الصفحة 24
ليس كالحكم بحلّ ما كان حلالاً، وأين هذا من ذلك!؟

السابع: انتفاء المقتضي للتحريم في المسائل المذكورة من حيث المعنى، والمراد بالمعنى: ما يصلح(1) كونه علّة للحكم في العلّة المستنبطة.

أمّا في الاُولى; فلأنّ المرتضع ـ أعني أخا المرضعة ـ صار ولداً لها وللفحل، وأخت الولد إنّما تحرم بالبنوّة أو بالدخول باُمها. ولهذا إذا(2)انتفى الأمران جاز النكاح، كما في أخت أخ الولد مع اختلاف العلاقة.

ومعلوم انتفاء الأمرين هنا، على أنّ النبيّ (عليهم السلام) إنّما قال: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب "(3)، واُخت الولد إنّما تحرم من جهة النسب إذا كانت بنتاً، وإلاّ فتحريمها بالمصاهرة، أعني كونها ربيبة مدخولاً بأمّها، والرضاع كالنسب لا المصاهرة.

وأمّا في الثانية; فلأنّ أقصى ما يقال: إنّ الزوجة ـ أعني المرضعة ـ صارت أمّا للولد وهي عمّته، ولا يلزم من ذلك تحريم; لأنّ عمّة الولد إنّما تحرم على مَن هي أخته، إذ ليس في الكتاب والسنّة ما يدلّ على تحريم عمّة الولد بوجه من الوجوه، إلاّ إذا كانت اُختاً.

وحينئذ فالتحريم بسبب الاُخوة، لا بسبب عمومة الولد، ولا أخوّة بين المذكورة وبين أبي المرتضع ـ أعني زوجها ـ بنسب ولارضاع.

والحكم في المسألة الثالثة أظهر; لأنّ خالة الولد لا تحرم إلاّ للجمع

____________

1- في " ش2 " ما ثبت.

2- في " ش3 ": لو.

3- الكافي 5: 437 حديث 2 و3، الفقيه 3: 305 حديث 1467، التهذيب 7: 291 ـ 292 حديث 1223 ـ 1226، وسائل الشيعة 20: 371 ـ 373 الباب 1 من أبواب ما يحرم بالرضاع، مسند أحمد بن حنبل 1: 557 حديث 2134، السنن الكبرى للبيهقي 7: 452 و453، كنز العمال 6: 273 حديث 15668.


الصفحة 25
بينها وبين اُختها، وذلك منتف هنا.

وأمّا الرابعة ; فلأنّ أقصى ما يُقال: إنّ المُرضعة صارت جدّة ولد الولد من الرضاعة، وانتفاء تحريم جدّة الولد من الرضاعة سيأتي بيانه في الكلام على المسائل الثلاث التي هي موضع خلاف للأصحاب. على أنّه لو ادّعي انتفاء التحريم فيها بغير خلاف، أمكن; نظراً إلى لحوق الرضاع المشكوك في كونه محرّماً للنكاح المعلوم حلّه وإن بعد; لأنّ الظاهر عدم الفرق.

وأمّا الخامسة; فلأنّ المرضعة ـ أعني الزوجة ـ قد صارت بنت أخ ولد صاحب اللبن، وبنت أخ الولد إنّما تحرم بأحد السببين السابقين، أعني: كونها بنت الابن، أو كونها بنت ابن الزوجة المدخول بها، وكلاهما منتف هنا.

وأمّا في السادسة; فلأنّ المرضعة صارت بنت اُخت ولده، والتقريب ما تقدّم.

ومن ذلك يُعلم الوجه في السابعة والثامنة; لأنّ المرضعة صارت بنت ابن عمّ ولده، أو عمّته، أو بنت ابن خال ولده، أو خالته.

وأمّا في التاسعة; فلأنّ الزوجة قد صارت اُم أخ الزوج، واُم الأخ إنّما تحرم بالاُمومة، أو بكونها مدخولة الأب.

وأمّا في العاشرة; فلأنّها وإن صارت أُمّاً لحافده، إلاّ أنّها لا تحرم إلاّ بكونها زوجة ولده.

وأمّا في الحادية عشرة فأظهر; لأنّ اُم ولد الأخ لا تحرم.

