الصفحة 20
التصرّف فيه وتراضيا، مثل إن أعتق المشتري أو باع في مدّة الخيار بإذن البائع، أو وكلّ المشتري البائع في عتق الجارية أو بيعها، فإنّ الخيار ينقطع في حقّهما، ويلزم البيع وينفذ العتق والبيع ; لأنّ في تراضيهما بذلك رضى بقطع الخيار ووقوع العتق والبيع بعد ذلك(1)، هذا كلامه.

وفيه دلالة على أنّ مجرّد إيقاع البائع العتق بالوكالة عن المشتري يتضمّن رضاه بلزوم العتق المتضمّن بخياره، فيسقط خياره.

وقوله: ووقوع العتق والبيع بعد ذلك، صريح في أنّ وقوعهما إنّما يكون بعد سقوط خيار البائع برضاه، الذي استلزمه قبول الوكالة عنه في التصرّف والعمل بمقتضاه، وفيه إيماء إلى أن ثبوت الخيار مناف لوقوع العتق والبيع.

فإن قيل: قد قال قبل هذا بنحو من صفحة: فإذا ثبت ذلك فلا يخلو: إمّا أن يتصرّف المشتري فيه، أو لا يتصرّف. فإن تصرّف فيه بالهبة والعتق أو التحليل أو غير ذلك، لزم العقد من جهته، ويبطل خياره، ونفذ تصرّفه، وكان خيار البائع باقياً(2). وهذا يدلّ على صحة تصرّف المشتري مع بقاء خيار البائع.

قلنا: ليس المراد بنفوذ تصرّف المشتري إلاّ؟ صحته من طرفه خاصة، فلا يتمكّن من فسخه وإبطاله بحال. فلو أجازه البائع، أو انقضت مدّة الخيار ولمّا يفسخ البائع، كان ذلك التصرّف ماضياً لازماً.

وهذا مثل قوله قبله: لزم العقد من جهته ويبطل خياره(3)، أي لزم عقد البيع المشتمل على الخيار لكلّ منهما من جهة المشتري.

____________

1- المبسوط 2: 84.

2- المبسوط 2: 83.

3- المبسوط 2: 84.


الصفحة 21
وليس مراده نفوذه من طرف المشتري والبائع معاً، ولا في العبارة ما يدلّ على ذلك. ولو حُمل كلامه على هذا المعنى الذي لا يدلّ عليه دليل لفسد قوله: ووقوع العتق والبيع بعد ذلك ; لأنّه على ذلك التأويل يجب أن يكون وقوعهما غير معتبر فيه سبق رضى البائع المُسقط لخياره، فكان مستدركاً.

ثم هنا مباحث:

الأوّل: استثنى جماعة من الأصحاب وغيرهم من عدم نفوذ تصرّف المشتري في البيع إذا كان للبائع خيار، عِتقَ المشتري المبيع لو كان مملوكاً محكوماً بنفوذه ; محتجّين بأنّه مالك، فإنّ الأصح أنّ المبيع ينتقل بالعقد إلى ملك المشتري، ولا يتوقّف على انقضاء الخيار لو كان، والعتق مبني على التغليب، ولهذا يؤثّر في ملك الغير بالسراية، فلا يضرّ تعلّق حقّ البائع به من جهة الخيار ; لأنّه أضعف من حقّ الشريك، وبه صرّح العلاّمة في غير موضع(1).

فعلى هذا، يبطل خيار البائع، ويكون كما لو تلف المبيع، أم لا؟ وجهان، يلوح من (التحرير) اختيار الأوّل، ووجهه فيه جمعاً بين الحقّين، فإذا فسخ البائع أخذ القيمة(2).

وقال جمع بعدم صحة العتق كغيره من التصرّفات كالبيع ونحوه، صيانةً لحقّ البائع عن الإبطال(3).

____________

1- مختلف الشيعة 5: 93، قواعد الأحكام 1: 144.

