المقدّمة


الحمدُ لله ربّ العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، والصلاة والسّلام على خير مدعوٍّ ومجيب، ورسول وحبيب، علم التقى، وبدر الدجى، محمّد المصطفى (صلى الله عليه وآله)، وعلى عترته أُولي الحجى وذوي النهى، والعروة الوثقى، وسفينة النجاة، التي أمن مَن ركبها، وغرق مَن تركها، وعلى صحبهم والتابعين لهم بإحسان، الحافظين للوديعة، ومَن أحبّوا الشريعة، واللعنة الدائمة على مَن نازعهم ونصب لهم.

وبعد،

تعرّفنا في ما مضى على عدّة جوانب من حياة المحقّق الكركي: الشخصيّة، والسياسيّة، والعلميّة، وآرائه وفوائده.

ففي البحث عن حياته الشخصيّة تحدّثنا عن اسمه، ومولده وموطنه، وأُسرته، وأخلاقه وسجاياه، وآثاره ومآثره، وكراماته، ومراحل حياته المختلفة، ثمّ مدحه وإطرائه، وأخيراً وفاته ومدفنه.

وفي حياته السياسيّة تعرّضنا لعدّة مواضيع لها صلة بالكركي وعصره: كالتصوّف والصوفيّة، وموقف العلماء من الحكّام، ونشوء الدولة الصفويّة وكيفيّة تعامل العلماء معها، ثمّ تحدّثنا بشكل مفصّل عن علاقة الكركي بهذه الدولة ابتداءً من تأسيسها حتّى سنة 940 هـ، حيث عاصر الكركي حاكمين من حكّامها هما الشاه إسماعيل وابنه الشاه طهماسب.


الصفحة 2
وفي حياته العلميّة سلّطنا الضوء على بعض المجالات التي كان للكركي دور فعّال فيها، فتحدّثنا عن عصره ومعاصريه، وأساتذته وشيوخه، والروايات التي حصل عليها والتي منحها، ومؤلّفاته، والكتب التي قرأها والتي قُرئت عليه، ومكانته العلميّة، ونشاطه العلميّ، والمحاورات والردود العلميّة التي جرت بينه وبين بعض الأعلام.

ثمّ أفردنا بحثاً مستقلاًّ وكاملاً لآرائه ونظريّاته المودعة في مؤلّفاته، والتي لم يُفرد لها تصنيفاً مستقلاً، حيث أجرينا عمليّة استقصاء كامل لكافّة مؤلّفاته، واستخرجنا منها هذه الآراء والنظريّات، وهي آراؤه الكلاميّة، والأُصوليّة، والرجاليّة، وفوائده التأريخيّة، وملاحظاته عن بعض المؤلّفات، وشواهده الشعريّة، والجداول والرسوم التي استعملها.

وفي نهاية كلّ بحث أفردنا فصلاً خاصّاً بعنوان " الملاحظات "، سجّلنا فيه الملابسات التي حصلت في حياته، والاشتباهات التي وقع فيها بعض المؤلّفين عند ترجمتهم للكركي.

والآن تعال معي عزيزي القارئ لنطلّ على جانب آخر من جوانب عظمة هذا الرجل، حيث نتعرّف على بعض آرائه ونظرياته التي استطاع أن يصهرها في بودقة التأليف عبر كتبه المختلفة من حيث مواضيعها وحجمها وأسباب تأليفها.

إنّ الوقوف على مؤلّفات المحقّق الكركي، ودراستها بشكل مفصّل ودقيق، يكشف لنا ـ من جانب ـ المستوى العلمي الذي تمتّع به هذا العالم، ومن جانب آخر يُظهر لنا المنزلة الاجتماعيّة الكبيرة التي كان يحتلّها آنذاك، ليس في أوساط الناس عموماً، بل حتّى عند كبار رجال الدولة، وعلى رأسهم الشاه إسماعيل وابنه الشاه طهماسب، وقد تعرّضنا لهذه النقاط بشكل مفصّل

الصفحة 3
في ما مضى من الكتاب عند حديثنا عن حياته.

والملاحظ أنّ مؤلّفات الكركي تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأوّل:

الرسائل، والتي تتناول عادةً البحث عن موضوع معيّن، أو مسألة فقهيّة واحدة. وهذه الرسائل يختلف حجمها، فبعضها يقع في أربعين أو خمسين صفحة، والبعض الآخر يقع في عدّة صفحات.