وأمّا الثانية عشرة; فلأنّها وإن صارت أم عمّه أو عمّته لا تحرم، إذ المحرّم في ذلك إمّا اُمومة الأب، أو كونها مدخولة الجد.

وقريب منه الحكم في الثالث عشرة.


الصفحة 26
وممّا يشهد لذلك من عبارات الفقهاء قول الشيخ في (المبسوط) بعد أن ذكر أحكام الرضاع: فإذا ثبت هذا فإنّما يحرم من الرضاع من الأعيان السبع التي مضت حرفاً بحرف(1).

وأراد بالأعيان السبع: الاُمهات، والبنات، والأخوات، والعمّات، والخالات، وبنات الأخ، وبنات الاُخت. وهذا صريح في المراد.

وقال أيضاً: يجوز للفحل أن يتزوّج بأمّ المرتضع وبنته واُخته وجدّته، ويجوز لوالد هذا المرتضع أن يتزّوج بالتي أرضعته; لأنّه لمّا جاز أن يتزوّج اُم ولده من النسب، فبأن يجوز أن يتزوّج باُم ولده من الرضاع أولى.

قالوا: أليس لا يجوز أن يتزوّج اُم اُم ولده من النسب، ويجوز أن يتزوّج باُم اُم ولده من الرضاع، فكيف جاز ذلك وقد قلتم: إنّه " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب "؟

قلنا: اُم اُم ولده من النسب ما حرمت بالنسب، بل المصاهرة قبل وجود النسب، والنبي (عليهم السلام) إنّما قال: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب "(2)(3).

فانظر إلى ما أرشد إليه رحمه الله من التعليل والتوجيه، وأنّ التحريم في الرضاع فرع التحريم في النسب، فما لم يثبت نظير لحمة النسب حقيقة المقتضية للتحريم، لم يثبت التحريم في الرضاع.

____________

1- المبسوط 5: 291.

2- الكافي 5: 437 حديث 2 و 3، الفقيه 3: 305 حديث 1467، التهذيب 7: 291 ـ 292 حديث 1223 ـ 1226، وسائل الشيعة 20 ـ 371 ـ 373 الباب 1 من أبواب ما يحرم بالرضاع، مسند أحمد بن حنبل 1: 557 حديث 2134، السنن الكبرى للبيهقي 7: 452 و453، كنز العمال 6: 273 حديث 15668.

3- المبسوط 5: 305.


الصفحة 27
وحكى العلاّمة في (المختلف)(1) عبارة ابن حمزة، وهي لا تخلو من اضطراب، ولكن ذكر في آخرها ما صورته: ويجوز للفحل التزوّج باُم الصبي وجدّاته، ولوالد الصبي التزويج بالمرضعة وباُمها وبجداتها(2).

وقال ابن البرّاج في (المهذّب): ويجوز أن يتزوّج الرجل بالمرأة التي أرضعت ابنه، وكذلك يزوّجها من بنيه غير الذي أرضعته ; لأنّها ليست أمّاً لهم، وإنّما هي اُمّ أخيهم الذي أرضعته، فلا تحرم عليهم; لأنّها ليست بزوجة لأبيهم، وإنّما حرّم الله سبحانه نساء الآباء، وهذه المرأة ليست من الأب بسبيل.

وهكذا يجوز أن يتزوّجوا ابنتها التي هي رضيع أخيهم وولدها وولد ولدها وكذلك يتزوّج الرجل بنات المرأة التي أرضعت ولده وبناتهنّ أيضاً; لأنّهنّ لم يرضعن من لبنه، ولا بينهنّ وبينه قرابة من رضاع ولا غيره، وإنّما يحرم نكاحهنّ على المرتضع(3).

فانظر إلى وجه تخلّصه من التحريم في المذكورات بنفي المقتضي له، حيث إنّ المقتضي له إمّا القرابة بالنسب أو الرضاع، أو المصاهرة، وجميع ذلك منتف في المذكورات، وهذا بعينه آت في المسائل المذكورة.

والحاصل من ذلك: أنّ تحريم الرضاع مقصور على نظير المحرّمات بالنسب دون المحرّمات بالمصاهرة، والحديث النبوي صلّى الله عليه وآله وسلّم يُرشد إلى ذلك.

