّ ما يحتاج إلى تخريج من آيات قرآنيّة كريمة، وأحاديث شريفة، وأقوال العلماء في شتى العلوم، وشواهد شعريّة، وأماكن وبقاع. وحاولت قدر المستطاع أن أعتمد على المصادر الرئيسيّة في كافة الاستخراجات، إلاّ تلك المصادر المفقودة أساساً أو التي لم أُوفّق للحصول عليها، فقد استعنتُ في الحصول على أقوالها بواسطة مصادر أُخرى ميسّرة.

(4) لم أُترجم كافة الأعلام الّذين وردت أسماؤهم، بل ترجمتُ لبعضهم حسب الضرورة التي رأيتها.

(5) عند شروعي في تحقيق الحواشي والشروح وضعتُ متن الكتاب المشروح في أعلى كلّ صفحة، ويتلوه الشرح أو الحاشية التي كتبها الكركي.


الصفحة 5
ثمّ قمتُ بحذف المتن واكتفيت بالإشارة إليه ; رعاية للاختصار، وتلبيةً لاقتراح بعض الإخوة الأفاضل من المحقّقين.

(6) رتّبتُ الرسائل حسب مواضعيها، فوضعتُ أوّلاً الرسالة النجميّة التي جمع فيها الكركي بين علمي الكلام والفقه وأدرج فيها أيسر ما يجب على المكلّفين معرفته في الأُصول والفروع، ثمّ رسالة استنباط الأحكام التي تعبّر عن المنهج العلمي للكركي، ثمّ الرسائل الفقهيّة مرتّبة بترتيب كتب الفقه ابتداءً من الطهارة وانتهاءً بالقضاء، ثمّ الرسائل المتفرّقة وجوابات المسائل الفقهيّة التي وردت عليه.

(7) نظّمتُ فهارس فنيّة كاملة، تعميماً للفائدة واتّباعاً للمنهج الحديث في التحقيق.


وآخر دعوانا أن الحمدُ لله ربّ العالمين

محمّد الحسّون


الصفحة 6


الخياريّة
«الخيار في البيع»





الصفحة 7

الصفحة 8

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين

الحمدُ لله وكفى، والصلاة والسّلام على رسوله المصطفى، وعلى آله الأئمّة الشرفاء.

وبعد،

هذه رسالة علميّة ظريفة، ذكرت بعدة أسماء كـ " الخياريّة "، و" الخيار في البيع "، و" تصرف المشتري في زمن الخيار "، و" تحقيق البيع بشرط الخيار ".

بحث فيها مصنّفها المحقّق الثاني الكركي (رحمه الله) تصرّف المشتري في المبيع زمن الخيار، حيث قسّم الخيار إلى ثلاثة أقسام: إمّا للبائع، أو للمشتري، أو لهما. ثمّ شرع ببيان هذه الأقسام، وجعل هذه الرسالة في مقامين:

الأوّل: في منع المشتري من التصرّفات المنافية، كبيع العين وهبتها وإجارتها إذا كان الخيار للبائع.

الثاني: بطلان خيار البائع إذا وقع من المشتري تصرّف بإذن البائع.

اعتمدتُ في تحقيق هذه الرسالة على النسخة الخطيّة المحفوظة في المكتبة المرعشيّة العامّة في مدينة قم المقدّسة ضمن المجموعة المرقّمة 4933 والمذكورة في فهرس مخطوطات المكتبة 13: 131، تأريخ كتابتها سنة 964 هـ. وتقع هذه النسخة في خمس عشرة ورقة بحجم 5/18× 13 سم، وكلّ ورقة تحتوي على ستة عشر سطراً.

والحمد لله ربّ العالمين.


الصفحة 9


الصفحة الاُولى من النسخة المحفوظة في المكتبة المرعشيّة

الصفحة 10

الصفحة الأخيرة من النسخة المحفوظة في المكتبة المرعشيّة

الصفحة 11

الصفحة 12
بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمّ اهدنا لما اختلف فيه من الحقّ بإذنك.

قد تقرّر أنّ البيع بشرط الخيار على ثلاثة أنواع: فإن الخيار إمّا للبائع، أو للمشتري، أو لهما.

