المقدّمة


الحمدُ لله ربّ العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، والصلاة والسّلام على خير مدعوٍّ ومجيب، ورسول وحبيب، علم التقى، وبدر الدجى، محمّد المصطفى (صلى الله عليه وآله)، وعلى عترته أُولي الحجى وذوي النهى، والعروة الوثقى، وسفينة النجاة، التي أمن مَن ركبها، وغرق مَن تركها، وعلى صحبهم والتابعين لهم بإحسان، الحافظين للوديعة، ومَن أحبّوا الشريعة، واللعنة الدائمة على مَن نازعهم ونصب لهم.

وبعد،

تعرّفنا في ما مضى على عدّة جوانب من حياة المحقّق الكركي: الشخصيّة، والسياسيّة، والعلميّة، وآرائه وفوائده.

ففي البحث عن حياته الشخصيّة تحدّثنا عن اسمه، ومولده وموطنه، وأُسرته، وأخلاقه وسجاياه، وآثاره ومآثره، وكراماته، ومراحل حياته المختلفة، ثمّ مدحه وإطرائه، وأخيراً وفاته ومدفنه.

وفي حياته السياسيّة تعرّضنا لعدّة مواضيع لها صلة بالكركي وعصره: كالتصوّف والصوفيّة، وموقف العلماء من الحكّام، ونشوء الدولة الصفويّة وكيفيّة تعامل العلماء معها، ثمّ تحدّثنا بشكل مفصّل عن علاقة الكركي بهذه الدولة ابتداءً من تأسيسها حتّى سنة 940 هـ، حيث عاصر الكركي حاكمين من حكّامها هما الشاه إسماعيل وابنه الشاه طهماسب.


الصفحة 2
وفي حياته العلميّة سلّطنا الضوء على بعض المجالات التي كان للكركي دور فعّال فيها، فتحدّثنا عن عصره ومعاصريه، وأساتذته وشيوخه، والروايات التي حصل عليها والتي منحها، ومؤلّفاته، والكتب التي قرأها والتي قُرئت عليه، ومكانته العلميّة، ونشاطه العلميّ، والمحاورات والردود العلميّة التي جرت بينه وبين بعض الأعلام.

ثمّ أفردنا بحثاً مستقلاًّ وكاملاً لآرائه ونظريّاته المودعة في مؤلّفاته، والتي لم يُفرد لها تصنيفاً مستقلاً، حيث أجرينا عمليّة استقصاء كامل لكافّة مؤلّفاته، واستخرجنا منها هذه الآراء والنظريّات، وهي آراؤه الكلاميّة، والأُصوليّة، والرجاليّة، وفوائده التأريخيّة، وملاحظاته عن بعض المؤلّفات، وشواهده الشعريّة، والجداول والرسوم التي استعملها.

وفي نهاية كلّ بحث أفردنا فصلاً خاصّاً بعنوان " الملاحظات "، سجّلنا فيه الملابسات التي حصلت في حياته، والاشتباهات التي وقع فيها بعض المؤلّفين عند ترجمتهم للكركي.

والآن تعال معي عزيزي القارئ لنطلّ على جانب آخر من جوانب عظمة هذا الرجل، حيث نتعرّف على بعض آرائه ونظرياته التي استطاع أن يصهرها في بودقة التأليف عبر كتبه المختلفة من حيث مواضيعها وحجمها وأسباب تأليفها.

إنّ الوقوف على مؤلّفات المحقّق الكركي، ودراستها بشكل مفصّل ودقيق، يكشف لنا ـ من جانب ـ المستوى العلمي الذي تمتّع به هذا العالم، ومن جانب آخر يُظهر لنا المنزلة الاجتماعيّة الكبيرة التي كان يحتلّها آنذاك، ليس في أوساط الناس عموماً، بل حتّى عند كبار رجال الدولة، وعلى رأسهم الشاه إسماعيل وابنه الشاه طهماسب، وقد تعرّضنا لهذه النقاط بشكل مفصّل

الصفحة 3
في ما مضى من الكتاب عند حديثنا عن حياته.

والملاحظ أنّ مؤلّفات الكركي تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأوّل:

الرسائل، والتي تتناول عادةً البحث عن موضوع معيّن، أو مسألة فقهيّة واحدة. وهذه الرسائل يختلف حجمها، فبعضها يقع في أربعين أو خمسين صفحة، والبعض الآخر يقع في عدّة صفحات.

