الصفحة 47
صحة الطلاق من كونها طاهراً وقت الطلاق، غاية ما يدلّ عليه هو الانتقال من طُهر إلى آخر، أعمّ من أن تكون طاهراً وقت الطلاق أم لا.

وأمّا الوجوه التي ذكرها الشيخ ففيها: أنّ الروايات الخاصة لو دلّت على الانتقال من طُهر إلى آخر لا تدلّ إلاّ على مجرد الانتقال، أعّم من أن تكون طاهراً وقت الطلاق أو حائضاً، فحينئذ تخص الروايات العامّة بمقدار دلالتها، لا بشيء لا تدلّ الروايات الخاصّة عليه، والتقييد بأمر زائد يحتاج إلى دليل، فعلى هذا اندفع الوجهان الأولان.

وأمّا اندفاع الثالث فظاهر ; لأنّه بعد ما اعتبر الانتقال على الوجه المخصوص، لا يلزمه القول بأنّ مَنْ علم بالحيض بعد الطُهر الأوّل يلزمه الحكم بصحّة طلاقه.

وأمّا قوله في (القواعد): وإن صادف، إنّما هو في مسألة اُخرى.

وأيضاً يُفهم من قوله: وإن صادف، أنّه يجوز التطليق مع عدم العلم، ولا يستلزم عدم الجواز مع العلم بالحيض.

أمّا المقام الثاني هو متعلّق كلام الشارح العلاّمة، وهو أنّه إذا صحّحنا الطلاق عملنا بالروايات العامّة والخاصة بعد الجمع بينهما، وهو ما ذكره الشيخ العلاّمة من أن الأخبار الدالة على وجوب التربص مدّة ليصح الطلاق، لا يصح إجراؤها على ظاهرها من الاختلاف والتنافي ولا اطراح بعضها، فلم يبق إلاّ الجمع بينها بالحمل على أنّ المراد مراعاة زمان يعلم الزوج الغائب حصول الحيض بعد طُهر الجماع والانتقال عنه إلى الطُهر، وأن الاختلاف منزّل على اختلاف عادات النساء في حصول الحيض باعتبار شهراً أو ثلاثة أشهر أو خمسة أو ستة، فقد اشتركت أخبار التربص في أنّ الانتقال من طُهر إلى آخر شرط صحة الطلاق من الغائب، ولو ظنّاً مُستفاداً

الصفحة 48
من عادة المرأة إن كانت معلومة، وإلاّ فمن غالب عادات النساء.

ولا ريب أنّ ما اشتركت فيه هذه الأخبار مخصّص بعموم الخبرين الداليّن على جواز تطليق زوجة الغائب على كلّ حال، ولا شكّ أيضاً أنّ الخبرين المخصّصين يخصّصان عموم المنع من طلاق الحائض، فيصح الطلاق المذكور.

فخلاصّة الكلام أنّ الدلائل الدالة على عموم المنع من طلاق الحائض مخصّصة بالخبرين الداليّن على جواز تطليق زوجة الغائب على كلّ حال، والخبران المذكوران مخصّصان بالأخبار الدالة على التربّص، ولا محذور في ذلك. والقول بأنّ الخبرين المذكورين لمّا لم يكن ظاهرهما مراداً لم يمكن التخصيص بوجه من الوجوه محلّ منع، نعم كلام الشارح العلاّمة مجمل، ما ذكر شيئاً يدلّ مفصلاً على المعنى المراد، لكن لا مانع من حمله على ما ذكرنا، انتهى.

اعلم أنّ علماء التفسيرـ كما في (التنقيح)(1) ـ قالوا: إنّ المراد بقوله تعالى: {طلقوهن لعدّتهن}(2) إيقاع الطلاق في الطُهر الذي لا جماع فيه.

وظاهر الآية كظاهر الأحاديث الدالة على إيقاع الطلاق في الطُهر لا يختص بالحاضر، فحينئذ إذا نظرنا إلى الروايات الواقعة في الغائب وجمعناها مع الروايات الواقعة في إيقاع الطلاق في الطُهر الذي لا جماع فيه، يظهر تحريم الطلاق مع العلم بالحيض كما قاله الشيخ سلّمه الله.

لكن ظاهر كلام الأصحاب استثناء الغائب زوجها عن الآية، وكذا عن الأحاديث، فحينئذ لا يصح الاستدال بالآية على حال الغائب.

____________

1- التنقيح الرائع 3: 295.

2- الطلاق: 1.


الصفحة 49
وأيضاً مَنْ قال بالتربّص كالشيخ في (النهاية) قال: إذا غاب عنها في طُهر قد قربها فيه بجماع لا يطلّقها حتّى تمضي ما بين شهر إلى ثلاثة أشهر، ثم يطلّقها بعد ذلك أي وقت شاء(1)، يدل كلامه على أنّ العلم بالحيض لا ينافي الطلاق.

وصاحب (التنقيح) تصدّى لجمع الروايات بوجه آخر، وهو أنّ ما يدّل على الوجوب فالأمر فيه للاستحباب، وما دلّ على الحرمة فالنهي فيه للكراهة(2).