2- التحرير 1: 168.

3- كالشيخ الطوسي في الخلاف 3: 22 مسأله 29 كتاب البيع، والمبسوط 2: 84.


الصفحة 22
ويمكن الفرق بين هذا وبين السراية، بأنّ سريان العتق إلى ملك الشريك تابع لنفوذ العتق في ملكه، الذي لا حقّ للغير فيه، فلمّا ثبت العتق في ملكه تحقّقت السراية، بخلاف ما هنا، فإنّ حقّ البائع متعلّق بمجموع المبيع، ولادليل على إبطاله.

فعلى هذا فلو أجاز البائع ففي الحكم بالنفوذ وجهان:

أحدهما: النفوذ ; لحصول المقتضي، وهو صدور العتق من مالك جائز التصرّف، وانتفاء المانع، إذ ليس إلاّ حقّ البائع، وقد زال برضاه.

والثاني: العدم فيبطل ; لأنّ العتق لا يقع إلاّ منجّزاً، ولا يقف على الإجازة.

الثاني: لو باع المشتري في زمان خيار البائع المبيع بخيار لنفسه، فهو كما لو باع بدون خيار ; لأنّ نقل الملك يحصل بذلك، وهو مناف لاستحقاق البائع الخيار، فإنّ المُستحق في الموضعين متغاير.

وكذا لو وهب ولم يقبض، فإنّ عقد الهبة وإن لم يستقل بنقل الملك من دون القبض فإنّه جزء السبب، فلو صحّ لكان بحيث متى انضمّ إليه الاقباض أفاد نقل الملك، وهو ممتنع مع خيار البائع، فلا يكون صحيحاً.

ولو باع وشرط الخيار للبائع بعد خياره في البيع الأوّل، بناءً على جواز اشتراط الخيار لأجنبي، أمكن القول بالصحة ; لأنّ المشتري مالك، وإنّما منع من المبيع لحفظ حقّ البائع، وباشتراط الخيار له على نهج الخيار انتفى المانع، فتعيّن القول بالصحة.

ويحتمل العدم ; لأنّ صحته تقتضي أمراً زائداً، وهو تسليم الثمن إلى المشتري الثاني مع الفسخ وانتزاع المبيع من يده. وربّما كان فيه مشقّة، وقد يفضي إلى خصومة، فإنّ الناس مُختلفون في المعاملة، فيمنع من نقله

الصفحة 23
مطلقاً، إلاّ بإذن البائع، وفاءً لحقّ الخيار المشترط في البيع الأوّل.

الثالث: لو كان المبيع في الصورة المفروضة قد استحق منفعة مدّة الخيار أو أزيد باجارة أو وصيّة ونحوهما للمشتري أو غيره، أمكن القول بجواز إجارة مالك المنفعة إياه من آخر بغير إذن البائع، إذ لا تعلّق للبائع بالمنفعة، ولا حقّ له فيها، ولمالكها أن ينقلها إلى مَن شاء، وإذا فسخ البائع في موضع الفسخ عاد إليه ملك العين، ولو بقي من مدّة الإجارة بقية فهي للمستأجر.

ويحتمل العدم ; لأن المستأجر يستحق إثبات اليد على العين ; لاستفياء المنفعة، فربّما كان البائع عند الفسخ وانقضاء المدّة مُحتاجاً في انتزاع العين من يد المستأجر إلى مشقّة ; لاختلاف الناس في المعاملات.

الرابع: إن قيل: منع المشتري من التصرّفات الناقلة للعين أو المنفعة في زمان الخيار المشترط للبائع قد وضح حكمه، فكيف الحكم في باقي أقسام الخيار؟

قلنا: يحتمل عدم الفرق، فيمنع من التصرّف الناقل ما دام خيار البائع ثابتاً، محافظةً على بقاء حقّه.