الثاني:

الحواشي والشروح لبعض الكتب المعتمدة عندنا، كالشرائع والمختصر النافع للمحقّق الحلّي، والقواعد والإرشاد والمختلف للعلاّمة الحلّي، والألفيّة الشهيديّة.

الثالث:

جواب الأسئلة والاستفتاءات التي كانت ترد عليه من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وبمستويات مختلفة في التعبير، وقد قام بعض تلامذته وبعض العلماء القريبين من عصره بجمعها وترتيبها.

وقد استطعتُ بحمد الله تعالى وتوفيقه طيلة سنوات عديدة، أن أجمع وأُحقّق من مؤلّفات هذا العالم الجليل أربعة وخمسين مؤلّفاً، معتمداً على مائة وعشرين نسخة خطيّة موجودة في عدّة مكتبات في الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة: قم المقدّسة، مشهد المقدّسة، طهران، همدان، يزد، خوانسار، أصفهان. وقد عانيت الكثير من المصاعب في جمع هذه النسخ الخطيّة، فإنّ الحصول على نسخة خطيّة واحدة من أقرب المكتبات إلينا في مدينة قم المقدّسة لا يخلو من مصاعب جمّة، فكيف بهذا الكمّ الهائل من النسخ الخطيّة.


الصفحة 4

منهجيّة التحقيق


اعتمدت في تحقيقي لهذه المجموعة من رسائل الكركي وحواشيه على طريقة واحدة، أُلخّصها بعدّة نقاط:

(1) اتّبعت طريقة التلفيق بين النسخ الخطيّة، وذلك لعدم عثوري على نُسخ الأصل التي كتبها الكركي بيده. نعم، بعض الرسائل عثرتُ لها على نُسخ مقروءة على الكركي، إلاّ أنّي لم أكتف بها وأضفتُ لها نُسخاً أُخرى.

(2) عند حصولي على عدّة نسخ خطيّة لإحدى هذه المؤلّفات، أقوم بمقابلة بعضها مع البعض الآخر، وإثبات الصحيح أو الأصح في المتن وما قابلهما في الهامش.

وعند عدم حصولي إلاّ على نسخة واحدة، فإنّي أجعلها الأصل في عملي، وأُشير في الهامش إلى ملاحظاتنا واستظهاراتنا عليها.

(3) استخراج كلّ ما يحتاج إلى تخريج من آيات قرآنيّة كريمة، وأحاديث شريفة، وأقوال العلماء في شتى العلوم، وشواهد شعريّة، وأماكن وبقاع. وحاولت قدر المستطاع أن أعتمد على المصادر الرئيسيّة في كافة الاستخراجات، إلاّ تلك المصادر المفقودة أساساً أو التي لم أُوفّق للحصول عليها، فقد استعنتُ في الحصول على أقوالها بواسطة مصادر أُخرى ميسّرة.

(4) لم أُترجم كافة الأعلام الّذين وردت أسماؤهم، بل ترجمتُ لبعضهم حسب الضرورة التي رأيتها.

(5) عند شروعي في تحقيق الحواشي والشروح وضعتُ متن الكتاب المشروح في أعلى كلّ صفحة، ويتلوه الشرح أو الحاشية التي كتبها الكركي.


الصفحة 5
ثمّ قمتُ بحذف المتن واكتفيت بالإشارة إليه ; رعاية للاختصار، وتلبيةً لاقتراح بعض الإخوة الأفاضل من المحقّقين.

(6) رتّبتُ الرسائل حسب مواضعيها، فوضعتُ أوّلاً الرسالة النجميّة التي جمع فيها الكركي بين علمي الكلام والفقه وأدرج فيها أيسر ما يجب على المكلّفين معرفته في الأُصول والفروع، ثمّ رسالة استنباط الأحكام التي تعبّر عن المنهج العلمي للكركي، ثمّ الرسائل الفقهيّة مرتّبة بترتيب كتب الفقه ابتداءً من الطهارة وانتهاءً بالقضاء، ثمّ الرسائل المتفرّقة وجوابات المسائل الفقهيّة التي وردت عليه.

(7) نظّمتُ فهارس فنيّة كاملة، تعميماً للفائدة واتّباعاً للمنهج الحديث في التحقيق.


