الصفحة 26

المسألة الخامسة

لو أجاز المرتهن الرهانة الثانية، ففي كونه فسخاً لرهنه، أو فيما قابل الدين، أو العدم مطلقاً نظر(1).

اختار الشيخ العلاّمة الأخير، مستدلاً بأنّه لا تنافي بين الرهنين حتى يكون فسخاً للأوّل، فكلّ منهما رهن صدر من أهله في محلّه، فكلاهما صحيحان.

ولمّا كان الأوّل مقدمّاً، فوجه صحة الثاني أنّه إذا فضل من استيفاء دين الأوّل شيء يصرف في وجه الثاني. هكذا نقل في الرسالة المرسلة، والقول بعدم الفسخ يتصور على وجوه.

الأوّل: أن يكون استيفاء دين الأوّل مقدّماً، فإن فضل يكون للدين الثاني.

الثاني: أن يكون الثاني مقدّماً، وما فضل يكون للأوّل، عكس الأوّل.

الثالث: أن يكون المرتهنان في درجة واحدة، كما إذا أخذا رهناً في أوّل الحال من غير تقدّم أحد المرتهنين في أخذ الرهن على الآخر. لكن مَن ذهب إلى عدم الفسخ لعلّه اختار الأوّل، نظراً إلى أنّ الرهن الأوّل تعلّق بجميع أجزاء المرهون على السوية، والرهن الثاني لا يبطل التعلّق الأوّل، فما لم يخرج المرهون عن استيفاء دين الرهن الأوّل لا يتعلّق به استيفاء دين الرهن الثاني فيستلزم الترتيب.

____________

1- قواعد الأحكام 1: 160.


الصفحة 27
وحينئذ لا فائدة في الرهن إذا تساوى المرهون مع الدين الأوّل أو نقص عنه، إلاّ على تقدير أن يؤدّى الدين الأوّل أو يسقط، لكن يبقى هذا القول محتملاً، وهما أقرب من الفسخ على الوجه الذي قالوا به.

ثم انّ القول بالفسخ بما قابل الدين متصور على أنحاء:

الأوّل: أن ينظر الدينان أو يلاحظ نسبتهما ونسبة أجزاء المرهون، فإن كان الدين الأوّل ثلثين والدين الثاني ثلثاً، يكون ثلث المرهون رهناً للثاني والباقي للأوّل.

الثاني: أن يكون الرهن للثاني والفاضل للأوّل على الترتيب.

الثالث: أن يكون المرتهن الثاني يستوفي تمام دينه والباقي يكون للمرتهن الأوّل من غير ترتيب، كما إذا كان المرهون بألف دينار، ويكون الدين الأوّل خمسمائة والثاني ستمائة، يأخذ الثاني ستمائة ويدخل النقص في الأوّل.

والذي قاله السيّد الأيد من أنّ المرهون رهن المجموع الدينين والنقص يدخل عليهما ; لأنّ كلّ واحد من الرهنين صدر من أهله في محلّه، وسبب تام في انعقاد الرهن، لأنّ حجر الراهن المالك في ملكه إنّما هو من جهة المرتهن، فإذا أذن المرتهن فقد تحقّق سبب شرعي تام في نفاذ تصرّف المالك في ملكه وانعقاد رهنه، ولمّا لم يدل على بطلان الأوّل باحدى الدلالات الثلاث فكلّ الرهن على مجموعهما فيلزم التقسيط، فتكون الإجازة فسخاً فيما قابل الدين الثاني، فيلزم بطلان رهن كلّ المرهون في مقابلة الدين الثاني.

وكذا يلزم بطلان الرهن الثاني في مقابلة الدين الأوّل من حيث لا يدري.


الصفحة 28
ونظير هذا ما إذا تنازعا فيما في يد الثالث، ولكلّ بيّنة مساوية لبيّنة الآخر من جميع الوجوه، فإنّه يقسّط عليها، مع أنّ التقسيط إبطال لبعض دعوى كلّ منهما.

هذا كلامه، فهو بالحقيقة قول بعدم الفسخ ; لأنّ كلّ واحد من الرهنين تعلّق بكلّ المرهون وهو عدم الفسخ، إلاّ أن هذا قول آخر في معنى عدم الفسخ.

ألا ترى أنّه لا يقال: إنّ الأوّل فسخ للثاني، ولو صح يلزم أن يكون الأوّل فسخاً للثاني. وأيضاً الذي يفهم من الفسخ في مقابلة الدين أن يكون اذن المرتهن استثناء لجزء من المرهون لدين المرتهن الثاني.

وعلى القول المذكور كلّ واحد من الرهنين يكون فسخاً للآخر، مع أنّ جعل الرهن الأوّل فسخاً للثاني مستبعد، ولو صح يكون هذا قولاً رابعاً.