وقال العلاّمة في (التذكرة) ما صورته: يحرم في النسب أربع نسوة،

____________

1- مختلف الشيعة 7: 36 مسألة 4 الرضاع.

2- الوسيلة إلى نيل الفضيلة: 302.

3- المهذّب 2: 190 ـ 191.


الصفحة 28
وقد يحرمن في الرضاع وقد لا يحرمن:

أ: اُم الأخ في النسب حرام; لأنّها إمّا اُم، أو زوجة أب. وأمّا في الرضاع: فإن كانت كذلك حرمت أيضاً،وإن لم تكن كذلك لم تحرم، كما لو أرضعت أجنبيّة أخاك أو اُختك لم تحرم.

ب: أُم ولد الولد حرام; لأنّها إمّا بنته، أو زوجة ابنه. وفي الرضاع قد لا تكون احداهما، مثل أن ترضع الأجنبية ابن الابن، فإنّها اُم ولد الولد وليست حراماً.

ج: جدّة الولد في النسب حرام; لأنّها إمّا اُمّك، أو أمّ زوجتك. وفي الرضاع قد لا يكون كذلك، كما إذا أرضعت أجنبيّة ولدك فإنّ اُمّها جدّته، وليست بأمّك ولا اُمّ زوجتك.

د: اُخت ولدك في النسب حرام عليك; لأنّها إمّا بنتك، أو ربيبتك. وإذا أرضعت أجنبية ولدك فبنتها اُخت ولدك، وليست بنتاً ولا ربيبة. ولا تحرم اُخت الأخ في النسب ولا في الرضاع إذا لم تكن اُختاً له، بأن يكون له أخ من الأب والاُخت من الاُم، فإنّه يجوز للأخ من الأب نكاح الاُخت من الاُم. وفي الرضاع لو أرضعتك امرأة وأرضعت صغيرة أجنبيّة منك يجوز لأخيك نكاحها، وهي اُختك من الرضاع(1).

فهذا تصريح منه بالمراد، وتنبيه على أنّ علّة التحريم هي صيرورة المرأة بسبب الرضاع إحدى المحرّمات بالنسب لا بالمصاهرة.

فإن قلت: ستأتي حكاية خلاف للأصحاب في بعض المسائل المذكورة.

____________

1- تذكرة الفقهاء 2: 614.


الصفحة 29
قلنا: لا نسلّم، لكن ذلك لا يضرنا، مع كون الدليل دالاًّ على المراد ونافياً لمقالة الخصم.

وقال في (التحرير): وللابن أن ينكح اُمّ البنت التي لم ترضعه(1).

قلت: مراده لو ارتضع صبيّ وصبيّة أجنبيتان من امرأة بلبن فحل واحد، كان له أن ينكح اُمّ البنت التي لم ترضعه; لأنّها وإن كانت اُمّ اُخته إلاّ أنّه لا نسب بينه وبينها ولا مصاهرة. واُمّ أخيه(2) من النسب إنّما حرمت إمّا لأنّها اُمّه، أو لأنّها موطوءة أبيه.

قال أيضاً: لو أرضعت امرأة صبيين صارا أخوين، ولكلّ منهما أن ينكح أُم أخيه من النسب. بخلاف الأخوين من النسب; لأنّ اُم الأخ من النسب إنّما حرمت لأنّها منكوحة الأب، بخلاف اُم الأخ من الرضاع. وكذا لو كان لأخيه من النسب أمّ من الرضاع جاز له أن يتزوّج بها، وكذا لو أرضعت أمّه من النسب صبيّاً صار أخاه، وكان له أن يتزوّج اُمّه(3).

هذا كلامه، فانظر إلى جملة هذه المسائل التي نفى عنها التحريم، وإلى استدلاله كيف يقضي على محلّ النزاع في كلامنا بانتفاء التحريم، إذ لو ثبت التحريم في شيء من المسائل السابقة للزم مثله هنا; إذ اُمّ الأخ والاُخت من الرضاع قد صارت بمنزلة اُمّ الأخ من النسب.