ويحتمل الفرق بين المشترط وغيره ; لأنّ المشتري بالاشتراط قد اُلتزم له حفظ العين والمنفعة إلى حين الفسخ، بحيث يرجع إليهما إذا فسخ، بخلاف غيره من أقسام الخيار ; لأنّ ذلك ثابت بأصل الشرع من غير أن يلتزمه المشتري، وقد تعاقد البيع على أن يكون للمشتري كلّ تصرّف غير محجور عليه في شيء من التصرّفات.

والفرض أنّ المبيع قد صار ملكاً له ; لأنّ البناء على أنّ المبيع في زمان الخيار ملك المشتري، و" الناس مسلّطون على أموالهم "، فيثبت هذا

الصفحة 24
الحكم مستصحباً لانتفاء الناقل عنه والمنافي له، فمتى فسخ البائع بشيء من الأسباب والعين باقية أخذها، وإن تلفت أو تعلّق بها حقّ ثالث ببيع ونحوه رجع إلى قيمتها.

ويحتمل الفرق بين خيار المجلس وغيره، والفرق من وجهين:

أحدهما: أنّ تسليط البائع المشتري على جميع التصرّفات في المبيع يجتمع مع علمه بثبوت خيار المجلس له، بخلاف غيره من أقسام الخيار، فإنّ خيار الغبن مثلاً إذا كان له، من المعلوم أنّه متى علم بثبوت مقتضيه لم يرض بشيء من تصرّفات المشتري الناقلة للعين أو المتلفة لها، وكذا خيار الرؤية ونحوها.

الثاني: أنّ سقوط حقّ البائع من خيار المجلس بيد المشتري، فإنّه منوط بالتفرّق ولو من قبله، وهو قادر في كلّ آن عليه، واقدار الشارع إياه على إسقاط خيار البائع دائماً دليل على أنّه لا يمنع شيء من التصرّفات في العين محافظة على حقّ البائع، إذ لو اُريد ذلك لم يمكّن من إسقاط خيار البائع باختياره بالضرورة، ولا يحضرني الآن لأحد في ذلك كلام.

المقام الثاني من المقامين

إذا وقع من المشتري شيء من التصرّفات المذكورة سابقاً بإذن البائع فيها قبل إنشائها وإجازته إياها بعده بطل خيار البائع، وكذا لو أذن له في شيء منها فلم يفعله بطل خياره أيضاً، ولا نعلم في ذلك خلافاً.

ووجهه ـ مع الإجماع ـ: أنّ تزلزل العقد المذكور لسبب ثبوت الخيار حقّ للبائع وامضاؤه، ونقله من التزلزل إلى اللزوم بيده، ويكفي فيه كلّ ما يدلّ على رضاه به قطعاً، فهنا أولى ; لأنّ الفضولي أضعف من ذي الخيار،

الصفحة 25
لانتفاء ترتّب شيء من آثار العقد في الأوّل بخلاف الثاني.

ولا ريب أنّ إذنه في التصرّف المانع من بقاء الخيار، أعني الناقل للعين أو المنفعة على ما قدّمناه، يقتضي الرضى بالبيع المذكور، أعني ذا الخيار، فيجب أن يحصل لوجوب ترتّب الأثر على المقتضي له عند حصوله.

ولو كان التصرّف الواقع بالإذن من جنس التصرّفات اللازمة، لدلّ وقوعه على سقوط خيار البائع من وجه آخر، وهو من وجه وقوعه لازماً لوجود المقتضي، وهو صدوره من أهله في محلّه ; لأنّه المفروض، وسلامته عن المعارض، إذ ليس إلاّ منافاته لحقّ البائع، أعني خياره، وقد سقط اعتباره بالإذن الصادر منه، فوجب أن يعمل المقتضي عمله، وإذا وقع لازماً امتنع فسخه، وحينئذ فلا يبقى للبائع خيار ; لأنّ بقاء الخيار وامتناع الفسخ لا يجتمعان.