ثم انّ هذا الكلام إنّما يصح لو اجتمع الرهنان، كما اجتمع الدعويان في صورة التنظير المذكور، مع أنّ الرهن الأوّل يقتضي التقديم والاختصاص، فيحنئذ يأبى عن جمعه مع الثاني إلاّ بالاستثناء كما قلنا، فلهذا يسمّى فسخاً فيما يقابل الدين، وإلاّ فالتقسيط لا يسمّى فسخاً.

قال صاحب (الإيضاح) في بيان المذاهب الثلاثة:

أمّا وجه أنّ الرهن الثاني فسخ للأوّل مطلقاً: فهو أنّ الرهن يقتضي اختصاص المرتهن وتقدّمه. وهذا لا يمكن جمعه مع الرهن الثاني ; لأنّ تقدّم كل واحد من المرتهنين واختصاصه محال، فبطل الرهن الأوّل.

وأمّا وجه الفسخ بما قابل الدين: فهو أنّ المقصود استيفاء الدين، وهو ممكن هنا، فلا منافاة ولا مزاحمة.

وأمّا وجه الثالث، وهو عدم الفسخ لا مطلقاً ولا فيما قابل الدين ; لأنّ

الصفحة 29
الرهن الثاني لا يدلّ على بطلان الأوّل لا مطابقةً ولا تضمّناً ولا التزاماً، إذ لا مانع من تعلّق دينين بعين واحدة وتقدّم أحدهما على الآخر، وتكون الفائدة في أنّه لو قضى المرتهن الثاني حقّه بقي حقّ المرتهن الأوّل، وكذا لو أسقط [الثاني] (1) حقّه(2)، هذه عبارة (الايضاح).

ولو صّح أن الرهن يقتضي التقدّم والاختصاص، لا شكّ أنّه لا يجتمع الرهن الأوّل والثاني، فمذهب مَن قال بالنسخ فيما قابل الدين حقّ بأن يكون الرهن الثاني عقداً بقيد رهانة جزء من المرهون لا كلّه، فيبطل اختصاص المرتهن الأوّل وتقدّمه في الجزء المذكور، فمذهب القائل بالفسخ مطلقاً ومذهب القائل بالفسخ فيما قابل الدين يمكن بناؤهما على أنّ الرهن يقتضي الاختصاص والتقدّم، لكن الأقرب الإبطال بقدر الحاجة، وهو الفسخ فيما قابل الدين.

وأمّا المذهب الثالث لا يمكن إلاّ بمنع أنّ الرهن يقتضي الاختصاص والتقدّم، نعم يقتضيهما بمعنى أنّ المرتهن يتقدّم على باقي الديّان ; لأنّ المرتهن يتقدّم على المرتهن.

____________

1- لم ترد في النسخة الخطيّة، أثبتناها من المصدر.

2- ايضاح الفوائد 2: 20.


الصفحة 30

المسألة السادسة

لو باع الراهن فطلب المرتهن الشفعة، ففي كونه إجازة إشكال، فإن قلنا به فلا شفعة(1).

تحرير الكلام: أنّ الشفعة معلول للبيع، وطلب المعلول يستلزم الرضى بالعلّة، فيكون الشفيع راضياً بالبيع، فتلزم الإجازة، فحينئذ يلزم بطلان الشفعة.

وفيه: أنّ الشفيع رضي بالبيع لأخذ الشفعة، والبيع مطلقاً يكفي في الشفعة، ولا يحتاج إلى اللزوم على ما ذهب إليه بعض الفقهاء، فلا يلزم من الرضى اللزوم، وكيف لا، ولو صح هذا تبطل الشفعة مطلقاً، إذ كلّ شفيع يرضى بالبيع للشفعة فتبطل الشفعة، فإذا جعلنا طلب الشفعة تجويزاً للبيع، والتجويز مبطل للشفعة، لا تبقى شفعة أصلاً.

في الرسالة: ذكرَالشارح في (إيضاحه) والشهيد في (تعليقاته على الإرشاد)، أنّه يجب حمل فعل المسلم على الصحة والمشروع، فلمّا كانت مشروعيّة الطلب وصحته موقوفة على البيع الموقوف على الإجازة فيدلّ طلبه على إجازته(2).

هذه عبارة الرسالة، ثم نقل السيّد الأيد عن شيخه شيخ الفقهاء، إذ اختار أنّ الطلب يدل على الإجازة مُستدلاً بما ذكروا، وردّ عليه أنّ الطلب المذكور بعد ملاحظة أنّ المسلم طلبه مشروع، فتكون إجازته للبيع مقدّماً، فلا يمكن أن يكون مشروعاً ; لأنّ طلب الشفعة بعد الإجازة مخالف للشرع.