فمتى كان للبائع خيار انتفى من المشتري التصرّف بما ينافيه، كبيع العين وهبتها وإجارتها، وإنكاح العبد والجارية.

فمتى فعل شيئاً من ذلك وقع تصرّفه موقوفاً، ولم يقع ماضياً نافذاً، إلاّ أن يتقدّم عليه الإذن من البائع، أو يلحقه الرضى منه، فحينئذ يكون نافذاً ويبطل خيار البائع.

فهنا مقامان:

الأوّل

منع المشتري من التصرّفات المذكورة بالمعنى المذكور، ووجهه: أنّ صحة التصرّفات المذكورة منافية لمقتضى الخيار المشترط في البيع، فوجب أن تكون مُمتنعة.

أمّا الاُولى ; فلأنّ مقتضى استحقاق الخيار على الوجه المذكور أن يكون المبيع بحالة يتمكّن البائع في كلّ آن من فسخ العقد، والاستقلال بالتسلّط على العين من المنفعة تسلّطاً تاماً، كما كان قبل العقد، في جميع مدّة أجل الخيار المشترط، ومع صحة التصرّفات المذكورة يمتنع ذلك.

وبيانه: إنّا لو حكمنا بصحة بيع المشتري لا تنقل المبيع إلى المشتري

الصفحة 13
الثاني على وجه اللزوم، فلم يكن للبائع حينئذ الفسخ وارتجاع المبيع كما كان له قبل البيع ; لأنّ العقد اللازم بالأصالة متى لم يكن له مانع من اللزوم امتنع فسخه.

فإن قيل: لِمَ لا يجوز أن يقع متزلزلاً ; لابتنائه على عقد متزلزل، فيكون حاله كحاله، متى شاء البائع فسخ العقدين.

قلنا: إنّ العقد الثاني وقع خالياً من اشتراط الخيار ; لأنّه المفروض، فإن أمكن تنفيذه على حالته تلك، بحيث لا يثبت معه خيار ولا يتطرّق إليه فسخ نفذ، وإلاّ لم يقع أصلاً ; إذ لا واسطة بين الأمرين، فإذا انتفى الأوّل تعيّن الثاني.

ولا ريب أنّ تنفيذه على ما هو عليه باعتبار ذاته ـ أعني خالياً من أسباب الفسخ ـ غير ممكن بالنظر إلى حال المبيع ; لتعلّق حقّ البائع به من حيث استحقاقه فسخ البيع واسترداده.

لا يقال: ثبوت الخيار في العقد الثاني من حيث كون مورده ـ وهو المبيع ـ متعلّق الخيار بالبيع الأوّل، فيردّ عليه العقد الثاني بحسب حالته تلك ; لامتناع ورود البيع عليه إلاّ كذلك، نظراً إلى حقّ البائع الأوّل، وهو الخيار.

لأنّا نقول: لمّا كان السبب الناقل هو البيع كان تأثيره بحسب حال متعلّقه، فإذا كان نفس العقد من حيث هو خالياً من مقتضيات الخيار امتنع ثبوته ; لأنّ العقد هو المؤثّر في البيع دون العكس، فلا يتأثّر به.

ولقوله تعالى: {أوفوا بالعقود}(1)، ووجه الاستدلال: أنّه تعالى أمر

____________

1- المائدة: 1.


الصفحة 14
بالوفاء بالعقود، والمراد بذلك ترتيب أثرها عليه بحسب حالها، وقد فرضنا أنّ العقد الثاني وقع خالياً من اشتراط الخيار، واللازم إمّا نفوذه أو بطلانه ; لأنّه لمّا وقع مطلقاً دار الحال بين أمرين: إمّا تنفيذه كذلك إن أمكن ; لأنّ أثره الذي يراد من الوفاء به ترتّبه عليه هو هذا، والحكم ببطلانه إن تعذّر، إذ لا نعني بالباطل إلاّ ما يترتّب أثره عليه، ولا نُريد بالبطلان هنا إلاّ كونه كالفضولي، ولمّا امتنع الأوّل ; لأنّ المبيع الذي هو متعلّق العقد ومورده يمنع ورود هذا العقد عليه صحيحاً لاستلزامه بطلان حقّ البائع من الخيار، تعيّن الثاني.