وآخر دعوانا أن الحمدُ لله ربّ العالمين

محمّد الحسّون


الصفحة 6


جوابات الشيخ
حسين الصيمري





الصفحة 7

الصفحة 8

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله حقّ حمده، والصلاة والسّلام على رسوله محمّد وآله.

وبعد،

هذه جوابات المسائل الفقهيّة التي سألها العالم الجليل، الفقيه الورع الزاهد، الشيخ حسين بن مفلح الصيمري، المتوفّى سنة 933 هـ، من المحقّق الكركي، رضوان الله تعالى عليهما. وهي تحتوي على سبع مسائل كما في نسخة مكتبة گوهر شاد، وخمس مسائل كما في نسخة مكتبة ملك، وقد سمّاها البعض: الأسئلة الصيمريّة، أو الفوائد الوافية.

اعتمدتُ في تحقيقها على نسختين خطيّتين، هما:

(1) النسخة الخطيّة المحفوظة في مكتبة جامع گوهر شاد في مدينة مشهد المقدّسة ضمن المجموعة المرقّمة 1109، والمذكورة في فهرس مخطوطات المكتبة 3: 1534، وهي بخطّ النستعليق، تأريخ كتابتها في القرن الحادي عشر. وتقع هذه النسخة في خمس أوراق بحجم 7 × 10سم، وكلّ ورقة تحتوي على سبعة عشر سطراً، وقد رمزنا لها بالحرف " هـ ".

(2) النسخة الخطيّة المحفوظة في مكتبة ملك في مدينة همدان ضمن المجموعة المرقّمة 1954، والمذكورة في فهرس مخطوطات المكتبة 5: 399، تأريخ كتابتها القرن الحادي عشر. وتقع هذه النسخة في خمس أوراق بحجم 28 × 18سم، وكلّ ورقة تحتوي على عشرين سطراً، وقد رمزنا لها بالحرف " م ".

وقد عثرت مؤخّراً على نسخة خطيّية اُخرى للمسألة السابعة من هذه

الصفحة 9
الرسالة ـ وهي الجواب عن مانع الخمس ـ بشكل مستقل، محفوظة في مكتبة جامعة طهران ضمن المجموعة المرقمة 7550، والمذكورة في فهرس مخطوطات المكتبة 16: 624، فقابلتها معها، وقد رمزنا لها بالحرف" ط ".


والحمد لله ربّ العالمين


الصفحة 10


الصفحة الاُولى من النسخة المحفوظة في مكتبة جامع گوهر شاد "هـ"

الصفحة 11

الصفحة الأخيرة من النسخة المحفوظة في مكتبة جامع گوهر شاد "هـ"

الصفحة 12

الصفحة الاُولى من النسخة المحفوظة في مكتبة ملك "م"

الصفحة 13

الصفحة الأخيرة من النسخة المحفوظة في مكتبة ملك "م"

الصفحة 14

صورة النسخة المحفوظة في مكتبة جامعة طهران "ط"

الصفحة 15

الصفحة 16
بسم الله الرحمن الرحيم

في أوّل نسخة " هـ ":

هذه رسالة أرسلها الشيخ الفاضل، الكامل الورع، التقي النقي، المرحوم نصير الدين حسين بن مفلح طاب ثراه بمحمّد وآله، إلى جناب الشيخ العلاّمة، الفاضل الكامل، انموذج السلف وعدّة الخلف، آية الله في العالمين، وارث علوم الأنبياء والمرسلين، والأولياء والأئمة الطاهرين، خاتمة المجتهدين، زين الدين الشيخ علي بن عبد العالي، أدام فواضل بركاته بمحمّد وآله، فأجاب عنها بأحسن جواب وأنقح خطاب.

وفي أوّل نسخة " م ":

هذه المسائل أرسلها الشيخ الفاضل الشيخ حسين بن مفلح إلى شيخنا خادم المجتهدين الشيخ زين الدين علي بن عبد العالي قدّس الله روحه.


الصفحة 17

مسألة [1]:

هل تجب الفوريّة في بذل الأجنبي لو قال: طلّق زوّجتك وعلىّ ألف، كما تجب الفوريّة في الخلع في بذل الزوجة، أم لا؟

فلو أوقع الطلاق بعد بذل الأجنبي بشهر فصاعداً، فهل يستحق البذل، أم لا؟

فعلى اشتراط الفوريّة لا يستحق، وعلى عدم الاشتراط يستحق؟

الجواب:

تحرير البحث فيها أن يقال: لله إمّا أن يكون بذله على أنّه فدية للخلع، أو على وجه الجعالة، كما لو بذل له مالاً على أن يعتق عبده.