فيتلخّص أنّ الطلاق مُطلقاً واقع، سواء كان عالماً بالحيض أو لا، إلاّ أنّه يُفهم من كلام (التنقيح) أنّ المراد بالغيبة: الغيبة التي يمتنع وصول خبر الزوجة إلى الزوج فلا يعلم حالها، إلاّ أن يراد بالعلم الظنّ بحيضها باعتبار عادتها أو غالب عادات النساء.

في (كنز العرفان) قوله تعالى: {طلقوهن لعدّتهن}(3) أي لوقت عدّتهن ; لأنّ الكلام للتأقيت(4). وفيه دلالة على وجوب ايقاع الطلاق في طُهر ; لأنّ الاقراء هي الأطهار لما يجيء، وهو مذهب أصحابنا والشافعي، لكن عندنا لو فعل خلاف ذلك بطل، وعند الشافعي وباقي الفقهاء فعل حراماً وصح طلاقه.

أمّا الحرمة ; فلأنّ الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده.

وأمّا الصحة ; فلأنّ النهي لا يستلزم الفساد. ونحن نمنع الثانية، فإنّ النهي عن نفس الطلاق، وقد تقدّم أنّ عند المحققين أنّ النهي عن نفس

____________

1- النهاية: 517.

2- التنقيح الرائع 3: 296.

3- الطلاق: 1.

4- كنز العرفان 2: 250.


الصفحة 50
الشيء أو جزئه أو لازمه يدلّ على الفساد.

ثم انّ هذا العموم مخصوص بأمرين:

أحدهما: غير المدخول بها.

وثانيهما: الغائب عنها زوجها غيبة يعلم انتقالها من طُهر إلى آخر، أو خرج عنها في طُهر لم يقربها فيه بجماع، فإنّ هاتين يصح طلاقهما من غير تحريم، وعلى ذلك إجماع أصحابنا وتظافر أخبارهم، ويدلّ على الاُولى آية الأحزاب على ما سيأتي، انتهى.

فظاهر الاستثناء يقتضي وقوع الطلاق في الغائب عنها زوجها مع العلم بالحيض.

واعلم أنّ للروايات احتمالات:

أوّلها: أن يكون الطلاق في الغائب عنها زوجها مشروطاً بالعلم بالطُهر، بوجه يمكن علم الزوج بعادة الزوجة أو عادات النساء.

ثانيها: أنّه يكتفى بعدم العلم ; لأنّ الغائب لا يقدر على ضبط حال المرأة، مع أنّ نظر الشرع إلى عدم وقوع الطلاق في وقت الحيض.

والغائب عن الزوجة لمّا لم يتيسّر له غالباً العلم بحال الزوجة من طُهرها وحيضها، اُقيم عدم علمها مقام العلم، فصار مدّة التربصّ ما يظنّ معها انتقال المرأة من طُهر إلى آخر مع عدم العلم بكونها حائضاً، سواء ظنّ طُهرها أو لا.

والعمومات الدالة على اعتبار الطهر تحفظ بقدر الإمكان، فلا يقع الطلاق حال العلم بالحيض.

وهذا غير ما اعتبره الشيخ سلّمه الله في مدّة التربص، وغير كلام

الصفحة 51
(الإيضاح)(1) على ما فصله السيّد تلميذ الشيخ ; لأنّ ما قاله الشيخ يشترط فيه الظنّ بالطُهر، وما قال تلميذه يجامع العلم بالحيض، بخلاف ما ذكرنا. فإذا فسّرنا التربّص بمدّة يعلم انتقالها عن طُهر إلى آخر من غير علم بحيضها وطُهرها، فحينئذ يلائم لفظ المصادفة والاتفاق.

ثالثها: أن يحمل بما حمله صاحب (الإيضاح) وأيدّه السيّد الأيد.

رابعها: أن تحمل الروايات الدالة على اعتبار مدّة التربص في الغائب عنها زوجها على الاستحباب.

والأحوط الأوّل، والباقي جائز على ما يُفهم من قول أبي الصلاح وغيره المنقول في (المختلف)، فإنّ ظاهره يدل على أنّ الغائب عنها زوجها غير مكلّف بضبط حال المرأة، وقول باقي الأصحاب المذكور في (المختلف) يشعر بذلك، ويظهر ذلك بعد المراجعة إلى أقوالهم.

ثمّ إنّ قول صاحب (الكنز) حيث استدلّ بالنهي عن نفس الطلاق(2)، منظور فيه ; لأنّ الصحة في غير العبادات ترتب الأثر، والنهي لا يقتضي عدم الترتيب، فالحقّ الاستدلال بالإجماع.

بقي هنا كلام، وهو أنّ كلام الشيخ سلّمه الله وإن كان يقرب إلى الاحتياط، لكنّه يخالف ظاهر الإجماع المنقول في (الكنز)، والأخبار المتظافرة على ما قاله ; لأنّ مقتضى ظاهر الإجماع أن لا يتحقق التحريم في الغائب زوجها في الصورتين، وكلام الشيخ سلّمه الله يقتضي تحقّق التحريم في طلاق الغائب زوجها في غير الطهر.

إن قلت: فرق بين الغائب عنها زوجها والحاضر، فإنّ طلاق الحاضر

____________

1- ايضاح الفوائد 3: 204.

2- كنز العمال 2: 250.


الصفحة 52
لو صادف الحيض يبطل بخلاف الغائب عنها زوجها.