وفي رواية السكوني عن الصادق (عليه السلام) عن علي (عليه السلام): إنّ إقامة المشتري المبيع بخيار له في السوق إيجاب للبيع على نفسه(1)، وذلك يدل على السقوط بالفعل المؤذن بالرضى بالبيع.

وقد أطبقوا على أنّ المشتري إذا تصرّف بإذن البائع سقط خيارهما، وكلام الشيخ في (المبسوط) السابق صريح في ذلك، فإنّ دلالة قوله: فأمّا إذا اتّفقا على التصرّف فيه وتراضيا، إلى أن قال: فإنّ الخيار ينقطع في حقهما ويلزم البيع وينفذ العتق والبيع، لأنّ في تراضيهما بذلك رضى بقطع الخيار(2)، أظهر من أن يحتاج إلى البيان.

____________

1- الكافي 5: 173 حديث 7، التهذيب 7: 23 حديث 98.

2- المبسوط 2: 84، وتقدّم في الصفحة: 12.


الصفحة 26
وقال المحقّق ابن سعيد في (الشرائع): التصرّف يسقط خيار الشرط كما يسقط خيار الثلاثة، ولو كان الخيار لهما وتصرّف أحدهما سقط خياره، ولو أذن أحدهما وتصرّف الآخر سقط خيارهما(1).

وقال العلاّمة في (التحرير): تصرّف أحد المتبايعين في مدّة الخيار: إمّا بنقل العين كالبيع، أو باشتغالها كالإجارة والرهن والتزوّج، مبطل للخيار. والوجه صحة تصرّفه ـ سواء كان البائع أو المشتري ـ على إشكال. ولو تصرّف المشتري باذن البائع، أو البائع بوكالة المشتري صح التصرّف وانقطع خيارهما(2). هذا كلامه.

وهو مع صراحته مشتمل على تعدّد التصرّفات، وعدّ الإجارة والرهن والربح منها، وفيه دلالة على أنّ المشتري إذا تصرّف شيئاً من التصرّفات المذكورة التي من جملتها الإجارة بإذن البائع سقط خيارهما.

وكذا لو تصرّف البائع عن المشتري بالوكالة عنه سقط الخيار إن تضمّن ذلك الرضى من الجانبين.

والإشكال يحتمل أن يكون في البائع والمشتري معاً، فيكون رجوعاً عن الفتوى إلى التردّد.

ويحتمل أن يكون في أحدهما، ومنشؤه إمّا في البائع، فمن أنّ التصرّف موجب للفسخ، وبه يحصل الملك للبائع، فلا يقع صحيحاً ; لأنّ التصرّف إنّما يقع نافذاً إذا كان ملك المتصرّف. ومن أنّ المُسقط للخيار هو القصد إلى التصرّف، فينفسخ البيع ويعود الملك، فيكون التصرّف في محلّه.

____________

1- شرائع الإسلام 2: 23.

2- تحرير الأحكام 1: 168.


الصفحة 27
وإمّا في المشتري، فمن التردّد في اعتبار إيجاب البيع على نفسه قبل التصرّف، وعدمه. ولا ريب أنّه في المشتري أضعف ; لأنّه مالك حقيقة، وتزلزل الملك من طرفه لا يقدح في صحة التصرّف، ولو سلّم فلزومه يكفي فيه أدنى دليل على الرضى.

وقال في (التذكرة): فإن تصرّف المشتري سقط الخيار ; لأنّ تصرّفه قبل انقضاء مدّة الشرط دليل على الرضى بلزوم العقد، وكذا لو سقط خياره. ولو كان الخيار للبائع أو مشتركاً، فأسقط البائع خياره سقط. ولو تصرّف البائع فهو فسخ، ولو أذن أحدهما للآخر في التصرّف فتصرّف سقط الخياران، ولو لم يتصرّف سقط خيار الإذن دون المأمور ; لأنّه لم يوجد منه تصرّف فعلي ولا قولي(1).