فإن كان الأوّل، بني على جواز كون عوض الخلع من أجنبي، فإن جوّزناه اعتبرت شرائط الخلع جميعها ومنها الفوريّة، إلاّ أنّ الأصح عدم جوازه.

وإن كان الثاني، فله حكم الجعالة الواقعة على سائر الأعمال القولية وغيرها، فلا تشترط الفوريّة، ولا يكون الطلاق ثابتاً، إذ لا يُعد خُلعاً حينئذ. وجواز الجعل على الطلاق أمر ظاهر; لأنّه يجوز على كلّ عمل مقصود محلّل، ومنه إيقاع صيغة عقد ونحوه، وإذا وقع الجعل على الطلاق فالمراد إزالة قيد الزوجيّة، ومقتضاه عدم الاستحقاق حتى تحصل البينونة، والله أعلم(1).

____________

1- والله أعلم: لم ترد في " م ".


الصفحة 18

مسألة [2]:

ما يقول مولانا أدام الله تعالى أيامه وبلّغه في الدارين آماله، في مَن ركب البحر في مركب معلوم إلى البصرة مثلاً، ثم يعرض غرق في البحر، ويُعلم بالشياع أو القرائن بأن تُلقى إلى بعض السواحل بعض ألواح المركب وآلاته، أو بعض الغرقى، ويسلم البعض ويفقد البعض، والذي يقتضيه الظاهر حصول الهلاك، والذي يقتضيه الأصل الحياة، فهل يرجّح الظاهر مع قوّة أمارته؟ أو الأصل مع ضعف أمارته؟ فما يقول به مولانا من أحد القولين وما يفتي به؟ أصدع(1) بما تقوّيه مستدلاًّ معلّلاً بما يزيل الشكّ ويذهب الريب، أصلح الله بكَ العباد وأذهب بك الفساد بمحمّد وآله.

الجواب:

في هذه المسألة ـ والله الموفق ـ أنّ ما أشار إليه الشيخ الأجل أبقاه الله تعالى مِن أنّ الظاهر دليل، وحقّه إذا عضدته المرجّحات والشواهد، وضعف الأصل حداً أن يرجّح، وما نقله عن المحقّقين من علماء الاُصول في ذلك هو كلام صحيح لا شكّ فيه، لكن لابدّ من تمهيد مقدّمة هي:

أنّ العمل بالظاهر في الحقيقة رجوع إلى قرائن الأحوال وما استفيد من العادات المتكررة، فينبغي لذلك أن يكون بينه وبين جنس الحكم ـ الذي يطلب جعله دليلاً عليه ـ ملائمة، فلو قدّر ثبوتة معه لم نعوّل عليه.

مثلاً لما لم يعتبر الشارعُ الظاهر بالنسبة إلى النجاسات في غالب الأحوال، حكم بطهارة ثياب مدمني الخمر، وطهارة(2) سؤر الحائض

____________

1- أصدع: لم ترد في " هـ ".

2- وطهارة: لم ترد في " هـ ".


الصفحة 19
المتهمة، وطهارة أواني المشركين وما بأيديهم، وطين الطريق واستحباب إزالته بعد ثلاثة أيام من انقطاع المطر، والحكم بنجاسة البئر بالجيفة حين الوجدان لا قبله، وطهارة ما تناله أيدي الناس على اختلاف فرقهم وتباين آرائهم في الطهارات والنجاسات، وطهارة ما لا يكاد ينفك من النجاسات كحافّات البئر، والرشا(1)، وحافّات العين، وغير ذلك من الاُمور التي تقتضي الظاهر، بل يكاد يحصل اليقين عادة بعدم انفكاكها من النجاسة.

وإنّما اعتبره في بعض المواضع على سبيل الندرة، كغسالة الحمّام على القول بنجاستها، على ما فيه من الكلام، لم يلتفت إليه في المواضع الخالية، وإنّما نتمسّك بالأصل(2)، حتى إنّا لو وجدنا حيواناً غير مأكول اللحم قد بال في ماء كثير، ووجدناه متغيّراً ولم نقطع باسناد التغيّر إلى هذه النجاسة، لا نحكم بالنجاسة، ولا نلتفت إلى الظاهر، بل نستصحب أصل الطهارة.