وقال المقداد في (كنز العرفان) ما صورته: قال الزمخشري: قالوا: تحريم الرضاع كتحريم النسب إلاّ في مسألتين:

إحداهما: أنّه لا يجوز للرجل أن يتزوّج أخت ابنه من النسب، والعلّة

____________

1- تحرير الأحكام 2: 11.

2- في " ش3 ": اخته.

3- تحرير الأحكام 2: 11.


الصفحة 30
وطء أمّها، وهذا المعنى غير موجود في الرضاع.

وثانيتهما: لا يجوز أن يتزّوج اُم أخته من النسب، ويجوز في الرضاع; لأنّ المانع في النسب وطء الأب إياها، وهذا المعنى غير موجود في الرضاع.

وكذا استثنى مسألتين اُخريين:

إحداهما: اُمّ الحفدة.

وثانيتهما: جدّة الولد، فإنّهما محرّمتان من النسب دون الرضاع.

أمّا اُم الحفدة فإنّها بنتك أو زوجة ابنك، ولو أرضعت أجنبيّة ولد ولدك لم تحرم.

وأمّا جدّة الولد فإنّها اُمّك أو اُمّ زوجتك، ولو أرضعت أجنبيّة ولدك كانت اُمّها جدّة ولدك ولم تحرم عليك(1).

قال المقداد: وفي استثناء هذه الصورة نظر; لأنّ النصّ إنّما دلّ على أنّ جهة الحرمة في النسب جهة الحرمة في الرضاع، والجهات التي في هذه الصور ليست جهات الحرمة في النسب، فإنّ جهة اُختيّة الابن مثلاً لم تُعتبر من جهات الحرمة، بل المعتبر فيها إمّا كونها ربيبة، وإمّا كونها بنتاً، وأي جهة من هاتين الجهتين لو وجدت في الرضاع كانت محرّمة.

وتوضيحه: أنّ أخت الابن إذا كانت بنتاً يكون لها جهتان: جهة الاُختيّة للابن، وجهة البنتيّة لك. ولا شكّ في تغايرهما، والنصّ دلّ على الحرمة من جهة البنتيّة لا من جهة الاُختيّة للابن.

وكذا إذا كانت ربيبة كان لها جهتان: الاُختيّة للابن، وكونها ربيبة.

____________

1- الكشّاف 1: 516.


الصفحة 31
وجهة الحرمة منهما ليست إلاّ كونها ربيبة، على أنّ جهة الحرمة بحسب المصاهرة لا بحسب النسب، فلا يصح الاستثناء من جهة حرمة النسب(1).

هذا كلامه، وأنت إذا تأملّت هذا الكلام وجدته شارحاً للمراد، وافياً ببيان ما نحن بصدد بيانه.

وقد وقع لي تحقيق كتبته قديماً على بعض هذه المسائل، وهي: امرأة الرجل إذا أرضعت ابن أخيها هل تحرم عليه; لأنّها صارت بمنزلة عمّة ولده، فهي بمنزلة اُخته، أم لا؟.

وحاصل ما كتبته في الجواب: أنّ العمومة من طرف الأخ في النسب، لا من طرف الفحل، أعني صاحب اللبن، فإنّ صاحب اللبن لا قرابة بينها وبينه بنسب، وهو ظاهر، ولا رضاع; لعدم ارتضاعهما بلبن فحل واحد، والمقتضي للتحريم في عمّة الوالد القرابة بينها وبين أبيه، أعني اخوتها إمّا بالنسب أو بالرضاع، فإنّ ثبوت العمومة المذكورة تابع لاخوة الأب، وهي منتفية من طرف الفحل أصلاً ورأساً، وثبوتها من طرف الأب لا يقتضي ثبوتها من طرف الآخر قطعاً، فينتفي التحريم بينهما، إذ هو فرع القرابة المنتفية.

والذي أوقع في الغلط صدق اسم العمومة للولد على المذكورة، مع عدم ملاحظة اختلاف جهتي الفحل والأب النسيب.

فإن قيل: أليس قد روى الشيخ في الصحيح عن علي بن مهزيار قال: سأل عيسى بن جعفر بن عيسى أبا جعفر الثاني عن امرأة أرضعت لي صبيّاً، فهل يحلّ لي أن أتزوّج ابنة زوجها؟ فقال لي: " ما أجود ما سألت،

____________

1- كنز العرفان 2: 182 ـ 183.