الثاني:

الحواشي والشروح لبعض الكتب المعتمدة عندنا، كالشرائع والمختصر النافع للمحقّق الحلّي، والقواعد والإرشاد والمختلف للعلاّمة الحلّي، والألفيّة الشهيديّة.

الثالث:

جواب الأسئلة والاستفتاءات التي كانت ترد عليه من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وبمستويات مختلفة في التعبير، وقد قام بعض تلامذته وبعض العلماء القريبين من عصره بجمعها وترتيبها.

وقد استطعتُ بحمد الله تعالى وتوفيقه طيلة سنوات عديدة، أن أجمع وأُحقّق من مؤلّفات هذا العالم الجليل أربعة وخمسين مؤلّفاً، معتمداً على مائة وعشرين نسخة خطيّة موجودة في عدّة مكتبات في الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة: قم المقدّسة، مشهد المقدّسة، طهران، همدان، يزد، خوانسار، أصفهان. وقد عانيت الكثير من المصاعب في جمع هذه النسخ الخطيّة، فإنّ الحصول على نسخة خطيّة واحدة من أقرب المكتبات إلينا في مدينة قم المقدّسة لا يخلو من مصاعب جمّة، فكيف بهذا الكمّ الهائل من النسخ الخطيّة.


الصفحة 4

منهجيّة التحقيق


اعتمدت في تحقيقي لهذه المجموعة من رسائل الكركي وحواشيه على طريقة واحدة، أُلخّصها بعدّة نقاط:

(1) اتّبعت طريقة التلفيق بين النسخ الخطيّة، وذلك لعدم عثوري على نُسخ الأصل التي كتبها الكركي بيده. نعم، بعض الرسائل عثرتُ لها على نُسخ مقروءة على الكركي، إلاّ أنّي لم أكتف بها وأضفتُ لها نُسخاً أُخرى.

(2) عند حصولي على عدّة نسخ خطيّة لإحدى هذه المؤلّفات، أقوم بمقابلة بعضها مع البعض الآخر، وإثبات الصحيح أو الأصح في المتن وما قابلهما في الهامش.

وعند عدم حصولي إلاّ على نسخة واحدة، فإنّي أجعلها الأصل في عملي، وأُشير في الهامش إلى ملاحظاتنا واستظهاراتنا عليها.

(3) استخراج كلّ ما يحتاج إلى تخريج من آيات قرآنيّة كريمة، وأحاديث شريفة، وأقوال العلماء في شتى العلوم، وشواهد شعريّة، وأماكن وبقاع. وحاولت قدر المستطاع أن أعتمد على المصادر الرئيسيّة في كافة الاستخراجات، إلاّ تلك المصادر المفقودة أساساً أو التي لم أُوفّق للحصول عليها، فقد استعنتُ في الحصول على أقوالها بواسطة مصادر أُخرى ميسّرة.

(4) لم أُترجم كافة الأعلام الّذين وردت أسماؤهم، بل ترجمتُ لبعضهم حسب الضرورة التي رأيتها.

(5) عند شروعي في تحقيق الحواشي والشروح وضعتُ متن الكتاب المشروح في أعلى كلّ صفحة، ويتلوه الشرح أو الحاشية التي كتبها الكركي.


الصفحة 5
ثمّ قمتُ بحذف المتن واكتفيت بالإشارة إليه ; رعاية للاختصار، وتلبيةً لاقتراح بعض الإخوة الأفاضل من المحقّقين.

(6) رتّبتُ الرسائل حسب مواضعيها، فوضعتُ أوّلاً الرسالة النجميّة التي جمع فيها الكركي بين علمي الكلام والفقه وأدرج فيها أيسر ما يجب على المكلّفين معرفته في الأُصول والفروع، ثمّ رسالة استنباط الأحكام التي تعبّر عن المنهج العلمي للكركي، ثمّ الرسائل الفقهيّة مرتّبة بترتيب كتب الفقه ابتداءً من الطهارة وانتهاءً بالقضاء، ثمّ الرسائل المتفرّقة وجوابات المسائل الفقهيّة التي وردت عليه.

(7) نظّمتُ فهارس فنيّة كاملة، تعميماً للفائدة واتّباعاً للمنهج الحديث في التحقيق.