وكذا لو وجدنا كلباً خارجاً من مكان فيه إناء ماء وهو يضطرب ورشراش الماء حوله، لا نحكم بالنجاسة، ولانلتفت إلى الظاهر ولا ننجّسه.

إن يقول قائل: إنّ الظاهر أرجح، فلمَ تركتم العمل بالأرجح؟

لأنّا نجيب: إنّ عدم الملائمة أخلّ بالأرجحيّة، ولا شكّ أنّه يشترط في التمسّك بالظاهر خلوّ الموضع الذي جعله متمسّكاً فيه عن نصّ قاطع الدلالة على الحكم أو ظاهر فيها، فإن وجد لم يلتفت إلى الظاهر أصلاً.

إذا تقرّر هذا، فينبغي أن يعلم أنّ الأمر في الفروج عند الشارع مبنيّ

____________

1- الرشاء: الحبل، والجمع أرشية: الصحاح 6: 2357 " رشا ".

2- بالأصل: لم ترد في " هـ ".


الصفحة 20
على الاحتياط التام، فليس حيثُ وجد الظاهر وجب ترجيحه والتمسّك به، لاسيما وإطلاق أقوال أصحابنا المتقدّمين والمتأخّرين في زوجة المفقود إذا انقطع خبره، فإنّها إذا رفعت أمرها إلى الحاكم أجّلها أربع سنين للبحث عنه، ظاهره عدم الفرق بين مَن شهدت القرائن بموت أو غيره، ويكون إجماعاً.

بل الرواية الواردة في ذلك ـ وهي رواية بريد بن معاوية العجلي في الصحيح عن الصادق (عليه السلام)، وقد سأله عن المفقود كيف تصنع امرأته؟ قال: " ما سكتت عنه وصبرت يخلّى عنها، فإن هي رفعت أمرها إلى الحاكم أجّلها أربع سنين "(1) الحديث ـ، دالة بعمومها على عدم الفرق في الحكم المذكور بين وجود الظاهر الدالّ على موته وعدمه; لأنّه ترك الاستفصال في حكاية الحال على الاحتمال، فإنّ ما حكاه السائل ـ وهو فقدان الزوج وطلب الحكم فيه ـ يحتمل هذا الفرد، فإذا أجاب ولم يستفصل كان ذلك دليل العموم.

فإن قيل: فإنّ في الرواية: " اُنفق عليها حتى تعلم حياته من موته "، فقد علم الموت بالقرائن.

قلنا: ما ذكر في السؤال إنّما يُفيد الظنّ القوي.

فإن قيل: الظنّ مناط الشرعيّات.

قلنا: ليس هو كلّ ظنّ، بل هو ظنّ مخصوص، ولم يثبت أنّ هذا الظنّ من القسم المعتبر، خصوصاً وقد عنى في الحديث بالعلم، والمتبادر به العلم عن موجب قطعي.

____________

1- الكافي 6: 147 حديث 2 باب المفقود، الفقيه 3: 354 حديث 1696، التهذيب 7: 479 حديث 1922.


الصفحة 21
فإن قيل: يثبت بشهادتين ولا يفيد قولهما القطع بل الظنّ الغالب.

قلنا: شهادتهما في نظر الشرع من قبيل القطعي.

وكيف كان، فالذي يختلج في الخاطر(1) عدم ثبوت الموت بمثل هذا القدر من القرائن، والله أعلم بالصواب.

مسألة [3]

ما يقول مولانا أدام الله أيامه وبلّغه في الدارين آماله، في عقد الشبهة المجرّد عن الوطء، هل حكمه حكم وطء الشبهة فى نشر حرمة المصاهرة على القول به، أم لا ينشر الحرمة على القولين؟ فعندنا فيه اضطراب من أنّ العقد المجرّد يسمّى نكاحاً، كما تضمنّه الكتاب العزيز(2).