وذكر في آخر أحكام الخيار في سياق الفعل الذي يكون فسخاً من البائع وإجازة من المشتري ما يدلّ على أنّ الإجازة والتزويج كالبيع في ذلك، والدال على ذلك ترجيحه هذا الحكم في العرض على البيع، والتوكيل فيه، والهبة غير المقبوضة، والرهن غير المقبوض، بناءً على اشتراط القبض فيه(2).

ثم ذكر في المسألة التي تلي هذه: أنّه لو أعتق المشتري بإذن البائع في مدّة خيارهما وخيار البائع نفذ، وحصلت الإجازة من الطرفين ـ إلى أنّ قال ـ: ولو باشر هذه التصرّفات بإذن البائع، أو باع من البائع نفسه صحّت التصرّفات، وهو أصح قولي الشافعيّة. وعلى الوجهين يلزم البيع ويسقط

____________

1- تذكرة الفقهاء 1: 537.

2- تذكرة الفقهاء 1: 537، المجموع 9: 215.


الصفحة 28
الخيار، فلو أذن له البائع في طحن الحنطة المبيعة فطحنها كان مخيّراً(1).

وقال في (القواعد): ولو أذن أحدهما للآخر في التصرّف، فإن تصرّف سقط الخياران، وإلاّ خيار الآذن(2).

وقال في (الإرشاد) في حكم خيار الشرط: ويسقط بالتصرّف، فلو تصرّف أحدهما سقط خياره خاصة، ولو تصرّفا أو تصرّف أحدهما بإذن الآخر سقط خيارهما(3).

فقد تطابق كلام القوم على أنّه متى تصرّف أحدهما باذن الآخر سقط خيارهما، وهو المراد.

وتكميل المقام بكلامين:

أحدهما: إنّا قد بيّنا أنّ البيع إذا وقع من المشتري بإذن البائع سقط خيار البائع، ولو كان الخيار لهما سقط الخياران. فلو باع المشتري المبيع المذكور من البائع نفسه سقط خياره، ومع اشتراك الخيار يسقط خيارهما، وذلك لأنّه قد رضي بالتصرّف، وكلّ مَن رضي به سقط خياره.

أمّا الكبرى فإجماعيّة، وأمّا الصغرى ; فلأنّ الواقع من البائع هو القبول، وهو عبارة عن اللفظ الدالّ على الرضى بالإيجاب الواقع من المشتري، فكان متضمّناً للرضى بالتصرّف لا محالة، بل هو أبلغ من الرضى بالعقد الواقع بين المشتري وشخص آخر ; لأنّ الرضى في الموضع المقصود بالبيان ركن العقد، وفي غيره من أجزاء السبب التي بها تتحقّق تماميّته.

____________

1- تذكرة الفقهاء 1: 538.

2- قواعد الأحكام 1: 143.

3- إرشاد الأذهان 1: 375.


الصفحة 29
وكلام العلاّمة في (التذكرة) السابق مشتمل على بيان حكم هذه المسألة صريحاً فإنّه قال: ولو باشر هذه التصرّفات بإذن البائع، أو باع من البائع نفسه صحّت التصرّفات، وهو أصح قولي الشافعيّة، وعلى الوجهين يلزم البيع ويسقط الخيار(1).

بل قد ذكر الشيخ في (المبسوط): أنّ المشتري لو وكّل البائع في العتق ففعل ذلك بوكالته يسقط خياره، وإذا سقط خيار البائع بذلك فسقوطه ببيع المشتري منه بطريق أولى ; لأنّ البيع منه أدلّ على الرضى من إيقاع التصرّف بالوكالة عنه، لأنّ قبول الوكالة والعمل بمقتضاها وإن استلزم الرضى بالبيع الذي قد ترتّب عليه، إلاّ أنّهما لا يدلاّن عليه صريحاً، بخلاف قبول البيع، فإنّ مدلوله الأصل هو الرضى بالإيجاب كما لا يخفى(2).