وآخر دعوانا أن الحمدُ لله ربّ العالمين

محمّد الحسّون


الصفحة 6


طلاق الغائب





الصفحة 7

الصفحة 8

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين

الحمدُ لله وكفى، والصلاة والسّلام على رسوله المصطفى، وعلى آله الأئمّة الشرفاء.

وبعد،

هذه رسالة صغيرة تقع في مائة بيت تقريباً، بيّن فيها مؤلّفها المحقّق الثاني الكركي حكم الغائب إذا أراد أن يُطلّق زوجته وقد خرج عنها في طُهر قد قاربها فيه. فبدأ ببيان اختلاف العلماء في هذه المسألة، ثمّ شرع ببيان منشأ الاختلاف بينهم، وهو اختلاف الروايات الواردة في هذا الحكم.

اعتمدتُ في تحقيق هذه الرسالة على ثلاث نسخ خطيّة، هي:

(1) النسخة الخطيّة المحفوظة في المكتبة المرعشيّة العامّة في مدينة قم المقدّسة ضمن المجموعة المرقّمة 4933، والمذكورة في فهرس مخطوطات المكتبة 13: 129، تأريخ كتابتها سنة 964 هـ. وتقع هذه النسخة في ثلاث أوراق بحجم 5/18 × 13 سم، وكلّ ورقة تحتوي على ستة عشر سطراً، وقد رمزنا لها بالحرف " ش ".

(2) النسخة الخطيّة المحفوظة في مكتبة جامع گوهر شاد في مدينة مشهد المقدّسة ضمن المجموعة المرقمة 1109، والمذكورة في فهرس مخطوطات المكتبة 3: 1535، تأريخ كتابتها سنة 1031هـ. وتقع هذه النسخة في ثلاث أوراق بحجم 5/17× 10سم، وكلّ ورقة تحتوي على سبعة عشر سطراً، وقد رمزنا لها بالحرف " ك ".


الصفحة 9
(3) النسخة الخطيّة المحفوظة في مكتبة الفاضل الخوانساري في مدينة خوانسار ضمن المجموعة المرّقمة 239، والمذكورة في فهرس مخطوطات المكتبة 1: 200. وتقع هذه النسخة في ست أوراق بحجم 5/12× 5/18سم، وكلّ ورقة تحتوي على عشرين سطراً، وقد رمزنا لها بالحرف " س ".


والحمد لله ربِّ العالمين.


الصفحة 10


الصفحة الاُولى من النسخة المحفوظة في المكتبة المرعشيّة "ش"

الصفحة 11

الصفحة الأخيرة من النسخة المحفوظة في المكتبة المرعشيّة "ش"

الصفحة 12

الصفحة الاُولى والثانية من النسخة المحفوظة في مكتبة جامع گوهر شاد "ك"

الصفحة 13

الصفحة الأخيرة من النسخة المحفوظة في مكتبة جامع گوهر شاد "ك"

الصفحة 14
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله، والصلاة على محمّد وآله.

اختلف كلام الأصحاب في أنّ الغائب إذا أراد أن يُطلّق زوجته، وقد خرج عنها في طُهر قد قربها فيه، كم يتربّص بها ثمّ يُطلّقها؟

فقال الشيخ في (النهاية): إنّه يتربّص بها شهراً ثم يُطلّقها، فيقع الطلاق وإن كانت حائضاً(1).

وفي موضع آخر منها: إنّها متى كانت طاهراً طُهراً لم يقربها فيه بجماع طلّقها متى شاء، وإن كانت طاهراً طُهراً قربها فيه بجماع فلا يطلّقها حتى يمضي ما بين شهر إلى ثلاثة أشهر(2).

وأطلق المُفيد وسلاّر جواز طلاق الغائب متى أراد(3).

وقريب من ذلك إطلاق ابن أبي عقيل(4)، وعلي بن بابويه(5).

واعتبر ابن البرّاج في التي خرج عنها زوجها في طُهر قد قربها فيه أن يمضي لها ما بين شهر إلى ثلاثة أشهر(6).

____________

1- النهاية: 512.

2- النهاية: 517.

3- المقنعة: 526 ـ 527، المراسم: 161.

4- حكاه عنه العلاّمة في مختلف الشيعة 7: 353 مسألة 11 كتاب الطلاق.