____________

1- قواعد الأحكام 1: 160.

2- إيضاح الفوائد 2: 22.


الصفحة 31
اعلم أنّ المُستفاد من كلام الشارح العلاّمة في (الإيضاح)، أنّه يستدل بالرضى بالمعلول على الرضى بالعلّة، وحينئذ لا يبقى للمقدّمة القائلة بأنّ فعل المسلم يحمل على المشروع مدخل، إلاّ بأن يقال: إنّ فائدته أنّ قول المسلم: أخذتُ الشفعة مثلاً، وقع بعد البيع، وأمّا الرضى بالبيع فيدّعى فهمه من أنّ الرضى بالمسبّب يستلزم الرضى بالسبب. كذا يفهم من كلام الشيخ الشهيد (قدس سره).

وفي (الإيضاح): أقول: منشأ الإشكال الواقع في كون الطلب هنا إجازة البيع، هو أنّ الشفعة مترتّبة على البيع، وطلب المعلول لا يتصوّر بدون الرضى بالعلّة، فلا يتصوّر طلب المرتهن الشفعة إلاّ بالرضى بالبيع، وأنّ طلب المرتهن ثبوت ملكه وإزالة ملك المشتري، هو طلب أمر يساوي الفسخ في إزالة ملك المشتري الذي هو المقصود من الفسخ، فكما أنّ الفسخ لا يوجب الإجازة فكذا الشفعة، فلا يثبت على طالب الشفعة ضدّه ; لأنّه إنّما صدر عنه المساوي للفسخ.

والتحقيق أنّ هذه المسألة تبنى على أن الشفعة هل تثبت بمجرّد العقد، أم بلزومه.

فإن قلنا بالأوّل لم تكن إجازة ولم تسقط الشفعة به ; لأنّ الرضى بالبيع الذي يتضمّنه طلب الشفعة لا يسقط الشفعة، وإلاّ لم تثبت شفعة أصلاً، وإنّما لم تكن إجازة ; لأنّه لا يدلّ عليها بالمطابقة والتضمّن والالتزام ; لجواز الغفلة عن كونها رهناً، فهو أعمّ، ولا دلالة للعامّ على الخاصّ.

وإن قلنا بالثاني، كان إجازة فتبطل الشفعة ; لأنّ طلبها يدلّ على

الصفحة 32
إجازته فتلزم الشفعة، وإلاّ لم يصح الطلب(1)، هذا كلامه.

اعلم أنّ خلاصة الكلام قبل قوله: والتحقيق، أنّ الإشكال مبنيّ على أمارتين.

الاُوّلى: أنّ طلب الشفعة يقتضي الرضى بالعلّة التي هي البيع، فيلزم الإجازة فتبطل الشفعة.

الثانية: أنّ قول الشفيع في قوة فسختُ وأخذتُ الشفعة، فكما أنّ هذا القول لا يدلّ على الإجازة فكذا ما يساويه.

وأمّا ما قاله بعد قوله: والتحقيق، فكلام برأسه، ويتوجّه عليه أنّ الشفعة إذا جُعلت مرتّبة على البيع اللازم لا يلزم دلالة قول الشفيع على الرضى بالبيع لا بالمطابقة ولا غيرها، كما قال في أحد شقي الكلام في التحقيق، وهو ظاهر.

إن قلت: كلام (الإيضاح) هنا مبني على أنّ فعل المسلم محمول على الصحة، فإذا علم طالب الشفعة أنّ الشفعة مترتّبة على البيع اللازم فطلب الشفعة فلزم البيع.

قلت: هب أنّه كذلك، لكن الشفيع يمكن أن يطلب الشفعة زاعماً أنّ الشفعة تترتّب على البيع الأعمّ، وإن كان الحقّ أنّ الشفعة مترتّبة على البيع اللازم.

ثم أمكن أن يقال: لو لم يلاحظ المقدّمة القائلة: إنّ فعل المسلم محمول على المشروع، أنّ الطلب هنا ليس بمشروع، فإنّ الطلب فرع الرضى، فإذا رضي ثم طلب يكون طلبه غير مشروع.

____________

1- انطر إيضاح الفوائد 2: 22.


الصفحة 33
والحقّ أنّ طلب الشفيع لا يستلزم تعقّل الرضى، والمقدّمة القائلة بأنّ طلب المعلول يستلزم الرضى بالعلّة، ممنوعة ولا تسقط الشفعة.

إن قلت: إذا لاحظنا أنّ طالب الشفعة عمل بالمشروع في طلب الشفعة، تلزم الإجازة وإسقاط الشفعة.