وفي (التحرير) عمّم هذا الحكم في التصرّفات، فجعل توكيل المشتري إياه في شيء من التصرّفات القاطعة للخيار وفعل البائع مقتضي الوكالة قاطعاً للخيارين، سواء في ذلك البيع والعتق والإجارة والرهن وغيرها(3).

وهو في الدلالة على المراد كالأوّل وأظهر، ولا نعرف لأحد من المسلمين في هذا المقام خلافاً.

ويزيده بياناً أنّ العقد الواقع في المقامين من العقود للازمة عقد صدر من أهله في محلّه، ولا مانع من صحته ونفوذه، فوجب أن يقع لازماً.

أمّا الأوّل ; فلأنّه المفروض.

____________

1- تذكرة الفقهاء 1: 538.

2- المبسوط 2: 84.

3- تحرير الأحكام 1: 168.


الصفحة 30
وأمّا الثاني ; فلأنّ المانع ليس إخبار البائع، ومع مباشرته إياه وقصده إليه يرتفع المانع من قبله، فتحقّق لزومه، ومع اللزوم يمتنع بقاء الخيار قطعاً.

الثاني: قد بينّا أنّ الإجارة كالبيع في المنافاة بين صحتها وبقاء الخيار، فعلى هذا لو آجر المشتري من البائع، أو وكّله في الإجارة لغيره ففعل، كان ذلك موجباً لسقوط خيار البائع، ولو اشترك الخيار سقط بذلك خيارهما.

وكلام (التحرير) دالّ بشموله على هذا الحكم في التوكل، وكلام (التذكرة) و(القواعد): أنّ بيع المبيع من البائع يسقط خياره، وأنّ الإجارة كالبيع، يقتضيه.

ويدلّ على الأمرين معاً وجوه:

الأوّل: أنّ صدور الإجارة على الوجه المذكور يقتضي رضى البائع بقطع الخيار، وكلّ ما اقتضى رضى البائع بقطع الخيار أقتضى سقوطه.

أمّا الصغرى ; فلأنّا قد بيّنا غير مرّة أنّ نقل المنفعة عن المشتري إلى غيره بالإجارة ونحوها ينافي بقاء الخيار، ولا ريب أنّ البائع بقبوله إياها قد رضي بها، فيكون قد رضي بالمنافي لبقاء الخيار، وذلك يقتضي رضاه بقطعه.

وأمّا الكبرى فإجماعيّة.

الثاني: أنّ الإجارة على الوجه المذكور تصرّف صدر بإذن البائع، وكلّ تصرّف كذلك مُسقط لخياره.

أمّا الصغرى ; فلأنّ صدورالإجارة من المشتري للبائع إنّما يكون بعد حصول ما يدلّ على الرضى منهما، وذلك يقتضي الإذن لا محالة، إذ لا

الصفحة 31
نريد به إلاّ ما يدلّ على الرضى بالتصرّف.

وأمّا الكبرى، فلا خلاف فيها بين العلماء.

الثالث: أنّ الإجارة المذكورة يجب أن تقع لازمة لوجود المقتضي، وهو صدور العقد الذي شأنه اللزوم من أهله في محلّه ; لأنّه المفروض. وانتفاء المانع، إذ ليس إلاّ خيار البائع، وقد انتفت مانعيّته برضاه بالإجارة المذكورة قطعاً، فوجب وقوعه على وجه اللزوم. وحينئذ فسقط الخيار قطعاً ; لأنّه لو بقي لجاز الفسخ، ولو جاز لم يكن لازماً ها هنا.

الرابع: أنّ الخيار المذكور لو بقي بعد صدور الإجارة لكان بقاؤه إمّا مع صحتها هنا، أو مع فسادها، والتالي بقسميه باطل فالمقدّم كذلك والملازمة ظاهرة ; لأنّ صحة العقد وفساده يمنع خلوّ الواقع عنهما، فلا بدّ من وجود أحدهما ; لانحصار حال العقود في الصحة والفساد عند أكثر الاُصوليين.