قلت: لا مدخل لهذا الفرق، فإنّ الإجماع يقتضي عدم التحريم في غير الطُهر إلاّ في الحاضر، وليس ذلك بحرام في الغائب زوجها عنها، لا أنّه لا يقع الطلاق أو يقع، وبينهما فرق ظاهر.

وحينئذ نقول على قول الشيخ سلّمه الله: لا وجه لاستثناء الغائب عنها زوجها عن الآية، فإن قوله تعالى: {لعدّتهن}(1) يشمل العلم والظنّ، لكن ينافي ما يقتضيه الإجماع المذكور في (الكنز)(2) قول صاحب (التنقيح) حيث قال: المحبوس عن زوجته كالغائب في طلاق الزوجة، هذا قول الشيخ(3)، وتبعه ابن حمزة(4) والقاضي(5)، والمستند رواية عبدالرحمن بن الحجّاج عن الكاظم(عليه السلام) (6).

ومنعه ابن ادريس(7)، إذ الأصل بقاء الزوجيّة، ولا دليل على وقوع هذا الطلاق إذا اتفق في زمان الحيض وهي مدخول بها، وحمله على الغائب قياس.

واختار العلاّمة الأولّ مُستدلاً بوجود المقتضي لوقوع الطلاق، وهو الصيغة الصادرة من أهلها، وانتفاء المعارض، إذ هو ليس إلاّ الوقوع في الحيض(8)، وهو غير معلوم بل مظنون العدم، إذ التقدير ذلك.

____________

1- الطلاق: 1.

2- كنز العرفان 2: 250.

3- النهاية: 518.

4- الوسيلة إلى نيل الفضلية: 320.

5- المهذّب 2: 276.

6- الفقيه 3:333 حديث 1614، التهذيب 8: 69 حديث 229.

7- السرائر2: 686.

8- قواعد الإحكام 2: 62.


الصفحة 53
وفيه نظر ; لأنّا نمنع وجود المقتضي، فإنّ وجود الصيغة من أهلها غير كاف، بل لابدّ من وقوعها في محلّها، وهي المرأة الخالية من الحيض إذا كانت مدخولاً بها، وذلك غير حاصل، إذ الفرض أنّ الخلو من الحيض غير معلوم، بل غايته أنّه مظنون، والظنّ غير كاف إلاّ في الغائب ; للإجماع عليه، فحمله عليه قياس.

والرواية يمكن حملها على العلم بمصادفة الطلاق الطُهر، وأمّا مع عدم العلم بالمصادفة فلا يتهجّم على إباحة الفروج لخبر الواحد المحتمل للصدق متناً ودلالة، فالأحوط إذاً ما قاله ابن ادريس(1).

هذا كلام (التنقيح)، وهو يدلّ على اعتبار الخلوّ عن الحيض في الطلاق، إلاّ أنّه يكفي الظنّ في المختلف.

قال الشيخ في(النهاية): ومتى كان للرجل زوجة معه في البلد غير أنّه لا يصل إليها فهو بمنزلة الغائب عن زوجته، فإذا أراد طلاقها فليصبر إلى أن يمضي ما بين شهر إلى ثلاثة أشهر ثم يطلّقها إن شاء(2).

وتبعه ابن البرّاج(3)، وابن حمزة(4).

وقال ابن ادريس: الذي يقتضيه اُصول مذهبنا وإجماعنا منعقد عليه، أنّه لا يجوز للحاضر أن يطلّق زوجته المدخول بها وهي حائض بغير خلاف. وحمل الحاضرة في البلد على تلك قياس، فهو باطل عندنا، والأصل الزوجية، فمن أوقع الطلاق يحتاج إلى دليل.

____________

1- التنقيح الرائع 3: 299.

2- النهاية: 518.

3- المهذّب 2: 277.

4- الوسيلة إلى نيل الفضلية: 320.


الصفحة 54
وما ذكره شيخنا خبر واحد أورده ايراداً اعتقاداً، كما أورد أمثاله ممّا لا يعمل عليه ولا يعرج إليه، ولولا إجماعنا على طلاق الغائب وإن كانت زوجته حائضاً لما صح، فلا نتعدّاه ونتخطّاه(1).

والمعتمد ما قاله الشيخ.

لنا: أنّ المقتضي معلوم الثبوت، والمعارض لا يظنّ ثبوته بل يظنّ عدمه، فثبت الحكم.

أمّا وجود المقتضي ; فلأنّ لفظ الطلاق موضوع شرعاً للبينونة وسبب تام فيها، وقد وجد.

أمّا انتفاء المعارض فليس إلاّ الحيض، وهو غير معلوم الثبوت بل مظنون العدم، إذ التقدير ذلك.

وأمّا ثبوت الحكم عند ذلك فهو ظاهر ; لأنّ المقتضي لجواز تطليق الغائبة ـ وهو خفاء حالها عنه مع غلبة ظنّه بالانتقال من طهر المواقعة إلى غيره ـ موجود هنا، وثبوت العلّة يستلزم ثبوت الحكم، ولا نرجع إلى القياس بل إلى ما جعله الشارع علّة.

وما رواه الشيخ في الصحيح عن عبدالرحمن بن الحجّاج قال: سألت أبا الحسن(عليه السلام) عن رجل تزوّج امرأة سرّاً من أهلها وهي في منزل أهلها، وقد أراد أن يطلّقها وليس يصل إليها فيعلم طمثها إذا طمثت، ولا يعلم طُهرها إذا طهرت، قال: فقال: " هذا مثل الغائب عن أهله يطلّقها بالأهلّة والشهور ".