قلتُ: هذه المقدّمة على ما قال، الشهيد (رحمه الله) ; لأن يعلم أنّ طالب الشفعة طلب الشفعة بعد البيع لا قبله ; لأنّ طلب الشفعة قبل البيع غير مشروع، وحينئذ لا فائدة كثيرة لتلك المقدّمة ; لأنّ البحث مفروض بعد البيع. وكيف لا لو كان المقدّمة المذكورة منظوراً في الدليل تلغو بعض المقدّمات، فإنّ قولهم: الرضى بالمعلول رضى بالعلّة إلى آخر ما قالوا، لا يحتاج إلى ضمّ تلك المقدّمة، وحينئذ لا يلزم أن يكون الطلب غير مشروع، فإنّ الإجازة تلزم بنفس طلب الشفعة لا من المقدّمة المذكورة.

إن قلت: نحن نحرّر هكذا: إنّ فعل المسلم محمول على أنّه عالم بأنّ الشفعة لا تتصور إلاّ بعد لزوم البيع، فيلتزم بالبيع ثم يطلب الشفعة، وحينئذ تبطل الشفعة ويكون الطلب أيضاً غير مشروع.

قلت: هذا الكلام يبطل الشفعة مطلقاً، مع أنّه غير معقول في نفسه كما لا يخفى. نعم يتوجّه ما أوردنا أنّ طلب الشفعة باللفظ الدال إذا كان بعد الأكثر لم يكن الطلب غير مشروع، سواء لوحظت المقدّمة القائلة بأنّ فعل المسلم محمول على المشروع أو لا.


الصفحة 34

المسألة السابعة

لو جعلا ـ أي الراهن والمرتهن ـ الرهن على يد عدلين، لم يجز لأحدهما التفرّد به ولا ببعضه، ولو سلّمه أحدهما إلى الآخر ضمن النصف، ويحتمل أن يضمن كلّ واحد منهما الجميع(1).

اختار الشيخ الفقيه الثاني، وأورد أنّ أصل المسألة كأنّها مسألة على التناقض ; لأنّه لا يخلو: إمّا أن يكون فرض المسألة فيما إذا كان هناك قرينة حاليّة أو مقاليّة على الايداع بكلّ منهما، أو لا، بل المودع الكلّ المجموعي بأن يكون كلّ منهما مودعاً للنصف.

فإن كان الثاني فكيف يضمن كلّ واحد منهما الجميع، وأنّه ما تعدّى إلاّ في النصف الآخر المتعلّق بصاحبه.

وإن كان الأوّل فمثبت اليد على الكلّ ما قصّر ; لأنّه حفظ الكل، وذلك واجب عليه، غاية ما في الباب أنّ صاحبه ما وافقه في الشركة، ولا يمكن مؤاخذة شخص بفعل الغير وتقصيره، فإنّ من الجائز أن يكون الحافظ مع عدم تقصيره في الحفظ جلب الموافقة من صاحبه ولم يوافقه الصاحب، فأي ذنب له. فالأعدل هو الأوّل، هذا كلام الرسالة.

وفيه: أنّ المراد أنّ الرهن جعله في يد عدلين، بمعنى أن يكون حفظ كلّ واحد مشروطاً بنظر الآخر، فإذا ترك أحدهما الحفظ فقد ترك كلّ منهما الحفظ بشرط نظر الآخر. نعم، الأوّل قصّر حيث ترك الحفظ بشرط النظر وتصرّف في مال الغير بغير رضاه، فهما يضمنان الكلّ، وذنب الحافظ أكثر.

____________

1- اُنظر قواعد الأحكام 1: 162.


الصفحة 35

المسألة الثامنة

القول قول المرتهن في أنّ رجوعه عن اذنه للراهن في البيع قبله ترجيحاً للوثيقة ; ولأنّ الأصل عدم بيع الراهن في الوقت الذي يدّعيه، وعدم رجوع المرتهن في الوقت الذي يدّعيه، فيتعارضان ويبقى الأصل استمرار الرهن. ويحتمل تقديم قول الراهن ; عملاً بصحة العقد(1).

اختار الشيخ العلاّمة الأوّل.

وفي الرسالة أنّ الظاهر هو الثاني ; لأنّه بعد ما حصل الاذن فالأصل استمراره بحكم الاستصحاب، وليس لعدم بيع الراهن في الوقت الذي عيّنه أصالة بعد تحقّق الاذن.

والحاصل: أنّ لعدم بيع الراهن في وقت شرعي أصالةً قبل تحقّق الاذن، وبعد تحقّق الاذن صار الأصل هو صحة بيعه ووقوعه في وقت شرعي، خصوصاً إذا ضمّ إليه أصالة صحة العقد، فالقوة للثاني، انتهى.

واعلم أنّ الاذن لا يدفع أصالة عدم وقوع البيع في وقت شرعي، وكيف لا والاذن لا يستلزم الوقوع، وكما أنّ الأصل صحة البيع فكذا الأصل بقاء الرهن، فاختيار الشيخ العلاّمة غير بعيد.