الصفحة 32
من ها هنا يؤتى أن يقول الناس: حرمت عليه امرأته من قبل لبن الفحل، هذا هو لبن الفحل لا غيره ".

فقلت له: الجارية ليست ابنة المرأة التي أرضعت لي، هي ابنة غيرها.

فقال: " لو كن عشراً متفرّقات ما حلّ لك منهنّ شيء، وكنّ في موضع بناتك "(1).

وروى ابن يعقوب في الصحيح عن عبدالله بن جعفر قال: كتبتُ إلى أبي محمّد (عليه السلام): أنّ امرأة أرضعت ولداً لرجل، هل يحلّ لذلك الرجل أن يتزوّج ابنة هذه المرأة أم لا؟ فوقّع: " لا يحلّ له "(2).

وروى أيوب بن نوح قال: كتبَ علي بن شعيب إلى أبي الحسن (عليه السلام): امرأة أرضعت بعض ولدي، هل يجوز لي أن أتزوّج بعض ولدها، فكتب: " لا يجوز ذلك; لأنّ ولدها صارت بمنزلة ولدك "(3).

فهذه الروايات الثلاث دالة على أنّ مَن صار بالرضاع في موضع المحرم حرم نكاحه، وذلك دالّ على التحريم في المسائل المتنازع فيها.

قلنا: الجواب عن ذلك من وجوه:

الأوّل: أنّ الروايات الثلاث تضمّنت واقعة معيّنة، فلا عموم لها، وما هذا شأنه لا يكون حجّة على محلّ النزاع.

فإن قيل: أليس قد تضمّنت تعليل التحريم بأنهنّ في موضع بنات أبي المرتضع، فإذا انتفت الدلالة الصريحة كفى الاستدلال بجهة نصوص

____________

1- التهذيب 7: 320 حديث 1320، الاستبصار 3: 199 ـ 200 حديث 723.

2- الكافي 5: 447 حديث 18.

3- التهذيب 7: 321 حديث 1324، الاستبصار 3: 201 حديث 727.


الصفحة 33
العلّة.

أجبنا: بأنّ الثانية منهنّ لا تعليل فيها، فلا دلالة لها بوجه.

وأمّا الاُولى والثالثة فإنّهما وإن تضمّنت التعليل كما ذكر في السؤال، إلاّ أنّ ذلك لا يفيد ما ادّعاه الخصم; لأنّ التعليل في النصوص إنّما يقتضي ثبوت الحكم حيث تثبت تلك العلّة بعينها، لا حيث ثبت ما أشبهها، فإنّ ذلك عين القياس الممنوع منه.

ونحن نقول بالموجب، فإنّا بعد تسليم الدلالة المذكورة وانتفاء القوادح، نحكم بالتحريم، حيث صارت بمنزلة الولد، وهو المنصوص، والمتنازع فيه ما إذا صارت بمنزلة المحرم مطلقاً.

وأين هذا من ذاك، فمَن حاول تعدية الحكم المستند إلى العلّة المنصوص عليها إلى موضع انتفت فيه تلك العلّة لكن ثبت فيه ما هو شبهها، فقد ارتكب العمل بالقياس، وخرج عن الاُصول المقرّرة، وذلك باطل قطعاً، وقول في الدين بغير علم.

الثاني: أنّ في التعليل المذكور اجمالاً ولبساً; لأنّ موضع البنات الحقيقي ومنزلتهن في قوله: " وكنّ في موضع بناتك "، وقوله: " صارت بمنزلة ولدك " غير مراد قطعاً، إذ لا معنى له، والمجاز غير متعيّن; لاحتمال إرادة المساواة في الوصف المقتضي للتحريم، وإرادة غير ذلك كالاحترام أو استحقاق الشفقة مثلاً.

ومع الإجمال المذكور كيف يمكن الحمل على ذلك المعنى ليحصل تعدية الحكم إلى محلّ آخر؟!

سلّمنا الحمل على المساواة; لتعيّنه، فما المراد من هذه المساواة، أمن بعض الوجوه أو من جميعها؟


الصفحة 34
لا جائز أن يُراد البعض، وإلاّ لثبت التحريم بالمساواة في أمر ما; عملاً بمقتضي التعليل المذكور.