قلت: أرايت إن كان يصل إليها الأحيان، والأحيان لا يصل إليها

____________

1- السرائر2: 686ـ 687 مع اختلاف يسير في المصدر.


الصفحة 55
فيعلم حالها كيف يطلقها؟

قال: " إذا مضى شهر لا يصل إليها فيه ويطلّقها إذا نظر إلى غرّة الشهر الآخر بشهود، ويكتب الشهر الذي يطلّقها فيه، ويُشهد على طلاقها رجلين، فإذا مضى ثلاثة أشهر فقد بانت منه وهو خاطب من الخطّاب، وعليه نفقتها في الثلاثة الأشهر التي تعتدّ فيها "(1).

وهذا نصّ في الباب، وإذا وافق المعنى المعقول الحديث الصحيح المنقول واشتهر بين الجماعة العمل به كان معيناً. انتهى.

وتلخيص ما قال ابن ادريس: أنّ اُصول مذهبنا والإجماع المنعقد على أنّ طلاق الحاضرة لا يقع وهي حائض(2)، يقتضيان عدم وقوع طلاق الحاضر الذي لا يصل خبرها إلى زوجها، الغائب عنها زوجها إنّما حكم بصحة طلاقها وهي حائض للإجماع، فحينئذ لا يصح قياس بعض أقسام الحاضرة ـ أعني التي لا يصل خبرها إلى زوجها ـ على الغائبة، فإن القياس باطل عندنا. وأيضاً الإجماع المنعقد في الحاضرة مطلقاً يأبى عنه.

وملخص ما قال العلاّمة على أنّ المختار قول الشيخ دليلان:

الأوّل: أنّ المقتضي للطلاق هو الصيغة الصادرة من أهلها الدالة على البينونة، والمانع من الوقوع وقوع الطلاق في غير الطُهر، والمقتضي متحقّق، والمانع غير معلوم التحقّق بل مظنون العدم، إذ الأصل عدمه حين عدم العلم، فإذا تحقّق المقتضي والأصل عدم المانع فيحكم بوقوع الطلاق.

الدليل الثاني: أنّ الغائب بسبب خفاء الزوجة عنه وظّن الانتقال جوّز طلاقه في غير الطُهر، وعلم من الشرع عليّة الخفاء المذكور ; لصحة

____________

1- الفقيه 3: 333 حديث 1614، التهذيب 8: 69 حديث 229.

2- السرائر 2: 686 ـ 687.


الصفحة 56
الطلاق المذكور، واشتراك العلّة معلوم في القسم المذكور من الحاضرة، فقد تحقّق اشتراك الحكم، فصح طلاق الحاضرة التي لا يصل خبرها إلى زوجها.

والحديث الصحيح نصّ في صحة طلاق القسم المذكور، وتأكد بالشهرة في عمل الأصحاب.

فتلخّص من جميع ذلك أنّ المعتمد ما قاله الشيخ وإن كان بعض المقدّمات مدخولاً، فإنّه لا يضرّ ذلك في حصول المطلوب من الدليلين، والحديث الصحيح، فإنّ اجتماع الأدلة كثيراً ما يُفيد المطلوب سيما في المسائل الفقهيّة.

إذا علمت ذلك فاعلم أنّ المتلخص من كلام العلاّمة إمّا عدم تسليم الإجماع إلاّ فيما هو الحاضر حقيقة وحكماً، أو أنّه لايتقيّد باتّباع أمثال ذلك الإجماع، فإنّه كثيراً ما خالف الدليل مثل هذا الإجماع.

وأيضاً يفهم أنّ عدم العلم بوقوع الطلاق في الحيض كاف في وقوع الطلاق في الحاضرة، ولا يحتاج إلى العلم بالعدم، ويفهم من ذلك أنّ العلم بالحيض ينافي الطلاق.

وصاحب (التنقيح) زعم أنّ خلاصة الدليل الأوّل أنّ المقتضي وهو الصيغة متحقّق، ورفع المانع حاصل، والظنّ بالخلّو عن الحيض كاف في الغائب عنها زوجها، فكذا في القسم المذكور من الحاضرة.

فأورد عليه بأنّا نمنع وجود المقتضي ; لأنّ وجود الصيغة من أهلها غير كاف، بل لابدّ من وقوعها في محلّها، وهي المرأة الخالية من الحيض إذا كانت مدخولاً بها، وذلك غير حاصل، إذ الفرض أنّ الخلوّ من الحيض غير معلوم بل غايته أنّه مظنون، والظنّ غير كاف إلاّ في الغالب ; للإجماع عليه،

الصفحة 57
فحمله عليه قياس. هذا كلامه، وقد علمت تحرير الدليل وأنّه ليس قياساً.

وأيضاً المصنّف قال: إنّ المقتضي نفس الصيغة، ولا معنى لضمّ خلوّ الحيض الذي هو رفع المانع مع عدم المقتضي، وهو ظاهر.

ثمّ إنّ دعوى الإجماع بأنّ الظنّ بخلوّ الغائبة عن الحيض كفاية في الطلاق غير مسلّم، نعم كلام العلاّمة، بل مظنون العدم إذ التقدير ذلك، يشعر بوقوع الطلاق عند الظنّ بعدم الحيض، وذلك لا يقتضي مدخليّة في طلاق الغائبة لظنّ الخلوّ.