____________

1- انظر قواعد الأحكام 1: 167.


الصفحة 36

المسألة التاسعة

لو شككنا في وقوع الرضاع بعد الحولين، تقابل أصلا البقاء والاباحة، لكن الثاني أرجح، وفي الرسالة فيه إشكال من وجوه:

الأوّل: أنّ الإباحة ما بقي له تأثير واعتبار مع استصحاب بقاء الحولين وتحقّق الناقل، فإنّه قبل زمان الشكّ لا شكّ أنّه كان زمان الحولين، فيستمر بحكم الاستصحاب حتى يزيله ناقل، ولا شكّ أنّ بعد الشكّ ما تحقّق الناقل فثبت الرضاع، فثبت الناقل عن الإباحة الأصليّة بعد أن كانت ممّا بقي أثره، بل الأصل صار عدم الإباحة، كما تقرّر أنّ الأصل يجب به العمل إلى أن دلّ دليل على زواله، فبعد ذلك صار الأصل زواله إلى أن دلّ دليل على زوال البقاء.

الثاني: أنّ أصالة البقاء لو تمّت لتمّت في بعض الصور، كما إذا عرفت خمس عشرة رضعة في زمان معيّن، ولم يعلم اتّصال الحولين إلى هذا الزمان، فالأصل اتصاله. أمّا إذا علم انقطاع الحولين في زمان، ويشكّ في أنّ خمس عشرة رضعة هل تحقّقت قبل هذا الزمان أو بعده، فليس هناك أصل يرجع إليه.

الثالث: لا يبعد أن يُستشكل بأنّه استصحاب الحال إنّما يتصور في أمر محدود يقبل الزيادة والنقصان، وأمّا الأمر المحدود كالحولين ممّا إذا استصحبنا آخره ينقص أوّله، فلا نسلّم تحقّق الاستصحاب فيه، هذا محصل كلام الرسالة.

واعلم أنّ الإباحة المستفادة من كلام المصنّف ليس الإباحة المقابلة للاستحباب، بل الإباحة تشتمل السنّة، وحينئذ نقول: الآيات الدالة على

الصفحة 37
إباحة النكاح واستحبابه في الأجنبيّة شامل لما وقع الشكّ في رضاعها، وليس الكلام في الإباحة الأصليّة.

وأمّا تعريف الاستصحاب كما وقع في كتب الاُصول شامل للأمر المحدود بلا ريب، وعدم الاعتبار في بعض المواد لعلّه لنصّ أو أمر آخر.


الصفحة 38

المسألة العاشرة

ولو أوصى له ببنته فمات قبل القبول وخلّف أخاً فقبلَ، عُتقت ولم يرث، وإلاّ لحجب الأخ فيبطل القبول فيبطل العتق.

وفي الرسالة: يرد عليه أنّ قوله: فيبطل العتق، ممنوع، إذا المُعتبر في القبول كونه وارثاً حال القبول، أي الارث الظاهري.

وفي الرسالة أن المصنّف (رحمه الله) صرّح بذلك في أوّل الوصايا، ولا شكّ أنه لولا القبول كان الوارث هو الأخ. ولو اعتبر في القبول الوارث في نفس الأمر يتوجّه إشكال لا مدفع عنه على القول بأنّ القبول كاشف كما هو مذهب المصنّف، وذلك لأنّه يلزم اجتماع النقيضين ; لأنّ الوارث في نفس الأمر منحصر في البنت والأخ، وكلّ منهما إن كان وارثاً يلزم أن لا يكون وارثاً، وإن لم يكن وارثاً يلزم أن يكون وارثاً.

بيان ذلك: أنّ الأخ إن كان وارثاً في نفس الأمر فبقبوله انكشف تمام الوصيّة، فانكشف أنّ العتق كان صحيحاً من وقت الموت، فانكشف أنّها هي الوارث فلا يكون الأخ وارثاً، وإن لم يكن وارثاً فالوارث هو البنت، فلا اعتبار لقبول الأخ، فلا تنعتق البنت ; لأنّه موقوف على القبول الصحيح، فلا تكون البنت وارثة، فيكون الأخ وارثاً إذ الوارث منحصر فيهما.

وإذا قلنا: إنّ الوارث في نفس الأمر هو البنت والظاهري هو الأخ، وقلنا: إنّ المعتبر هو قبول الوارث الظاهري، لا يلزم الحجب المذكور ولا اجتماع النقيضين، انتهى.

واعلم أنّ المصنّف (قدس سره) اختار في (التذكرة) أنّ العين الموصى به تدخل في ملك الموصى له متزلزلاً، فإن قبل استقر عليه، وإن ردّه انتقل إلى

الصفحة 39
الوارث.