5- حكاه عنه ابنه الصدوق في المقنع: 116، والعلاّمة في مختلف الشيعة 7: 353 مسألة 11 كتاب الطلاق، وانظر ما ورد في الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه السلام: 244.

6- المهذّب 2: 287.


الصفحة 15
وعبارة أبي الصلاح مطلقة أيضاً(1).

وابن حمزة قدّر بشهر فصاعداً(2).

واعتبر ابن الجنيد في طلاق زوجة الغائب العلم ببراءة رحمها من الحمل، وقدّر مدّة التربص بثلاثة أشهر(3).

وقال محمّد بن بابويه: إنّ أقصى مدّة التربّص خمسة أشهر أو ستة، وأوسطه ثلاثة، وأدناه شهر(4).

ومنشأ هذا الاختلاف اختلاف الروايات:

ففي رواية إسحاق بن عمّار عن أبي إبراهيم (عليه السلام): التحديد بخمسة أشهر، ستة أشهر، وأدون في ذلك ثلاثة أشهر(5).

وفي رواية عنه عن أبي عبدالله (عليه السلام): شهر(6).

وفي صحيحة جميل بن درّاج عن الصادق (عليه السلام): اعتبار ثلاثة أشهر(7).

وفي صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام: إنّ الغائب " يجوز

____________

1- الكافي في الفقه: 305.

2- الوسيلة إلى نيل الفضيلة: 320.

3- نقله عنه العلاّمة الحلي في مختلف الشيعة 7: 354 مسألة 11 كتاب الطلاق.

4- الفقيه 3: 325 باب طلاق الغائب ذيل الحديث 1572.

5- الفقيه 3: 325 حديث 1573، التهذيب 8: 62 حديث 204، وسائل الشيعة 22: 58 باب 56 من أبواب مقدّمات الطلاق وشرائطه حديث 8.

6- الكافي 6: 80 حديث 3 باب النساء اللاتي يُطلّقن على كلّ حال، التهذيب 8: 62 حديث 202، الاستبصار 3: 295 حديث 1041، وسائل الشيعة 22: 56 باب 26 من أبواب مقدّمات الطلاق وشرائطه حديث3.

7- التهذيب 8: 62 حديث 203، وسائل الشيعة 22: 58 باب 26 من أبواب مقدّمات الطلاق وشرائطه حديث 7.


الصفحة 16
طلاقه على كلّ حال "(1).

وفي صحيحة إسماعيل الجعفي عن الباقر (عليه السلام): " خمس يطلّقهن الرجل على كلّ حال "، وعدّ منهن زوجة الغائب(2).

وفي رواية أبي بصير عن أبي عبدالله (عليه السلام): إنّ الغائب إذا علم أنّ امرأته يوم طلّقها كانت حائضاً يقع الطلاق(3).

وقد جمع الشيخ بين هذه الأخبار بالحوالة على اختلاف عادة النساء في الحيض(4)، فمَنَ عَلِمَ من حال امرأته أنّها تحيض في كلّ شهر حيضة جاز له أن يُطلقّ بعد شهر، ومَنْ يعلم أنّها لا تحيض إلاّ في أزيد من ذلك انتظر تلك الزيادة. فالمراعى في جواز ذلك مضي حيضة، وانتقالها إلى طُهر لم يقربها فيه بجماع.

وبمعنى هذا أفتى ابن ادريس، وقال: إنّ الشيخ رجع عن إطلاق (النهاية) إلى هذا التحقيق في (الاستبصار)(5).

وأفتى العلاّمة في (المختلف) باعتبار ثلاثة أشهر كقول ابن الجنيد(6).

____________

1- الكافي 6: 80 حديث 7 باب النساء اللاتي يُطلّقن على كلّ حال، التهذيب 8: 60 حديث 195، الاستبصار 3: 294 حديث 1038، وسائل الشيعة 22: 56 باب 26 من أبواب مقدّمات الطلاق وشرائطه حديث 1.

2- الكافي 6: 79 حديث 1 باب النساء اللاتي يُطلّقن على كلّ حال، الفقيه 3: 334 حديث 1615، التهذيب 8: 61 حديث 198، الاستبصار 3: 294 حديث 1039، وسائل الشيعة 22: 54 باب 25 من أبواب مقدّمات الطلاق وشرائطه حديث 1.

3- التهذيب 8: 62 حديث 201، الاستبصار 3: 294 حديث 1040، وسائل الشيعة 22: 57 باب 26 من أبواب مقدّمات الطلاق وشرائطه حديث 6.