الجواب:

إن كان المراد بعقد الشبهة هو العقد الفاسد الذي وقع في ظنّ الصحة، فالذي يقتضيه النظر عدم نشره الحرمة; لأنّ النكاح وإن قلنا إنّه حقيقة في العقد، إلاّ أنّ إطلاق العقد أو النكاح إنّما يحمل على الصحيح دون الفاسد; لأنّ الفاسد لمّا لم يترتّب عليه الأثر المطلوب كان مهجوراً عند أهل الشرع، فلا تشمله إطلاقاتهم، ولا تحمل ألفاظهم عليه، إلاّ أن يدل على ذلك دليل يعلم ذلك بالتبليغ، والله أعلم، وكتَبَ علي بن عبد العالي.

مسألة [4]:

ما يقول دام ظلّه وفضله في مسألة التقصير، هل لو كانت ثمانية

____________

1- في الخاطر: لم ترد في " هـ ".

2- النساء: 22.


الصفحة 22
فراسخ فصاعداً حال استقامة طريقها وعند دورانها ينقص عن الثمانية، فتكون الاستقامة شرطاً، أم كالمساجد العشرة التي تزار في البحرين في المواقيت، وهل يجوز الجمع بين القصر والتمام أم لا؟

الجواب:

الحمد لله حقّ حمده، والصلاة على رسوله محمّد وآله، الذي يقتضيه صحيح النظر أنّ المسافة لا تشترط استقامة طريقها، بل يكفي في وجوب القصر كون الطريق على ما هو به بحيث يبلغ ثمانية فراسخ، سواء كان دائراً أو مستقيماً، ودلائل هذا الحكم كثيرة جداً:

منها: أنّ سالك هذا الطريق مريداً أقصاه قاصداً إلى مسافة من الجهة التي هو قاصدها، وكل مَن كان كذلك فهو قاصد إلى مسافة في الجملة، ينتج: أنّ هذا قاصد إلى مسافة في الجملة، فيضم إليها مقّدمة كبرى هي: وكلّ مَن كان كذلك فهو قاصد إلى مسافة في الجملة وجب عليه التقصير. وحقيّة المقدّمتين الاُوليين ظاهرة، وهي مستلزمة بحقيّة صغرى هذا القياس، وأمّا حقيّة الكبرى فدليلها عموم النصّ.

ومنها: ظاهر قوله تعالى:{ فإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصرّوا }(1) علّق القصر بالضرب في الأرض، وقد ثبت تقييدها بكون المقصود مسافة بالنصّ والإجماع، ولم يقم دليل على تقييد الطريق بالاستقامة فيجب نفيه.

أمّا أوّلاً ; فللبراءة الأصليّة.

وأمّا ثانياً ; فلأنّ التقييد بالإطلاق على خلاف الأصل، فيقتصر فيه

____________

1- النساء: 101.


الصفحة 23
على موضع الدليل ومحلّ الوفاق، إذ لا يجوز تقييد المطلق وتخصيص العام إلاّ بدليل.

وأمّا ثالثاً ; فلأنّ التقييد يقتضي كون اللفظ في الآية جارياً على خلاف الظاهر، فيقتصر فيه على محلّ الضرورة ; لوجوب اجراء اللفظ على ظاهره ما أمكن، فيجب القصر في جميع صور الضرب في الأرض، إلاّ إذا قصر الطريق عن مسافة فيندرج فيه المتنازع.

ومنهاـ وهو أمر معنوي ـ: وذلك أنّ مناط القصر السفر الذي هو مظنّة المشقّة المخصوصة، ولعدم انضباطها أناط الشارع الحكم بقدر ثمانية فراسخ، والمشقّة غالباً لا تختلف في القدر المذكور باعتبار استقامته ودورانه، فلا معنى للفرق بين الأمرين في الحكم.

وغير ذلك من الدلائل الكثيرة.

والتوقّف في هذه المسائل مع وضوح دليلها لا وجه له، وهي قريبة من مسألة بلد له طريقان، أحدهما مسافة خاصّة في ذلك غالباً إنّما يكون لاعوجاج في الطريق الطويل. والحاصل أنّ المفتى به هو وجوب القصر مع استجماع باقي الشرائط، والجامع بين القصر والاتمام في ذلك برأيه مأثوم.