فإن قلنا: إنّ الاستقرار لا بدّ منه في انعتاق البنت، ولم يحصل من أبيها قبول موجب للاستقرار، وحصل من أخيه القبول الموجب للاستقرار المستلزم للعتق، ولا يلزم اجتماع النقيضين ولا الحجب ; لأنّ القبول من الأخ ليس كاشفاً مَحضاً، وهذا أقرب إلى الصواب من القول بالكاشف المحض، فإنّه ممّا لا وجه له ; لأنّه إذا أوصى شخص ببنته له فمات قبل القبول وقبل الأخ أحدهما وردّ الآخر، لا يخلو إمّا أن يقال ببطلان عتق المردود وقبول عتق المقبول، أو لا.

فإن قبل به يلزم الترجيح من غير مرجّح، فإنّه لا سبق لعتق المقبول إلاّ الوصيّة والقبول، والقبول لا مدخل له، فنفى عتق كليهما، وإلاّ يلزم الترجيح من غير مرجّح.

وإن قلنا بعدم عتقهما يلزم أن لا يكون القبول كاشفاً، بل نقول: الحكم بكاشفيّة القبول يقتضي الحكم بأنّ البنت اُعتقت بالوصيّة إذا علمت صحة الوصيّة.

إن قلت: الوصيّة تكون صحيحة وتكون غير صحيحة، والقبول يكشف عن ذلك.

قلت: في صورة تكون الوصيّة بالبنتين مرّة كما قلنا يلزم المحذور، وأيضاً الأصل في الوصيّة الصحة، فيحكم بمجرّد الوصيّة بالعتق، إلاّ أن يقال باختيار حريّة الاثنين بعد كشف عتق أحدهما بالكاشف، فإنّه حينئذ يحكم بكشف عتق الاُخرى أيضاً فإنّ الكشف عن إحداهما هو الكشف عن الاُخرى.

وفيه: أنّه إذا قال المعتق حال القبول: ما أرد كلتيهما ولا أقبل كلتيهما، وفسّر بردّ إحداهما وقبول الاُخرى معيّناً، فحينئذ لا يمكن أن

الصفحة 40
يجعل الردّ كاشفاً عن عدم عتقهما، ولا القبول كاشفاً عن عتقهما.

ثم اعلم أنّهم اختلفوا في أنّ ملك الموصى له متى يحصل؟ قال الشهيد قدّس سرّه في (الدروس): إذا كان موت الموصى له بعد موت الموصى، ففي دخول العين الموصى به في ملك الموصى له وجهان، مبنيان على أنّ الملك يحصل للموصى له بوفاة الموصى متزلزلاً، فإن قبله استقر عليه، وإن ردّه انتقل إلى الوارث، كما أنّ التركة تنتقل بالوفاة إلى الورثة، أو بالوفاة والقبول، أو يكون القبول كاشفاً.

فعلى الأوّل ـ وهو ظاهر فتوى الشيخ(1) وابن الجنيد(2)، وتصريح (التذكرة)(3) ـ يدخل في ملك الميّت ويلزمه أحكامه من قضاء ديونه ووصاياه، والعتق عليه لو كان ممنّ ينعتق عليه والإرث أيضاً.

والشيخ يمنع من الإرث(4)، وإلاّ اعتبر قبوله فيدور.

واُجيب بأنّ المعتبر قبول الوارث في الحال، وكذا على الثالث، وعلى الثاني لا يدخل(5).

هذا كلام (الدروس)، ويفهم منه ما قاله السيّد الأيد إلاّ قليلاً.

ثمّ إنّه قال صاحب (التنقيح): اختلف في ملك الموصى له متى يحصل، قال الشيخ في (المبسوط)(6) (الخلاف)(7): يحصل بالموت،

____________

1- النهاية: 610.

2- حكاه عنه العلاّمة في مختلف الشيعة 6: 301.

3- تذكرة الفقهاء 2: 453.

4- المبسوط 4: 34.

5- الدروس 2: 297.

6- المبسوط 4: 51.

7- الخلاف 2: 313.


الصفحة 41
وهو قول الشافعيّة فإنهمّ قالوا: يدخل في ملك الموصى له بغير اختياره كالميراث، فالقبول كاشف.

وقال ابن ادريس: إنّه يدخل في ملك الموصى له بالموت والقبول معاً(1)، وحكاه الشيخ في (المبسوط)(2)، ويظهر منه في (الخلاف) اختياره.

وقال في (المبسوط) قولاً ثالثاً ـ حكاه عن بعضهم ـ إنّه يكون مراعى إن قبل الموصى له علمنا أنّه انتقل إليه بالموت انتقالاً غير مستقر وبالقبول استقر، وإن لم يقبل علمنا أنّه انتقل بالموت إلى الوارث(3).