نعم يفرّق بين الغائبة والحاضرة حقيقة وحكماً، بأنّ الغائبة لو وقع طلاقها في الحيض يصح، بخلاف الحاضرة المذكورة فإنّه يبطل، فإنّ وقوع الطلاق في الحاضر مُعتبر في الطُهر دون الغائب وما في حكمه.

ثم اعلم أنّ المسُتفاد من استدلالات العلاّمة أنّ مدار عليّة الطلاق على الخفاء والانتقال من طُهر إلى آخر، ولم يعتبر فيه الظنّ بخلوّ المرأة عن الحيض، إذ لو كان معتبراً عنده لابدّ من ضمّه أيضاً، فعلم أنّ العلم بالحيض غير ضار في الطلاق في الغائب، لكن تأبى عن ذلك بعض كلماته.

بقي أنّه يمكن نقض الدليل بطلاق الحاضرة إذا طلّقت بمجرد الظنّ بعدم الحيض، فإنّه يجري في الدليل فيها بأن يقال: المقتضي متحقّق، والمانع غير معلوم الثبوت إلاّ أن تلاحظ الرواية أيضاً في الدليل، فتأمّل. لكن إذا جعلنا الدليل مجموع ما قال لا يضر النقض كثيراً.

ثم إنّ صاحب (التنقيح) قال: يحتمل حمل الرواية على العلم بمصادفة الطلاق الطهر، وأمّا مع عدم العلم بالمصادفة فلا نتهجّم على إباحة الفروج بخبر الواحد، إلى آخر ما قال(1).

____________

1- التنقيح الرائع 3: 300.


الصفحة 58
وفيه: أنّ هذا الاحتمال بعد العلم بصحة الخبر وعمل الأصحاب والشهرة لا يُعتبر أصلاً، وأيضاً العلم بالمصادفة مع ظنّ الخلوّ حال الطلاق مذهب ثالث لم يقل به أحد، وأنّه مخالف للإجماع.

ثم انّ عبارة ابن ادريس حيث قال: وهي حائض(1)، من غير اعتبار المصادفة، تدلّ على صحة اجتماع الطلاق مع العلم بالحيض.

فظهر ممّا قلنا أنّ صاحب (التنقيح) بمجرد حمل الدليل الأوّل على ما زعمه ونظر فيه زعم أولويّة مذهب ابن ادريس دون الشيخ، وهذا عجيب.

ثم اعلم أنّ دعوى الإجماع على بطلان القول بطلاق الغائب، العالم بالحيض بعد الطهر الذي قربها فيه بلا فصل حال الطلاق، بشرط الانتقال من الطُهر إلى الحيض المذكور ممكن بأن يقال: إنّ الفريقين ـ أعني مَنْ قال بصحة طلاق الغائب مُطلقاً، ومَنْ قال باعتبار التربّص ـ لا يعتبران الانتقال من طُهر قربها إلى الحيض الذي بعده ; لأنّ مَنْ قال بصحة الطلاق مطلقاً لا يقول باشتراط الانتقال من الطُهر الذي قربها فيه إلى الحيض الذي بعده، ومَنْ قال بالتربصّ يقول باشتراط الانتقال من طُهر إلى آخر، فيكون القول باشتراط الانتقال من طُهر إلى الحيض الذي بعده خلاف الإجماع.

وعلى ما مهدنا يقوى في الجملة قول (الإيضاح)، ومَن يحذو حذوه.

ويمكن أن يقال: إن خلاف المفيد(2) لا يضرّ في تحقّق الإجماع في عصر آخر بعده، لكن إثبات هذا الإجماع مشكل.

إن قلت: كلامنا في نفس إيقاع الطلاق في الحيض الذي بعد الطُهر

____________

1- السرائر2: 686.

2- المقنعة: 526.


الصفحة 59
الذي قربها فيه بأنّه ليس خلاف الإجماع، فإنّ المفيد وجمعاً من أصحابنا(رحمهم الله)قالوا بوقوع الطلاق فيه، فلا يكون خلاف الإجماع.

قلت: مَن قال بالتربّص إذا قال بصحة الطلاق في الحيض الذي بعد الطُهر الذي قربها فيه، كأنّه قال باشتراط الانتقال، أعمّ من أن يكون مِنْ طُهر قربها فيه إلى الحيض الأوّل أو طُهر آخر. وهذا التعميم باعتبار الانتقال إلى الحيض خلاف الإجماع، فإنّه لا يتقيّد به مَن قال بعدم التربّص، ولا يقول به مَن قال بالتربّص كما أشرنا، فخلاف الإجماع ليس باعتبار إيقاع هذا الفرد من الطلاق، بل في اعتبار الانتقال الشامل لهذا الفرد، فافهم.


الصفحة 60

المسألة الثانية عشرة
في اثبات الغرض في أفعال الله تعالى

اعلم أنّ أهل الملل قاطبة قالوا باختياره، وبأنّ فعله معلّل بالغرض، إذا لو لم يفعل للعلم بالفائدة لكان فعله عبثاً، والفطرة الصحيحة تحكم بذلك، وتشهد بذلك الروايات. غير أنّ الأشاعرة وافقوا الحكماء في أنّ أفعاله ليست معلّلة بالغرض لوجهين على ما سيجيء.