مسألة [5]:

في المديون هل يجب عليه بيع ماله لوفاء الدَّين عند المطالبة ـ لا سواء كان رهناً أو لاـ بأقل من ثمن المثل ; لقلّة الراغب في ذلك الوقت، أم لا يجب ; لحصول الضرر عليه ببيع ماله بالثمن البخس؟

وهل يجب على المَدين الصبر حتى يحصل مَن يشتري بثمن المثل وإن تضرّر؟


الصفحة 24
وإذا تقابل الضرران هل ترجّح مصلحة المديون، أو صاحب الدَّين؟

وهل يجب على صاحب الدَّين أن يشتري بقدر دينه من رهنه أو من غيره، أو لا يجب؟

الجواب:

الظاهر في مسألة المَديون وجوب البيع ; لأنّ حقّ الآدمي مبني على الضيق المحض، والضرر لا يزال بالضرر، وإطلاق الفقهاء منّا ومن غيرنا في باب المفلّس وجوب المبادرة إلى بيع مال المفلّس واستحبابها يومىء إلى ذلك.

ولا ينافيه التصريح بوجوب البيع بثمن المثل ; لأنّ المراد به القيمة الغالبة في ذلك الزمان والمكان، إذ لا يعقل استدامة الحجر على المفلّس، إلاّ أن يطلب أعيان أمواله بالقيمة في أكثر الأزمنة إذا لم يبلغها في زمان الحجر، إمّا لعروض الحجر في بادية، أو في رأس جبل، أو في قرية بعيدة عن المدين، أو سفر في بر أو بحر.

والحاصل أنّ تنقيح البحث هنا يرجع إلى تحقيق ثمن المثل المسؤول عنه، فإن كان المراد به القيمة التي يطلب بها الشيء عادةً في غالب الأزمنة والأمكنة، وهو الذي يرشد إليه قوله في السؤال: لقلّة الراغب في ذلك الوقت.

فالجواب أنّه لا يتعلّق باعتبار هذه القيمة ; لأنّ الخطاب يتوجّه إلى المكلّف باعتبار الحالة التي هو فيها، ولو أن شخصاً أتلف على آخر(1). عبداً قيمته في أكثر البلاد وبين أكثر الناس ألف درهم مثلاً، ولكنّة في زمان الإتلاف ومكانه لا يساوي إلاّ مائة درهم، إمّا لقلّة الراغب لعروض القحط في البلاد أو خوف أو موت، وإمّا لكثرة العبيد، ونحو ذلك وإن كان العارض سريع الزوال، فإنّا إنّما نوجب عليه قيمة ذلك الزمان والمكان،

____________

1- في " م ": أحد.


الصفحة 25
ونعدّها قيمة مثله حينئذ.

ولو انعكس الفرض فأتلف متلف بعيراً على آخر، مع شدّة الحاجة إلى البعير وقلّة الجمال، وعلوّ الثمن على وجه يزيد على قيمته الغالبة في غالب الأزمنة والأمكنة أضعافاًمضاعفة، لأوجبنا قيمة ذلك الوقت باعتبار ذلك الحال في ذلك الزمان وإن كنا نعلم سرعة زوال ذلك العارض. فلا جرم ظهر أنّه لا يراد بثمن المثل هذا، هو المعنى في باب من أبواب الفقه من البيع وأحكام الديون والغصب والنكاح والخلع والمواريث والقسمة وباقي الأبواب.

وإن كان المراد هو القيمة الغالبة في ذلك الزمان والمكان، فلا ريب أنّه لا يجب على المديون البيع بدون هذه القيمة، بل يجب على المدين الصبر إلى اشتهار المناداة وانتهاء المرغبات، حتى لو كانت ثمّة قرية قريبة أو حلّة كذلك لم يجب على المديون البيع من دون إبلاغهما المناداة، فإذا أنهى الحال باعتبار ذلك الزمان والمكان وجب البيع لا محالة. هذا هو الذي يقتضيه النظر ويرشد إليه الدليل، والله الهادي إلى سبيل الرشاد.

وأمّا صاحب الدَّين فلا يجب عليه أخذ ما ليس من جنس دينه، سواء كان من الرهن أم من غيره، بل يجب تصييره من جنس الحقّ ودفعه إليه، والله أعلم. وكَتَبَ علي بن عبد العالي، وصلّى الله على خير خلقه محمّد وآله الطيبين الطاهرين(1).

مسألة [6]:

ما يقول علماء الإسلام مدّ الله تعالى ظلالهم على الأنام في قرية كانت

____________

1- إلى هنا انتهت نسخة " م "، وورد في آخرها: انتهى (كذا) الفوائد الوافية، والحمد لله أولاً وآخراً.