وأمّا بيان بطلان التالي ; فلأنّ الإجارة الواقعة برضى البائع يجب أن تكون صحيحة، لأنّ الفرض انتفاء جميع موانع صحتها، إلاّ استحقاق البائع الخيار، وقد انتفت مانعيّته هنا أيضاً بوجود رضى البائع، وإذا حكم بصحتها انتفى الحكم بفسادها، فامتنع مقارنة الخيار له ; لامتناعه في نفسه، فإنّ مقارنة شيء لشيء في الوجود فرع وجود ذلك الشيء، ومع الحكم بصحتها يجب أن تكون لازمة ; لأنّ الفرض انتفاء جميع موانع لزومها، لاستحقاق البائع الخيار، وقد انتفت مانعيّة هذا أيضاً بتحقّق رضاه، فامتنع بقاء الخيار على تقدير الصحة أيضاً، وهوالمطلوب.

الخامس: لو بقي الخيار في الصورة المذكورة لكان إذا فسخ البائع البيع: إمّا أن يفسخه في العين من دون المنفعة، أو فيهما معاً، والتالي

الصفحة 32
بقسميه باطل فكذا المقدّم، والملازمة ظاهرة، فإنّ الواقع مُنحصر فيهما.

وأمّا بطلان العلم الأوّل في قسمي التالي ; فلأنّ الخيار أمر واحد ثابت في العين باعتبار المنفعة، فالخيار فيها تابع للخيار في العين، ويمتنع تخلّف التابع عن متبوعه، فيمتنع ثبوت الخيار في العين دون المنفعة.

وأيضاً فإنّه لو ثبت الخيار في العين دون المنفعة لكان إذا فسخ البائع في العين: إمّا أن يقتضي الفسخ ردّ جميع الثمن، أو بعضه. وكلا القسمين باطل.

أمّا الأوّل ; فلأنّ ردّ جميع الثمن ـ مع أنّ الراجع إليه الفسخ ـ إنّما هو العين مسلوبة المنفعة مدّة الإجارة معلوم البطلان ; لأنّ الثمن إنّما بُذل في مقابل العين باعتبار المنفعة، والفسخ يقتضي ردّ ذلك من العوضين إلى مالكه، كما كان وقت العقد.

وأمّا بطلان الثاني ; فلأنّ المنفعة لا قسط لها من الثمن، لأنّه إنّما قوبل به العين، فجملته في مقابل جملتها، وأجزاؤه في مقابل أجزائها، لكن بذل الثمن في مقابل العين إنّما كان باعتبار المنفعة، كما قدّمنا ذكره مراراً، فهي ملحوظة تبعاً.

وأمّا بطلان القسم الثاني من قسمي التالي ; فلأنّ الإجازة قد وقعت لازمة ; لوقوعها برضى البائع، فلا يتصوّر تسلّطه على فسخ البيع في العين والمنفعة المقتضي لتسلّطه على فسخها قطعاً.

وهذا الوجه لا يتوقّف على بيان المنافاة بين جواز الإجازة من المشتري وثبوت الخيار للبائع، ولا على بيان منع المشتري من هذا النوع في التصرّف.

واعلم أنّ الغرض الأقصى في بيان هذه الأحكام كلّها، هو بيان كون

الصفحة 33
الإجازة الواقعة من المشتري للبائع في العين المبيعة بخيار للبائع يقتضي سقوط خياره، فهذا هو المقصود بالبيان والذي وقع فيه الوهم، وهذا الحكم يكاد يلحق بالبديهيات عند الفقهاء بعد الإحاطة بمقدّماته، وقد تطابق كلام القوم على ذلك، ولم نقف على خلاف فيه لأحد من الأصحاب ولا لغيرهم.