ولا جائز أن يُراد المساواة من جميع الوجوه; لامتناع تحقّقه.

ولا من وجه معيّن بخصوصه; لعدم إشعار اللفظ له بشيء.

الثالث: إنّا إذا سلّمنا دلالة الروايات المذكورة على المراد بغير مانع ممّا ذكر، أمكن القدح بوجه آخر; وذلك لأنّ حكاية الحال في السؤال، أعني قوله: امرأة أرضعت لي صبيّاً فهل يحلّ لي أن أتزوّج ابنة زوجها؟ تحتمل كون زوجها هو صاحب اللبن، وغيره، ومع ذلك فيحتمل كون البنت المذكورة منها ومن غيرها.

وترك الاستفصال في نحو ذلك دليل العموم، فيقتضي تحريم بنت الزوج من غيرها وإن لم يكن الزوج هو صاحب اللبن، وهو باطل بالإجماع.

ومثل هذا بعينه آت من الثانية والثالثة; لأنّ قوله في السؤال: هل يحلّ لذلك الرجل أن يتزوّج ابنة هذه المرأة؟ وقوله: هل يجوز لي أن أتزوّج بعض ولدها؟ كما يحتمل أن تكون ابنة المرأة ابنة لصاحب اللبن يحتمل أن تكون ابنة لغيره أيضاً، وكما يحتمل كونها ابنة لها من النسب يحتمل كونها ابنة لها من الرضاع، فيقتضي ترك الاستفصال تحريم بنت المرضعة من الرضاع بلبن فحل آخر على أب الصبي، وهو باطل قطعاً، ومع ذلك فهما مكاتبتان، وما هذا شأنه كيف يتمسّك به، بل كيف يتعدّى حكمه إلى غيره قياساً؟!

وأمّا المسائل الثلاث التي تكلّم فيها الأصحاب:

فالاُولى: اُم اُم المرتضع نسباً أو رضاعاً هل تحرم على صاحب اللبن

الصفحة 35
ـ أعني الفحل ـ أم لا؟ قولان للأصحاب:

أحدهما: ـ وبه قال الشيخ في (المبسوط)(1)، وابن حمزة(2)، وابن البرّاج(3)، والعلاّمة في (التحرير) و(القواعد) و(التلخيص) وظاهر عبارته في (الإرشاد)(4) ـ عدم التحريم; لعدم المقتضي له، فإنّه ليس إلاّ كونها جدّة ابنه. وذلك لا يصلح دليلاً على التحريم; لأنّ جدّة الولد إنّما حرمت بالمصاهرة، أعني الدخول بابنتها، وذلك منتف هنا، فيتمسّك بأصالة الحلّ إلى أن يثبت الدليل المحرّم.

والثاني: التحريم، وبه أفتى الشيخ في (الخلاف)(5)، ونصره ابن ادريس(6)، واختاره العلاّمة في (المختلف) مع اعترافه بقوّة المذهب الأوّل(7)، وفي (التذكرة) لم يصرّح بشيء، لكنّ الظاهر منه الميل إلى التحريم(8).

وحجّتهم ما تقدّم من الأخبار الصحيحة، ووجه الاستدلال بها حكمهم عليهم السّلام بتحريم اُخت الابن من الرضاع وجعلها في موضع البنت، واُخت الابن تحريمها بالنسب إذا كانت بنتاً، وبالسبب إذا كانت بنت الزوجة. والتحريم هنا بالمصاهرة، وقد جعل الرضاع كالنسب في ذلك،

____________

1- المبسوط 5: 305.

2- الوسيلة: 302.

3- المهذّب 2: 190.

4- تحرير الأحكام 2: 5، قواعد الأحكام 2: 11، إرشاد الأذهان 2: 19.

5- الخلاف 5: 93 مسألة 2 كتاب الرضاع.

6- السرائر 2: 555.

7- مختلف الشيعة 7: 41 مسألة 7 الرضاع.

8- تذكرة الفقهاء 2: 614.