الصفحة 26
وقفاً على مدرسة خراب، فمصرفها على هذا التقدير أي شيء يكون؟ هل يجوز صرفها في كلّ مصرف الخير، أو يصرف في ما يتعلّق بمدرسة اُخرى.

الجواب:

حاصل ما هناك أنّ الوقف على شيء معيّن إذا خرب ذلك الشيء يحتمل فيه أمران:

أحدهما: بقاء أصل الوقف مطلقاً ; نظراً إلى أنّ ارتفاع المركّب يكفي فيه ارتفاع بعض الأجزاء، والمعلوم ارتفاعه هو الجزء الأخص فيبقى الأعمّ. ولا يراد أنّ الأعم يرتفع بارتفاع الأخصّ، لتقوّمه ; لأنّ رفع الأخص يقتضي ثبوت بعض بعضه، فيقوم به الجزء الأعمّ، وحينئذ فيبقى أصل الوقف مجرّد عن الاختصاص.

ويؤيّده أنّ الصيغة قد أخرجها المالك عنه، فلا تعود إليه إلاّ بدليل شرعي تمسّكاً بالاستصحاب، وبعد ارتفاع حكم التعبّد بجهة خاصة الأصل عدم الاختصاص بجهة اُخرى دون جهة.

والثاني: أن يعود إلى ملك الواقف أو وارثه، إلتفاتاً إلى أنّ الواقف إنّما كان على جهة مخصوصة، وقد تعطّلت، فيتعطل الوقف المخصوص لتعطّل مصرفه، وغير الوقف المخصوص لم يصدر من الواقف، فهو منفي بالأصل. ويضعف بما ذكرناه في الاستصحاب.

وما أشبه هذه المسألة بقاعدة إذا ارتفع الوجوب هل يبقى الجواز أم لا؟ هذا الذي يقتضيه النظر، وأمّا صرف الوقف في مدرسة اُخرى فلا وجه له، وكَتَبَ علي بن عبد العالي.


الصفحة 27

مسألة [7]:

ما قول شيخنا ومقتدانا، شيخ الإسلام والمسلمين مدّ الله تعالى ظلال إفادته على كافّة المؤمنين، في مَن يكون عنده شيء(1) من حصّة آل محمّد ممّا يخصّ الإمام (عليه السلام)، وممّا يخصّ الهاشميين، ويمنعه من مستحقّيه ويحرمهم منه، مع وجود حاكم الشرع والتمكّن من إخراج حصّة الإمام (عليه السلام) على فقراء السادة على يده، ومع(2) فقرهم وشدّة احتياجهم وفاقتهم، هل يكون بذلك عاصياً مأثوماً فاسقاً مؤاخذاً عند الله؟

وما الذي يستحقّه عند أهل الشرع من المكافأة على ذلك والردع من هذا المنع(3) الشنيع الموجب لحرمان آل محمّد حقّهم الّذي فرضه الله عزّ وجلّ لهم في كتابه العزيز، فليتفضّل سيّدنا أدام الله ظلاله على مفارق الأنام بالجواب على التفصيل والتبيين مثاباً.

الجواب:

الثقة بالله الكريم وحده، نعم يكون هذا الشخص عاصياً(4) مأثوماً فاسقاً مؤخذاً عند الله تعالى، ويجب إهانته وزجره وردعه وتأديبه وتعزيره. ولا شكّ أنّ في إيمانه نقصاً، وهو من المردودين عند أهل البيت (عليهم السلام)، ومن الأخسرين أعمالاً، الّذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهّم يُحسنون صنعا. وحاله أشبه شيء بحال عمربن الخطاب، فإنّه منع آل

____________

1- في " هـ ": شيء عنده.

2- في " ط ": مع.

3- في " ط ": الفعل.

4- عاصياً: لم ترد في " ط ".


الصفحة 28
محمّد (عليهم السلام) خُمسهم، فتجب المسارعة إلى التوبة(1)، وإلاّ فلا [عذر] (2) عن هذا الذنب العظيم، والله أعلم. وكَتَبَ علي بن عبد العالي. صورة خطه.

____________

1- في " هـ ": للتوبة.

2- لم ترد في " هـ "، وفي " ط " ورد بدلها حرف ع.