وإنّما قلنا أنّهم وافقوا الحكماء، فإنّ الحكماء وإنّ قالوا بأنّ أفعال الله تعالى معلّلة بالغرض، صرّحوا بأنّ غرض فعله وغايته إنّما هو ذاته تعالى.

والمتأخّرون من الحكماء قالوا: إنّ ما اشتهر أنّ الغاية مترتّبة على الفعل في الوجود العيني مخصوص بالغايات المتكونّة، وأمّا غاية فعل يكون أعلى من الكون ليس يترتّب على الفعل.

ومآل هذا الكلام أنّ فاعليّته تعالى تتمّ بذاته لا بواسطة أمر آخر كما في الممكنات، فإنّ تصوّر الغايات يتمّ فاعليتها في الأفعال الاختياريّة، فيكون الصانع تعالى بهذا الاعتبار غاية، وهذا يرجع كما قالوا في الصفات بأنّ الذات تُفيد فائدة الصفة الزائدة، فكذا تُفيد فائدة الغرض الزائد في تكميل فاعليته إلى نفي الغرض وحصول ما هو الغرض من الغرض.

هذا كلام بعض المحقّقين، وفيه بحث، فإنّ تكميل فاعليّة ذاته بذاته إنّما يظهر في الفعل القديم، أمّا الحادث لابدّ وأن يحتاج إلى آمر آخر.

ويمكن أن يقال: إنّ فائدة نفس الغرض يحصل بنفس الذات، وأمّا مدخليّة باقي الاُمور كالشرط لا كلام لنا فيه، فتأمل.


الصفحة 61
ويمكن أن يقال: إن الحكماء يثبتون الغرض في فعله تعالى، فإنّه كما لا يقال: إنّهم ينكرون علمه تعالى وسائر صفاته، لا يقال بإنكارهم الغرض. وكيف يصح ذلك من المعتزلة القائلين بعينيّة الصفات، فيحتمل القول بموافقة الحكماء للمعتزلة في إثبات الغرض، لكن هذا المعنى لا ينكره الأشاعرة، فعلم أنّ النزاع في الغرض الزائد، وأمّا الصوفيّة قالوا بإثبات الغرض في أفعاله تعالى.

إذا علمت ذلك فلنرجع إلى ما كنّا فيه:

قال السيّد الشريف(قدس سره) في رسالة ألّفها في نفي الغرض عن فعله تعالى: أفعاله تعالى ليست معلّلة بالغرض لوجهين:

إحداهما: أنّ مَنْ كان فاعلاً لغرض فلابدّ وأن يكون وجود ذلك الغرض أولى بالقياس إليه من غيره، وإلاّ لم يصح أن يكون غرضاً له، فيكون الفاعل مُستفيداً بتلك الأولويّة مُستكملاً بغيره، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.

لا يقال: إنّما تلزم الاستفادة والاستلزام إذا كانت المنفعة راجعة إلى الفاعل، أمّا إذا رجعت إلى غيره كالإحسان إلى المخلوقات فلا.

لأنا نقول: إن كان الإحسان وعدم الإحسان إليهم بالنسبة إليه تعالى متساويين، لم يصلح الإحسان أن يكون غرضاً، وإن كان الإحسان أولى وأرجح يلزم الاستكمال.

الثاني من الوجهين: أنّ غرض الفاعل لمّا كان سبباً لإقدامه على فعله، كان ذلك الفاعل ناقصاً في فعله وفاعليّته مُستفيداً بها من غيره، فلا مجال للنقصان بالنسبة إليه تعالى كما لا يخفى، بل كمال الله تعالى في ذاته وصفاته يقتضي الكامليّة في فاعليّته وأفعاله، وكامليّة أفعاله تقتضي أن ترتّب

الصفحة 62
عليه مصالح راجعة إلى عباده، فتلك المصالح غايات وثمرات لأفعاله من غير علّل غائيّة لها.

واتّضح بما حقّقناه أن ليس شيء من أفعاله عبثاً، أي خالياً من الحكمة والمصلحة، فلا سبيل للاستكمال والنقصان إلى عظمته وكبريائه.

قال السيّد الشريف(قدس سره): وهذا هو المذهب الصحيح، والحقّ الصريح الذي لا يشوبه شبهة ولا تحوم حوله ريبة. وما ورد من الأحاديث الموهمة لكون أفعاله عللاً بالأغراض، محمول على الغايات المترتّبة عليها. ومن قال بتعليلها بناءً على شهادة ظواهرها، فقد غفل، كما تشهد به الأنظار الصحيحة والأفكار الدقيقة، أو اظهار ما يناسب أفهام العامة على مقتضى: كلّم الناس على قدر عقولهم.

أقول: الوجهان منظور فيهما من وجوه:

أمّا الوجه الأوّل: فالوجه الأوّل من وجوه النظر: أنّا لا نسلّم أنّ الغرض لابدّ وأن يكون أولى بالنسبة إلى صاحب الغرض ليكون غرضاً له.

الثاني منها: سلّمنا أنّه لابدّ من الأوّل، لكن نقول: الأولويّة أمر اعتباري لا يوجب صفة حقيقة، فلا يوجب تحققها استكمالاً.