4- الاستبصار 3: 295 ذيل الحديث 1043.

5- الاستبصار 3: 295 ذيل الحديث 1043، السرائر 2: 686.

6- مختلف الشيعة 7: 354 مسألة 11 كتاب الطلاق.


الصفحة 17
والذي يقتضيه النظر الصحيح والوقوف مع القوانين الاُصوليّة هو مختار الشيخ في (الاستبصار); وذلك لأنّ الأخبار الدالة على وجوب التربّص مدّة ليصح الطلاق لا يجوز إجراؤها على ظاهرها من الاختلاف والتنافي، ولا إطراح بعضها، فلم يبقَ إلاّ الجمع بينها بالحمل على أنّ المراد مراعاة زمان يعلم الزوج الغائب حصول الحيض بعد طُهر الجماع والانتقال عنه إلى الطُهر، وأنّ الاختلاف منزّل على اختلاف عادات النساء في حصول الحيض باعتبار شهر أو ثلاثة أو خمسة ستة.

فقد اشتركت أخبار التربّص في أنّ الانتقال من طُهر إلى آخر شرط صحة الطلاق من الغائب ولو ظنّاً مستفاداً من عادة المرأة إن كانت معلومة، وإلاّ فمن غالب عادات النساء.

ودلّت رواية أبي بصير على أنّه لو طلّقها وعلم يوم طلّقها أنّها كانت طامثاً، يجوز الطلاق.

ولا ريب أنّ ما اشتركت فيه هذه الأخبار مخصّص لعموم الخبرين الدالين على جواز تطليق زوجة الغائب على كلّ حال.

إذا تقرّر ذلك فالبحث هنا يقع في مسائل:

الاُولى: إذا تربّص الغائب بالطلاق إلى مضي شهر حيث تكون عادة زوجته الحيض في كلّ شهر مرّة، ثم طلّق، فتبيّن بعد ذلك تخلّف العادة وأنّها لم تحض، وأنّ الطلاق وقع في الطُهر الذي جامعها فيه، فالظاهر عدم صحته; لانتفاء شرط الصحة، وهو حصول استبراء الرحم، بخلاف ما لو بانت حائضاً; لرواية أبي بصير السالفة(1)، مع احتمال الصحة; لوقوعه على الوجه المُعتبر شرعاً فيجب اعتباره.

____________

1- تقدّمت في الصفحة.


الصفحة 18
وفيه منع ; لأنّ الشرط مفقود، والاذن له في الطلاق استناداً إلى ظنّ الانتقال لا يقتضي الحكم بالصحة إذا ظهر بطلان الظنّ.

الثانية: لو خرج في طُهر لم يقربها فيه لم يجب التربّص قطعاً; للعلم ببراءة الرحم من الحمل، فيطلّق متى أراد.

الثالثة: لو تربّص المدّة المُعتبرة حيث تجب كشهر مثلاً، ثم أخبره مَن يعتبر خبره شرعاً بحيضها فطلّقها حينئذ لم يصح; لأنّ ظاهر الأخبار يقتضي العلم بطهرها وقت الطلاق أو ظنّه، ولعموم الدلائل الدالة على المنع من طلاق الحائض، خرج منه الصغيرة والثلاث الاُخر قطعاً وزوجة الغائب بعد التربّص إذا ظهر كونها حائضاً عند الطلاق; لرواية أبي بصير السالفة(1)، فيبقى الباقي على أصله.

الرابعة: قال العلاّمة فخر الدين في (شرح القواعد): إنّ الغائب إذا طلّق بعد الظهر الثاني عالماً بأنّها حائض حين الطلاق صح طلاقها، واستدل على ذلك بأنّ فيه جمعاً بين الأخبار(2).

وما ادّعاه غير واضح، وما استدل به مردود; لأنّ الأخبار بعضها دلّ على جواز التطليق على كلّ حال، وبعضها دلّ على اعتبار مدّة التربّص، وهي ما يظنّ معها كونها طاهراً وقت الطلاق، فيخصّ العموم بأنّ زوجة الغائب إنّما يجوز طلاقها إذا غلب على الظنّ بمضي المدّة المذكورة كونها طاهراً، وكأنّه (عليه السلام) قال: وزوجة الغائب على كلّ حال إذا غلب على الظنّ كونها طاهراً طُهراً لم يقربها فيه، وحينئذ فلا دلالة فيه على ما يدّعيه أصلاً.