وأمّا الثانية ; فلأنّ الوفاء بالعقد الأوّل ـ أعني المتضمّن لاشتراط الخيار ـ لازم ; لقوله تعالى: {أوفوا بالعقود}، وقد علم أنّ المراد بالوفاء به ترتيب مقتضاه بحسب حاله عليه ; ولقوله (عليه السلام): " المؤمنون عند شروطهم إلاّ مَن عصى الله "(1).

وهكذا القول في تصرّف المالك للعين في كلّ موضع يتعلّق بها حقّ الآخر، كما لو باع الراهن، فإنّا نحكم بكونه موقوفاً على إجازة المرتهن، ولا نقول بمضي البيع ونحكم بصحته ثم يتسلّط المرتهن على الفسخ ما دام حقّ الرهانة باقياً.

وكذا تصرّف الوارث في التركة مع الدين قبل أدائه بدون رضى صاحبه.

____________

1- الكافي 5: 169 حديث 1، الفقيه 3: 127 حديث 553، التهذيب 7: 22 حديث 93 و94، صحيح البخاري 3: 120، مستدرك الصحيحين 2: 49، المعجم الكبير للطبراني 4: 275 حديث 4404، كنز العمال 4: 363 حديث 10918. وفيها جميعاً " المسلمون عند شروطهم ".


الصفحة 15
وكذا القول في المفلّس لو استقل بمبيع مالِ نفسه قبل القسمة وإن كان بثمن المثل، وأمثالهم وأمثال البيع في الحكم الذي ذكرناه الصلح على المبيع، وجعله صداقاً في النكاح، وعوضاً في الخلع، ووقفه وهبته، سواء كانت الهبة لازمة أم لا، وكذا الوصية.

وبالجملة كلّ تصرّف يقتضي ـ على تقدير صحته ـ نقل العين إلى غير المشتري، أو المنفعة كالإجارة، وما في معناها من الصلح عليها، وما جرى هذا المجرى كجعلها عوضاً في شيء من العقود الناقلة.

وفي حكم نقل العين رهنها، وفي حكم نقل المنفعة تزويج الأمة لا العبد لو كانا مبيعين، ولا يُستثنى من نقل العين إلاّ العتق كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

أمّا الصلح على المبيع فظاهر ; لأنّه في معنى البيع، والمنافاة بين بقاء الخيار وبين صحته ظاهرة، وكذا القول في جعله صداقاً وعوضاً في الخلع ووقفه.

وكذا الهبة اللازمة، وأمّا غير اللازمة ; فلأنّها تقتضي نقل الملك إلى المُتهب على تقدير صحتها، وذلك مناف لبقاء الخيار.

فإن قيل: لا منافاة ; لأنّ النقل على وجه غير لازم.

قلنا: بل المنافاة موجودة ; لأنّ عدم اللزوم فيها إنّما هو بالنسبة إلى الواهب، والمُطلق هنا عدم اللزوم بالنسبة إلى البائع.

فإن قيل: حيث حكم بصحتها مع عدم لزومها بالنسبة إلى المتهب، فأي مانع من الحكم بعدم لزومها أيضاً بالنسبة إلى البائع مع كونها صحيحة.

قلنا: عدم اللزوم بالنسبة إلى المُتهب في الفرد المذكور ثابت بأصل الشرع، فوجب الحكم به مع صحتها، وأمّا ثبوت الخيار للبائع معها فلا

الصفحة 16
دليل عليه، بل هنا ما يدل على انتفائه وهو عقد الهبة، فإنّه وقع خالياً من مقتضيات الخيار، فإن وقع صحيحاً وجب أن يقع خالياً من جميع أنواع الخيار، إلاّ ما كان ثابتاً بأصل الشرع.

فإن قيل: خيار البائع ثابت شرعاً.

قلنا: نريد بالثابت بأصل الشرع ما أثبته الشارع مع ذلك العقد المخصوص، والفرض انتفاء النصّ في محلّ النزاع.