واختار المحقق في (الشرائع) الثاني(4)، واختار العلاّمة في (المختلف)(5) و (القواعد)(6) الأوّل، وفي (التذكرة) الثالث(7)(8).

هذه العبارة (التنقيح)، والاختلاف بين (الدروس) و (التنقيح) فيما نقلا ظاهر.

ثم نقول: يفهم من الكتابين أنّ قول العلاّمة في (التذكرة) بأنّ الملك المتزلزل يحصل بالوصيّة وبالقبول يحصل الاستقرار، فحينئذ إن قلنا: إنّ الموصى له لمّا لم يقبل ومات، وكان العين الموصى به في ملكه متزلزلاً، فإذا قبل الوارث استقر فانعتقت البنت ; لأنّها لمّا دخلت في ملك أبيها

____________

1- السرائر 3: 202.

2 و 3- المبسوط 4:52.

4- شرائع الإسلام 2: 243.

5- مختلف الشيعة 6: 301.

6- قواعد الأحكام 1: 290.

7- تذكرة الفقهاء 2: 453.

8- التنقيح الرائع لمختصر الشرائع 2: 361.


الصفحة 42
متزلزلة، فإن سلمنا عتقها متزلزلاً فإذا قبل الأخ استقر الملك المتزلزل بالقبول، فقبول الوارث في الحال ليس كاشفاً محضاً عن الملك، بل كاشف عن لزوم الملك الموجب للعتق، فحينئذ لا يلزم ما أورده السيّد الأيد من المحال.

ثم اعلم أنّ الحقّ إنّ جعل القبول كاشفاً محضاً باطل، وكذا جعله سبباً للملك.

أمّا جعله كاشفاً محضاً ; لما ذكرنا.

وأمّا جعله سبباً للملك ; فلأنّ الله تعالى جعل الإرث بعد الوصية، فلو لم تنتقل إلى الموصى له بقي له بلا مالك ; لأنّ الميّت زال ملكه بالموت وليس ملكاً للوارث، وإلاّ لتلقّى الموصى له الملك عنه، وهو باطل إجماعاً، فبقي الحقّ أنّ القبول علّة لاستقرار الملك، كيف لا، ولو جعلناه كاشفاً كما فعله بعض علمائنا والشافعيّة بالدليل المذكور يلزم أن يكون القبول لغواً، إذ الدليل المذكور يكفي في العلم بالانتقال، وهو ظاهر.

إن قلت: يمكن أن يكون المراد من قوله تعالى: {من بعد وصيّة}(1) وصيّة كاملة مقبولة، فحينئذ يكون الملك قبل القبول للورثة.

قلت: فحينئذ يكون بعد القبول منتقلاً من الورثة، مع أنّه خلاف الإجماع كما صرّح صاحب (الكنز)(2).

إن قلت: كلام السيّد الأيد في الرسالة مبني على الكاشفيّة المحضة، كما نقل عن المصنّف، فيصح كلامه إلزاماً للمصنّف.

قلت: المصنّف إذا قال: الكاشف، أراد مقابل السبب، فهو شامل لما

____________

1- النساء: 10.

2- كنز العرفان 2: 94.


الصفحة 43
يكون القبول سبباً للّزوم. سلّمنا، لكن المسائل الفقهيّة ليس مناطها الإلزام، فإنّها للعمل، ولا يصح العمل بالإلزام، فنقول: إنّ الحق فيها إمّا عدم انعتاق البنت على تقدير أن لا ينقل الملك إلى الموصى له، أو العتق كما قلنا، فتأمل.


الصفحة 44

المسألة الحادية عشرة

عمل بعض السادة العلماء الأتقياء المشار إليهم رسالة منفردة، في بيان أن الغائب عن زوجته إذ طلّق زوجته عالماً بحيضها يصح طلاقها، قال:

مسألة: الغائب إذا خرج عن زوجته في طُهر قد قربها فيه، وطلّق بعد الطهر الثاني عالماً بأنّها حائض، هل يصح طلاقها أم لا؟

صرّح الشارح العلاّمة فخر الدين في (شرح القواعد) بصحته، واستدلّ على ذلك بأنّه فيه جمعاً بين الأخبار(1).

واعترض عليه شيخ المؤمنين أدام الله فوائده بقوله: وما استدلّ به مردود ; لأنّ الأخبار بعضها دلّ على جواز التطليق على كلّ حال، وبعضها دلّ على اعتبار مدّة التربّص، وهي ما يظن معها كونها طاهراً وقت الطلاق، فيخصّ العموم بأنّ زوجة الغائب إنّما يجوز طلاقها إذا غلب على الظن بمضيّ المدّة المذكورة كونها طاهراً وقت الطلاق، فكأنّه(عليه السلام) قال: وزوجة الغائب على كلّ حال إذا إغلب على الظنّ كونها طاهراً طُهراً لم يقربها فيه، وحينئذ فلا دلالة فيها على ما يدّعيه.