فإن قيل: يمكن الجمع بين الأخبار بوجه آخر، وهو أن يقال:

____________

1- تقدّمت في الصفحة.

2- إيضاح الفوائد 3: 304.


الصفحة 19
الأخبار الدالة على التربّص دلّت على اعتبار المدّة المذكورة من غير تقييد بكونها طاهراً وقت الطلاق وعدمه، فيقيّد بذلك عموم الأخبار العامّة، فيصير هكذا: وزوجة الغائب على كلّ حال إذا تربّص بها المدّة التي تنتقل معها من طُهر إلى طهر(1)، وحينئذ فيعمّ ذلك ما إذا علم حيضها حين الطلاق بعد الطُهر الثاني.

قلنا: هذا مردود لوجوه:

الأوّل: أنّه إذا دار الحال في التقدير في النصوص بين أمرين أو اُمور، وجب تقدير ما كان ألصق بالمقام، واللائح أنّ اعتبار الطهارة ألصق بالمقام; وذلك(2) لأنّ زوجة الغائب لمّا اعتبر فيها الاستبراء وظنّ الانتقال عن الحيض إلى الطهر، ولم يُكْتَفَ بظنّ الانتقال إلى الحيض، أفاد ذلك أنّ أحكام زوجة الحاضر لا حقة لها، لكن لخفاء حالها بسبب البعد اكتفي عن معرفة حالها بحسب الواقع بما يُفيده معرفة عادتها.

الثاني: إنّا لو سلّمنا أنّ كلاً من التقديرين ممُكن، فلا بدّ من مرجّح يعيّن التقدير الآخر الذي يبقى معه العموم; ليخصّ به عمومات الكتاب والسنّة الدالة على المنع من طلاق الحائض. ولا ريب أنّه ليس هناك مرجّح، ومع انتفائه فكيف يجوز الإقدام على الحكم بجواز طلاق مَنّ يعلم كونها حائضاً مع قيام الدلائل الدالة على المنع وانتفاء المعارض؟! ولا ريب أنّ الإقدام على حلّ ما دلّ ظاهر الكتاب والسنّة على تحريمه بمثل هذا التمحل على شفا.

الثالث: أنّه لو جمع بين الأخبار بالطريق الذي يدلّ على مدّعاه، لزم

____________

1- في " ش ": آخر.

2- وذلك: لم ترد في " ش ".


الصفحة 20
القول بأنّ مَن علمَ بالحيض بعد الطُهر الأوّل يجب الحكم بصحة طلاقه; ليتناول العموم لهذا الفرد بزعمه.

فإن قيل: هذا الفرد خرج بالإجماع.

قلنا: أي إجماع يُدّعى والمفيد وجماعة يجوّزون طلاق الغائب مُطلقاً.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ القول بصحة الطلاق على هذا الوجه قول عريّ عن الدليل، بعيد عن الاحتياط، مشتمل على ارتكاب تخصيص عمومات الكتاب والسنّة بما ليس بشيء، وإنّما هو وهمٌ محضٌ وخيالٌ واه، وعبارات الأصحاب مُشعرةٌ بخلاف ما ذكره.

قال في (القواعد): ولو خرج مسافراً في طُهر لم يقربها فيه صح طلاقها وإن صادف الحيض(1).

والمفهوم من المصادفة عدم العلم.

وفي (التحرير): ولو طلّق غير المدخول بها، أو التي غاب عنها قدراً يعلم انتقالها فيه من طُهر إلى آخر، جاز طلاقها مُطلقاً وإن اتّفق في الحيض(2).

والمفهوم من الاتّفاق نحو المفهوم من المصادفة.

وفي (الشرائع): أمّا لو انقضى من غيبته ما يعلم انتقالها من طُهر إلى آخر، ثم طلّق، صحّ ولو اتفق في الحيض(3).

وليس يحضرني في عبارة أحد(4) من المعتبرين التصريح بالجواز مع العلم بالحيض، والله الموفق(5).

____________

1- قواعد الأحكام 2: 62.

2- تحرير الأحكام 2: 52.

3- شرائع الاسلام 3: 14.

4- أحد: لم ترد في " ك ".

5- في " ش ": الموفق للسداد.