فإن قيل: لمّا كان الخيار ثابتاً قبل الهبة وجب الحكم ببقائه بحكم الاستصحاب، فيكون المُثبت له سبباً آخر غير العقد.

قلنا: صحة الهبة تقتضي تسلّط المُتهب على إتلاف العين، وذلك ينافي بقاء خيار البائع، فإمّا أن تصح الهبة ويسقط الخيار، أو يبقى فتكون الهبة غير صحيحة ; لا متناع نفوذها على وجهها مع بقاء الخيار، ولا نعني بغير الصحيحة إلاّ ذلك.

فإن قيل: فكيف صحّت مع خيار الواهب.

قلنا: هذا الخيار معه آثار عقد الهبة ومقتضاً له، ومع ذلك فليس مُنافياً لباقي آثار هذا العقد، فإنّ للمُتهب معه أن يتلف العين، وأن يتصرّف فيها بنقل وغيره وإن لم يكن بإذن الواهب، وحينئذ فتصير الهبة لازمة، فهذا خيار يتمكّن المُتهب من إسقاطه بنفسه استقلالاً.

وليس خيار البائع بهذه الحالة، فيمتنع ثبوته مع الحكم بصحة الهبة، ولمّا امتنع سقوطه بمجرّد تصرّف المشتري ; لأنّ فيه خروجاً عن الشرط في عقد البيع، وجب القول بفساد الهبة.

وأمّا الوصيّة ; فلأنّها لو صحّت ; لتسلّط الموصى له على القبول بموت الموصي، وصار مالكاً بحكم الوصيّة مسلّطاً على جميع التصرّفات،

الصفحة 17
وذلك مناف لبقاء الخيار، فامتنع الحكم بصحّتها.

وأمّا رهن العين فإنّه يثبت حقّاً لازماً للمُرتهن، يقتضي تسلّطه على بيعها وأخذ دينه من قيمتها، وذلك ينافي بقاء خيار البائع، فوجب الحكم بعدم صحّته.

وأمّا الإجارة ; فلأنّها تقتضي نقل المنفعة إلى المستأجر مدّة معلومة، وذلك ينافي بقاء خيار البائع ; لأنّ مقتضى بقائه أن يكون البائع في جميع زمان الخيار مُتمكّناً من الفسخ واسترداد العين من المنفعة كما جرى عليها عقد البيع.

فإن قيل: المنفعة في زمان الخيار، فله أن يتصرّف فيها كيف شاء، فيستوفيها بنفسه وبغيره، وأن يسلّط الغير عليها بعارية العين ونحوها، فلا مانع من نقلها إلى الغير بعقد الإجارة ; لأنّه إنّما يتصرّف في ما هو حقّ له.

قلنا: أمّا كون المنفعة في زمان الخيار ملكاً للمشتري في الجملة فصحيح ; بناءً على القول السابق، لكن لا يلزم أن يجوز له فيها جميع التصرّفات ; لأنّ ملكه إياها كملكه للعين ملكاً غير مستقر، بل هو ملك متزلزل قابل للزوال بفسخ البائع العقد بمتقضى الخيار الثابت له، فيجوز له من التصرّفات ما لا ينافي الخيار المذكور، كاستيفائها بنفسه وبوكيله، واستيفاء المستعير منه، ونحو ذلك ; لأنّ شيئاً من ذلك لا ينافي خيار البائع بحال من الأحوال.

فأمّا نقلها إلى الغير بعقد الإجارة ونحوها فإنّه لا يصح، كما لا يصح نقل العين ; لتعلّق حقّ البائع من حيث الخيار بكلّ منهما.

فإن قيل: إنّ عقد البيع إنّما يجري على العين دون المنفعة، فلا تعلّق له بها، والخيار إنّما هو في المبيع دون غيره، فلا يكون في المنفعة خيار.


الصفحة 18
قلنا: عقد البيع وإن جرى على العين إلاّ أنّه إنّما يجري عليها من حيث المنفعة وباعتبارها، ولهذا كانت صحّة بيع الأعيان دائرة على كونها منتفعاً بها انتفاعاً مُحلّلاً، وتفاوتت الأثمان والقيم بتفاوتها قلّة وكثرة، فمن ثمّ وقع الاختلاف في صحّة بيع بعض الأشياء المتردّد في كونه منتفعاً به وعدمه، فمن ذلك العبد الموصى بمنافعه دائماً، ولمّا كانت منفعة العتق باقية مع نفوذ الوصية المذكورة وهي من أكبر المنافع، صحّحنا بيعه.