الصفحة 36
فيكون في اُم الاُم كذلك، وليس قياساً; لأنّه نبّه بجزئي من كلّي على حكم الكلّي، كذا احتج شيخنا في (شرح الإرشاد)(1)، وفيه نظر:

أمّا أوّلاً: فلأنّ المشار إليه بقوله: (في ذلك)، هوتحريم بنت الزوجة، أي جعل الرضاع كالنسب في تحريم بنت الزوجة، أي كما تحرم بالنسب تحرم بالرضاع. ومعلوم أنّ تحريمها إذا لم تكن بنتاً ليس بالنسب، إنّما هو بالمصاهرة، فلا يستقيم قوله: (جعل الرضاع كالنسب في ذلك).

وأمّا ثانياً: فلأنّه لا يلزم من ثبوت التحريم في هذا الفرد المعيّن مع خروجه عن حكم الأصل، وظاهر القواعد المقرّرة ـ ورود النصّ عليه بخصوصه ـ تعدية الحكم إلى ما أشبهه من المسائل، فإنّ ذلك عين القياس.

وادعاؤه نفي القياس عنه، واعتذاره بأنّه (نبّه بجزئي من كلّي على حكم الكلّي) لا يُفيد شيئاً; لأنّ تعريف القياس صادق عليه، فقد عرّف بأنّه: تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع بعلّة متحدة فيهما.

والأصل في ما ذكره هو اُخت الولد من الرضاع، والفرع هو جدّة الولد من الرضاع، والحكم المطلوب تعديته هو التحريم الثابت في الاُصول بالنصّ، وما يظنّ كونه علّة التحريم هو كون اُخت الولد من الرضاع في موضع من يحرم من النسب، أعني البنت النسبيّة.

وهذا بعينه قائم في جدّة الولد من الرضاع، فإنّها في موضع جدّته من النسب، بل ما ذكره أسوأ حالاً من القياس; لأنّك قد عرفت أنّ القياس تعدية الحكم من جزئي إلى آخر; لاشتراكهما في ما يظنّ كونه علّة للحكم، فهو رحمه الله قد حاول تعدية الحكم من الجزئي إلى الكلّي، ونبّه على العلّة

____________

1- غاية المراد (الطبعة الحجّرية): 208.


الصفحة 37
وثبوتها في الفرع أوّل كلامه، وأغرب في عبارته فسمّى ذلك تنبيهاً على الحكم ونفى عنه اسم القياس، وذلك لا يحصّنه من الإيراد والاعتراض، ولا يلتبس على الناظر(1) المتأمّل كونه قياساً.

الثانية: أولاد الفحل ولادة ورضاعاً هل يحرم على أب المرتضع أم لا؟

الخلاف هنا كالخلاف في ما سبق، غير أنّ التحريم هنا راجح عملاً بظاهر دلالة النصوص السالفة، ولا محذور في استثناء هذه المسألة من قاعدة عدم التحريم في الرضاع بالمصاهرة; لاختصاصها بالنصّ.

فإن قيل: النصوص السالفة دلّت على تحريم أولاد المرضعة، وهي تقتضي شيئين:

أحدهما: عدم الإشعار بتحريم أولاد الفحل من غيرها، فكيف عمّمتم التحريم؟

والثاني: تحريم أولادها من الرضاعة وإن كان بلبن فحل آخر; لعموم صدق أولادها عليهم، وأنتم لا تقولون به.

قلنا: أمّا الأمر الأوّل فصحيح بالنسبة إلى الروايتين الأخيرتين، وأمّا بالنسبة إلى الاُولى فلا; لأنّها مصرّحة بتحريم أولاد الفحل، فإنّ أوّل السؤال معنّون به، ولا يضرّ التعبير بالزوج، فإنّه وإن كان أعمّ من الفحل، إلاّ أنّ الأصحاب مطبقون على إرادة صاحب اللبن، ولعلّهم فهموه من لفظ، أو اهتدوا إليه باقتضاء الإجماع له.

وأمّا الأمر الثاني فالعموم بحسب الظاهر ثابت، لكن الإجماع منعقد

____________

1- في " ش3 ": الفطن.


الصفحة 38
على اعتبار اتّحاد الفحل في ثبوت التحريم.