الثالث: لو صح ذلك يلزم أن تكون الرازقيّة والخالقيّة والمغفوريّة التي صارت بالفعل تستلزم بعد فعليتها استكمالاً، إذ لا شكّ أنّ الرازقيّة بالفعل أولى حين حصولها كما لا يخفى.

الرابع: أنّا نقول على تقدير عدم الغرض: إنّ الفعل لو لم يكن بالنسبة إلى الفاعل أولى لا يصدر عنه، بل نقول: لو لم يكن واجباً لا يصدر كما تقرّر.

وفيه: أنّ هذا الوجوب غير الأولويّة التي توجب استكماله.


الصفحة 63
لا يقال: اللازم هو رجحان جانب الوجود في الفعل، وأمّا أولويّته بالنسبة إلى الفاعل فغير لازم، فلا يلزم الاستكمال.

لأنا نقول: العقل يحكم بأنّ الفعل لو لم يكن أولى نظراً إلى فاعله لا يصدر عنه.

وفيه: أنّ العقل يحكم بأنّ هذه الأولويّة لا تكفي في كونها كمالاً للفاعل، إذ قد يكون الفعل نقصاً، وكذا أولويّته. ومثل هذا يمكن أن يورد على أصل الدليل، ويحتمل أن يجاب عنه هناك.

الخامس: أنّ الغرض إذا كان سبباً عاديّاً، كما أنّ النار سبب عادي للإحراق عند الأشاعرة، لا يلزم منه الاستكمال، فإنّ الذات يمكن أن تفعل بلا سبب، فلا يكون ناقصاً.

السادس: الأشاعرة لا يقولون بالقبح العقلي باعتبار الأفعال بالنسبة إلى الله تعالى، ويصرّحون بأنّ مرجع القبح في الأفعال إلى النقص، فحينئذ لا نسلّم تحقّق النقص والكمال، فلا يتصوّر الاستكمال. على إنّا نقول: قالت الأشاعرة بعدم تحقّق النقص في الأفعال، فيتصوّر حينئذ القول بالنقص والاستكمال.

لا يقال: قالت الأشاعرة بتحقّق القبح والحسن بمعنى النقص والكمال، فيجري ذلك في الأفعال.

لأنا نقول: إنّما قالوا ذلك باعتبار الصفات لا في الفعل.

أمّا الوجه الثانى: فالوجه الأوّل من وجوه النظر فيه: أنّا نختار أنّ الغرض الذي هو سبب إقدام فاعليّة الفاعل هو فعليّته الرازقيّة مثلاً، فإنّ الله تعالى كان رازقاً بالقوة، فخلق الخلق ليرزقهم بالفعل، والرازقيّة صفة اعتباريّة لا يلزم من فعليّته وكونه غرضاً الاستكمال.


الصفحة 64
ولو سلّم فهو لازم على كلّ حال، ويؤيّد ذلك الحديث القدسي " كنتُ كنزاً مخفيّاً فأحببت أن اُعرف فخلقت الخلق لأن اُعرف "(1).

الوجه الثاني: إنّما نختار أنّ الفاعليّة أمر اعتباري، لا يتحقّق النقص باعتبار الاحتياج فيه إلى الغير، كما أنّ الرازقيّة تحتاج إلى المرزوق، ولا يلزم منه النقص.

الثالث: أنّ الاحتياج إلى السبب العادي لا يستلزم النقص ولا يسمّى احتياجاً، كما أنّ خلق زيد مُسبب بوجود أبيه، ولا يعدّ ذلك نقصاً في فاعليّته تعالى لزيد.

الرابع: أنّ النقص لا يتحقّق عند الأشاعرة باعتبار الفعل، كما أشرنا إليه.

الخامس: إنّا نختار أنّ الغاية والغرض إذا كانا من صفاته لا يلزم الاستكمال بالغير، فإنّه حينئذ تكون فاعليّته تعالى معلّلاً بعالميته مثلاً، ولا محذور فيه، بل هو كذلك عند مَنْ ينكر الغرض في أفعاله تعالى.

لا يقال: الأشاعرة إنّما قالوا بعدم الغرض في فعله تعالى ; لأنّ الغرض عند مَنْ قال به فاعل لفاعليّة الفاعل، ولا يقولون بفاعل غير الله تعالى.

لأنّا نقول: هم لايقولون بمؤثر في الوجود غير الله تعالى، والفاعليّة أمر اعتباري.

وأيضاً لو صح ذلك يلزم أن لا يقولوا بالغرض في أفعالنا أيضاً، على أنّه لا بأس في القول بالسبيّبة العاديّة، إنّما الممنوع عندهم الحقيقة.

____________

1- الجواهر السنيّة: 361.


الصفحة 65
السادس من وجوه النظرفي الوجه الثاني: أنّ العالم حادث، وفاعليّته تعالى للعالم تحتاج في الحقيقة إلى الغير ; لأنّه لا يتصوّر تخلف المعلول عن علّته التامة، ولايتصوّر قدم أثر المختار عندهم، فحينئذ لابدّ من أمر آخر متى يحدث العالم من الصانع فتحتاج فاعليّته إلى الغير فيلزم الاستكمال.

قال بعض المحقّقين: إنّ الغرض بالحقيقة هو علمه تعالى بالغايات المترتّبة على الأفعال، فلو كان فعله تعالى معلّلاً بالغرض لكان فعله معلّلاً بعلمه، ولا نقص حينئذ أصلاً.