فظهر من هذا أنّ محطّ نظر المُتبايعين في المبيع مع العين المنفعة، فهي داخلة في البيع على جهة التبعيّة، فكما يتعلّق الخيار المشترط بالعين، كذا يتعلّق بالمنفعة تبعاً. فيجب أن يكون البائع في جميع الأوقات مُتمكّناً من فسخ البيع، والرجوع إلى كلّ من العين والمنفعة على حسب الشرط.

ولو جوّزنا الإجارة المذكورة وحكمنا بصحَّتها، امتنع رجوعه إلى المنفعة، فيرجع إلى العين بدون المنفعة تلك المدَّة، وذلك خلاف مقتضي الخيار، على أنَّ بديهيَّة العقل قاضية ببطلان ذلك، فإنَّ المشتري لو آجر العين مدَّة طويلة جداً، لكان فائدة فسخ البائع بالخيار ردَّه للثمن، وصيرورته مالكاً للعين يراها من بعد في يد الغير، وذلك أوضح فساداً في أن يحتاج إلى البيان.

فإن قيل: لم لا تصحّ الإجارة ويتسلَّط على فسخها إذا أراد؟

قلنا: قد أجبنا على هذا غير مرَّة، فإنَّ عقد الإجارة المجرَّد عن اشتراط الخيار مقتضاه اللزوم مطلقاً، فإن أمكن ذلك وقع صحيحاً، والاّ كان باطلاً. ولمّا كانت صحَّته كذلك ممتنعة ; لمنافاتها استحقاق الخيار، امتنع القول بصحته، فوجب أن يكون كالفضولي.

وإمّا تزويج الأمة ; فلأنَّه يقتضي استحقاق منافع البضع وملكيّة الزوج

الصفحة 19
إياه لو صحّ، وهي أكبر منافعها، فكان كالإجارة وأبلغ.

وإمّا في العبد ; فلأنّه على تقدير الصحة يقتضي شغل ذمته بحقوق الزوجيّة وصرف كثير من منافعه إليها، وذلك يزاحم بحقوق السيّد ويخلّ بكثير من المنافع.

إذا تقرّر هذا فاعلم إنّا لم نقف في هذه المسألة على خلاف لأحد من الأصحاب، وبعض كلامهم صريح في ما قلناه:

قال العلاّمة في (التذكرة): مسألة: لو أعتق المشتري بإذن البائع في مدّة خيارهما أو خيار البائع، نفذ وحصلت الإجازة من الطرفين. إلى أن قال: ولو باع أو وقف أو وهب وأقبض بغير إذن البائع، فالأولى الوقوف على الإجازة، ويكون ذلك إجازة، وقالت الشافعيّة: لا ينفذ شيء من هذه العقود، وهل تكون إجازة؟ قال أبو إسحاق منهم: لا تكون إجازة ; لأنّ الإجازة لو حصلت لحصلت ضمناً للتصرّف، فإذا ألغي التصرّف فلا إجازة. وقال بعضهم: يكون إجازة ; لدلالته على الرضى والاختيار، وهو أصح عندهم كما أخترناه(1).

وقال في (القواعد): ولو باع المشتري أو وقف أو وهب في مدّة خيار البائع أو خيارهما، لم ينفذ إلاّ باذن البائع(2).

وقيل هذا بيسير صرّح بأنّ الإجازة والتزويج كالبيع(3)، وكذا في (التذكرة)(4).

وقال الشيخ في (المبسوط) في باب الخيار: فأمّا إذا اتفقا على

____________

1- تذكرة الفقهاء 1: 538، المجموع 9: 214 ـ 215، مغني المحتاج 2: 49.

2- قواعد الأحكام 1: 144 السطر 10.

3- قواعد الأحكام 1: 144، السطر 9.

4- تذكرة الفقهاء 1: 537.