وأمّا بيان منع المشتري من التصرّفات المذكورة، ووقوعها منه غير صحيحة بدون إذن البائع ذي الخيار، فليس موضع البحث، ولا هو مقصود بالبيان، إلاّ لزيادة الإيضاح.

وأمّا توهّم خلاف الصواب هنا هو أحد أمرين:

الأوّل: كون منفعة المبيع في زمان خيار البائع ملك للمشتري، فله أن يتصرّف فيها كيف شاء بعقد ناقل لازم وغيره.

وهذا فاسد مردود، فإنّه إذا اُريد بالمنفعة المملوكة للمشتري في زمان الخيار هي التي قد وجدت بالفعل في الزمان الحاضر فمسلّم ذلك، إلاّ أنّ هذه ليست من المطلوب نقلها بالإجارة، فإنّ الذي يملكه المستأجر من المنافع هو المنفعة المعدومة وقت العقد، التي هي موجودة بالقوة القريبة من الفعل بعد زمان عقد الإجارة.

وإن اُريد بها المنفعة بالمعنى الثاني، فلا نسلّم أنّ هذه مملوكة للمشتري ; لأنّا لا نعلم ما يتجدّد من البائع، فإنّه إن فسخ البيع بالخيار الثابت له تبيّن أن المنفعة لا حقّ للمشتري فيها، وأنّ تصرفه فيها مُمتنع شرعاً، وإن بقي العقد بحاله تبيّن كونها ملكاً له.

وما هذا شأنه فكيف يتصوّر التسليط على نقله وتمليكه للغير شرعاً، فإنّ حال هذه المنفعة كحال العين سواء، فامتنع القول بوقوع الإجارة منه

الصفحة 34
لذلك.

وأمّا استيفاء المنافع بنفسه شيئاً فشيئاً، وتسليط وكيله والمستعير عليها كذلك، فإنّه لا محذور فيه ; لأنّه إنّما يستوفي ما يوجد بالفعل، وذلك قد تحقّق ملكيته إياه بوجوده قبل صدور الفسخ من البائع، فقد وضح فساد التوهم من هذه الجهة.

الثاني: تخيّل جواز صدور التصرّفات من المشتري من بيع العين وغيره، كما طرق أسماعنا.

وهذا وإن كان اجمالاً شكّ في فساده ومخالفته لتصريح علماء المذهب، إلاّ أنّه لو فُرض صحته في نفسه لم يتمّ القول بعدم سقوط الخيار في محلّ النزاع ; وذلك لأنّا إذا جوّزنا للمشتري مطلق التصرّف، فالتصرّف الواقع منه: إمّا أن يقع متزلزلاً غير مسقط للخيار، أو يقع لازماً بحيث يسقط معه، وقد بيّنا في ما تقدّم بطلان القسم الأوّل أكمل بيان.

ولو سلّمنا صحته في نفس الأمر لم يضرّنا ; لأنّ البحث إنّما هو في تصرّف وقع بإذن البائع، فامتنع ألا يقع لازماً.

وبطلان القسم الثاني أوضح من أن يحتاج إلى البيان ; لأنّ تصرّف المشتري على إنشاء تصرّف لازم يسقط خيار البائع من منافاته لمقتضي الاشتراط في نفس عقد البيع، وخروجه عن إجماع المسلمين لا يضرّنا أيضاً ; لأنّا إنّما نبحث على تقدير صدور التصرّف بإذنه.

ثم هو على تقدير تسليم صحته يقتضي سقوط الخيار في محلّ النزاع بطريق أولى ; لأنّه إذا سقط بتصرّف لم يأذن فيه البائع، فلئن يسقط بتصرّف اُذن فيه أولى. وأي غلط أفحش من هذا، لولا قلّة التأمل لمقاصد هذا الفنّ، وعدم التضلّع في اُصوله، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.


الصفحة 35
وهنا نحبس عنان اليراعة، حامدين مصلّين على محمّد وآله الطاهرين، والحمد لله ربّ العالمين.