فإن قيل: يمكن الجمع بين الأخبار بوجه آخر، وهو أن يقال: الأخبار الدالة على التربّص دلّت على اعتبار المدّة المذكورة من غير تقييد بكونها طاهراً وقت الطلاق وعدمه، فيقيّد بذلك عموم الأخبار العامّة، فتصير زوجة الغائب على كلّ حال إذا تربصّ بها المدّة التي تنتقل معها من طُهر إلى آخر، وحينئذ فيعمّ ذلك ما إذا علم حيضها حين الطلاق بعد الطُهر الثاني.

____________

1- ايضاح القواعد 3: 304.


الصفحة 45

قلنا: هذا مردود بوجوه:

الأوّل: أنّه إذا دار الحال في التقدير في النصوص بين أمرين أو اُمور، وجب تقدير ما كان ألصق بالمقام، واللائح أنّ اعتبار الطهارة ألصق، وذلك لأنّ زوجة الغائب لمّا اعتبر فيها الاستبراء وظنّ الانتقال من الحيض إلى الطُهر، ولم يكتفِ بظن الانتقال إلى الحيض، أفاد ذلك أنّ أحكام زوجة الحاضر لاحقة بها، لكن لخفاء حالها بسبب البعد اكتفي عن معرفة حالها بحسب الواقع بما يُفيد معرفة عادتها.

الثاني: إنّا لو سلّمنا أنّ كلاًّ من التقديرين ممكن، فلابدّ من مرجّح يعين التقدير الآخر الذي يبقى معه العموم، ليخصّ به عمومات الكتاب والسنّة الدالة على المنع من طلاق الحائض، ولا ريب أن ليس هناك مرجّح، ومع انتقائه فكيف يجوز فيه الإقدام على الحاكم بجواز طلاق مَنْ يعلم كونها حائضاً، مع قيام الدلائل الدالة على المنع وانتفاء المعارض، ولا ريب أنّ الإقدام على حلّ ما دلّ ظاهر الكتاب والسنّة على تحريمه بمثل هذا التمحّل على شفا.

الثالث: أنّه لو جمع بين الأخبار بالطريق الذي يدلّ على مدّعاه، لزمه القول بأنّ مَنْ علم الحيض بعد الطُهر الأوّل يجب بصحة طلاقه ; لتناول العموم لهذا الفرد بزعمه.

فإن قيل: هذا الفرد خرج بالإجماع.

قلنا: أي إجماع يُدّعى والمفيد(1) وجماعة يجوزوّن طلاق الغائب مطلقاً.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ القول بصحة الطلاق على مذهب الوجه قول

____________

1- المقنعة: 526.


الصفحة 46
عريّ عن الدليل، بعيد عن الاحتياط، مشتمل على ارتكاب تخصيص عمومات الكتاب والسنّة بما ليس بشيء، وإنّما هو وهم محض وخيال واه، وعبارات الأصحاب مُشعرة بخلاف ما ذكره:

قال في (القواعد): ولو خرج مسافراً في طُهر لم يقربها فيه صحّ طلاقها وإن صادف الحيض(1)، والمفهوم من المصادفة عدم العلم.

وفي (التحرير): ولو طلّق غير المدخول بها، [أو الحامل] (2)، أو التي غاب عنها قدراً يعلم انتقالها من طُهر إلى آخر، جاز طلاقها مُطلقاً وإن اتّفق في الحيض(3). والمفهوم من الاتفاق نحو المفهوم من المصادفة.

وفي (الشرائع): أمّا لو انقضى من غيبته ما يعلم انتقالها من طُهر إلى آخر ثم طلّق صح ولو اتفق في الحيض(4). انتهى.

وليس يحضرني في عبارة أحد من المعتبرين التصريح بالجواز مع العلم بالحيض. انتهى.

قال السيّد التقي الزكي: هنا مقامان:

الأوّل: ما يتعلّق بكلام الشيخ سلّمه الله تعالى.

والثاني: ما يتعلّق بكلام الشارح العلاّمة.

أمّا ما يتعلق بكلام الشيخ فقولة: بعضها دلّ على اعتبارمدّة التربص، وهي ما يظنّ معها كونها طاهراً وقت الطلاق إلى آخره.

فيرد عليه: أنّه ليس في الروايات الخاصّة شيء يدلّ على أنّه لابدّ في

____________

1- قواعد الأحكام 2: 62.

2- لم ترد في النسخة الخطيّة، أثبتناها من المصدر.

3- تحرير الأحكام 2: 52.

4- شرائع الإسلام 3: 14.