فإن قيل: هذا شأن أولاد الفحل في ثبوت التحريم(1) بالنسبة إلى أب المرتضع، فما تقول في أولاد أب المرتضع ولادة ورضاعاً وأخواته، هل تحرم على الفحل أم لا؟

قلنا: الخلاف السابق جار هنا، وقد صرّح العلاّمة بعدم التحريم، قال في (التحرير) في البحث السادس من اللواحق ما صورته: قال الشيخ في (الخلاف): إذا حصل الرضاع المحرّم لم يحلّ للفحل نكاح اُخت المرتضع بلبنه، ولا لأحد من أولاده من غير المرضعة ومنها; لأنّ اخوته وأخواته صاروا بمنزلة أولاده(2)، وليس بمعتمد(3).

وفي (القواعد) بعد أن قوّى عدم تحريم الرضاع بالمصاهرة، فرّع عليه عدم التحريم في المسائل المذكورة، وصرّح بعدم التحريم في هذه المسألة، قال: فللفحل نكاح اُمّ المرتضع واخته وجدّته(4).

والظاهر عدم الفرق بين بنات الفحل بالنسبة إلى أب المرتضع وأخوات المرتضع بالنسبة إلى الفحل; نظراً إلى العلّة المذكورة في الحديثين السابقين. فإن كانا حجّة وجب التمسّك بمقتضى العلّة المنصوصة، وإلاّ انتفى التحريم في المقامين، وعلى كلّ حال فالعمل بالاحتياط فيهما أولى وأحرى.

الثالثة: هل لأولاد أبي المرتضع، الّذين لم يرتضعوا من هذا اللبن،

____________

1- في ثبوت التحريم: لم ترد في " ش1 " و" ش3 ".

2- الخلاف 5: 93 مسألة 1 كتاب الرضاع.

3- تحرير الأحكام 2: 12.

4- قواعد الأحكام 2: 12.


الصفحة 39
أن ينكحوا في أولاد المرضعة ولادة، وفي أولاد فحلها ولادة ورضاعاً، أم لا؟ قولان أيضاً للأصحاب كنحو ما سبق، لكن القائل بالتحريم هنا هو الشيخ في (الخلاف)(1) و(النهاية)(2).

وقال ابن ادريس: قول شيخنا في ذلك غير واضح، وأي تحريم حصل بين اُخت هذ المولود المرتضع وبين أولاد الفحل، وليست اختهم لا من اُمهم ولا من أبيهم، والنبيّ (عليهم السلام) جعل النسب أصلاً للرضاع في التحريم فقال: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب "، وفي النسب لا تحرم على الإنسان اُخت أخيه التي لا من اُمه ولا من أبيه(3).

وفي (المبسوط) حكم بعدم التحريم في ذلك، والتجأ إلى ما أصله من أنّ التحريم متعلّق بالمرتضع وحده، ومَن كان من نسله دون مَن كان من من طبقته، وهذا من طبقته; لأنّه لا نسب بينه وبين اُخت أخيه ولا رضاع، وهو واضح(4).

فإن قيل: النصّ السابق يدلّ على التحريم هنا إلتزاماً; لأنّه لمّا تضمّن تحريم الأولاد على أب المرتضع، معلّلاً بأنّهم بمنزلة أولاده في التحريم، لزم من ذلك أن يكونوا لأولاده كالاُخوّة، فيحرم بعضهم على بعض; لأنّ البنوّة لصاحب اللبن والاُخوة لاُولاده متلازمان، فيمتنع ثبوت إحداهما مع انتفاء الاُخرى، وقد ثبتت البنوّة بالنصوص السالفة، فتثبت الاُخوة، فيلزم التحريم.

____________

1- الخلاف 5: 93 مسألة 2 كتاب الرضاع.

2- النهاية: 462.

3- السرائر 2: 557.

4- المبسوط 5: 292.


الصفحة 40
قلنا: تمتنع الدلالة الالتزاميّة هنا; لأنّ من شرطها اللزوم الذهني بالمعنى الأخص، وليس بثابت، بل يمتنع التلازم أصلاً، فإن ثبوت بنوّة شخص لآخر تقتضي ثبوت الاُخوة لأولاده، لا ثبوت الاُخوة أولاده، وذلك غير مقتض للتحريم بوجه من الوجوه، والله أعلم بالصواب.