ثمّ قال: لعلّ الأشاعرة لا ينكرون الغرض بالحقيقة، إنّما ينكرون التأثّر والانفعال الذي يحصل للحيوانات من الأغراض.

أقول: الغرض عند التحقيق هو متعلّق التصديق بالفائدة ; لأنّه المطلوب بالفعل، ولهذا قيل: أوّل الفكر آخر العمل، مثلاً في عمل الفخّار الكوز الغرض هو شرب الماء لا التصديق بالشرب، فالكلام في أنّ الشرب هل هو مطلوب للفاعل أم لا؟ فإن لم يكن مطلوباً لا يمكن الفعل، وإن كان مطلوباً يلزم الاستكمال على ما قالوا.

وأيضاً يمكن أن يقال: إنّ الأشاعرة إنّما قالوا بنفي الغرض ; لأنّ العلم ليس سبباً للفعل حقيقةً عندهم، وليس مقصودهم نفي السببيّة العاديّة. وفيه نظر ; لأنّ اللائق حينئذ نفي الشرط وجميع الأسباب، فلا فائدة في تخصيص الغرض، فتأمّل.

ثم إنّ قول المحقّق الشريف(قدس سره): ومَن قال بتعليلها إلى آخره، إشارة إلى ما اختار العلاّمة التفتازاني من أنّ الحقّ أنّ بعض أفعاله تعالى معلّلة بالأغراض، بناءً على الروايات، قال في شرح المقاصد: الحقّ أنّ تعليل

الصفحة 66
بعض الأفعال سيّما شرعيّة الأحكام بالحكم والمصالح ظاهر، كإيجاب الحدود والكفّارات، وتحريم المسكرات وما أشبه ذلك(1)، والنصوص أيضاً شاهدة على ذلك كقوله تعالى:

{وما خلقت الجنَّ والإنس إلاّ ليعبدون}(2) الآية.

[و] {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل}(3) الآية.

[و] {فلمّا قضى زيد منها وطراً زوّجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج}(4) الآية.

ولهذا يكون القياس حجّة إلاّ عند شرذمة، وأمّا تعميم ذلك فمحل بحث.

وعلى ما قلنا لا يتوجّه على ما اختاره أنّه غفل عن الأنظار الصحيحة، فإنّك عرفت حال الانظار.

وقوله: كلّم الناس على قدر عقولهم، لعلّه(قدس سره) غفل من معناه ; لأنّ المراد أنّ لكل مقام مقالاً، فالأفهام العالية يليق أن يذكر لها الدقائق والحقائق البعيدة عن الأفهام، أمّا باقي الأفهام فيذكر لها من المسائل ما هو قريب إليها.

وليس المراد أنّ الباطل يذكر للأفهام الدنية، مثل أن لا يكون لفعله تعالى غرض، فيذكر للأفهام العامية أنّ فعله تعالى له غرض، وهذا لا يليق بالأنبياء(عليهم السلام) سيما نبينا سيّد الأنبياء(صلى الله عليه وآله).

____________

1- شرح المقاصد: 48.

2- الذاريات: 56.

3- المائدة: 32.

4- الأحزاب: 37.


الصفحة 67
هذا على تقدير أن تكون النسبة إلى الغفلة في كلام السيّد الشريف(قدس سره)إلى العلاّمة التفتازاني، فإنّ كلامه لا يحتمل الحمل على أنّه أراد اظهار ما يناسب الأفهام العامية كما لا يخفى، فلابدّ من عطف أو إظهار إلى آخره على قوله: ما يشهد، أي غفل عن شهادة الانظار، أو غفل أنّ الشارع أظهر الغرض بالنسبة إلى أفهام مخاطبيه الناقصين فإن كان إلى غيره، أو أراد السيّد(قدس سره)أنّه غفل حيث قال باثبات الغرض للروايات، أو أراد مع اثبات الغرض في تفسير الروايات ; لأنّه القريب إلى أفهام العامّة، فهو بعيد، ولا كلام معه.

ثمّ إنّ كلام العلاّمة التفتازاني حيث قال: إثبات الغرض في جميع أفعاله تعالى محلّ بحث، ضعيف ; لأنّ الرواية كما دلّت على إثبات الغرض في البعض دلّت في الكلّ، لأنّ الحديث القدسي: " لولاك ما خلقت الأفلاك "(1)، و " يا انسان خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي "(2)، و" كنت كنزاً مخفياً فأحببتُ أن اُعرف فخلقت الخلق لاُ عرف "(3)، وأمثاله يدلّ على الغرض مطلقاً.

وأيضاً العقل كان يحكم بأنّ المختار لابدّ لفعله من غرض، والمانع كان النقض، فإذا ارتفع النقض بقي الحكم صحيحاً مؤيّداً بالنقل،

والحمد لله ربّ العالمين

ورد في نهاية النسخة الخطيّة: قابلته مرّتين: مرّة بنسخة مؤلّفها المبعوثة إلى خزانة أمير المؤمنين(عليه السلام)، ومرّة بنسخة مصحّحة في المشهد الغروي.

____________

1- بحار الأنوار15: 28.

2- الجواهر السنيّة: 361.

3- مفاتيح الغيب: 293.