الصفحة 1

رواية مسلم الجصّاص "زينب (عليها السلام) نطحت جبينها بالمحمل"


بسمه تعالى

الحمد لله وكفى، والصلاةُ والسّلامُ على الحبيب المصطفى، وآله النجباء.

قبلَ أيامٍ قلائل تَداول بعضُ الإخوة الأعزّاء، في إحدى المجاميع العلميّة، عبرَ شبكات التواصل الإجتماعي في الانترنيت، حديث مسلم الجصّاص، المعبّر عنه بـ "حديث النَطْح"، فشرّقوا وغرّبوا، بينَ : مؤيّدٍ له على كثرة علّاته، ومعارضٍ نافٍ لصحّته واعتبارِه، وثالث ساكت متفرّج على ما يكتبه هذا ويردّه ذاك، وأكثرُ الحاضرين أدلوا بِدِلائهم، وأظهروا ما في جِعابهم من معلومات مخزونة في أذهانهم.

والعجيبُ ـ والعجائبُ جمّة ـ أن البعضَ يستدلّ لإعتبار هذه الرواية، بمجرّد ورودها في "البحار" الذي يعبّر عنه بـ "المقدّس"، كما يعبّر عن "الكافي" بـ "الشريف"، متناسِياً أنْ لا كتاب مقدّس ومعتبر عندنا من ألِفهِ إلى يائِهِ، إلّا كتاب الله الذي ﴿لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (1)، وأنّ إطلاق هذه العبائر عَلَى كُتبنا الحديثية إنّما هو من باب الاحترام لها.

____________

1- فصلت (٤١) : ٤٢.


الصفحة 2

والبعض الآخر يستدلّ لإعتبارها، بكلمات واردة في زيارة عقيلة الهاشميّين زينب )عليها السلام)، أو أبياتِ شعرٍ باللّغة العاميّة العراقيّة، قرأها أحد المنشدين الحسينيّين الرادود، أو يعتبر أنّ مُجرّدَ ذِكرِها من قبل خطباء المنبر الحسينيّ ـ زاد الله في شرفهم ـ دليلٌ على اعتبارها ووثاقتها.

ما هكذا تُورد يا سعد الإبل!! إلى أينَ نحنُ ذاهبون؟! وبأيّ أدلّة تستدلّون؟! وإلى أيّ منطق تتحاكمون؟

إذا كانَ هذا منطقُ بعضِ طلّاب العِلم، واُسلوبُهُم في البحثِ العلميّ، وإقامتُهم للحجج والبراهين!! فما بالُ عامّة الناس وسوقتِهم؟!

وبعد أن انتهى البحث ـ أوكادَ ـ طلبَ منّي بعض الإخوة الكرام، أن أكتبَ مقالةً، اُسلّط الضوءَ فيها على هذا الحديث ومصادره وملابساته والإشكالات الواردة عليه، فاستجبتُ لطلبهم، وكتبتُ هذه الوريقات القليلة، التي أساسُ البحث فيها هو حديث مسلم الجصّاص ـ دون التطرّق لأدلّة ضرب الرؤوس بالسيوف والقامات، المعبّر عنه بـ "التطبير"، فذلك له محلّ خاصّ، وهو حكمٌ شرعيّ يرجع فيه المكلَّف إلى مَرْجعِ تقليده، فأقول وبالله المستعان:


الصفحة 3

النصّ الكامل للرواية

لابُدّ أوّلاً من ذكرِ النصِّ الكاملِ لهذه الرواية، كي يطّلع عليها القارئ، ثمّ الانتقال إلى ما يتعلّق بسندها ومتنها من إشكالات وردود. قال العلّامة المجلسي في بحار الأنوار ـ وهو المصدر الرئيسي والمشهور لها ـ :

رأيتُ في بعض الكُتب المعتبرة: روي مرسلاً عن مسلم الجصّاص قال: دعاني ابن زياد لإصلاح دار الإمارة بالكوفة، فبينما أنا اُجصّص الأبواب، وإذا أنا بالزعقات(1) قد ارتفعت من جنبات الكوفة، فأقبلتُ على خادمٍ كان معنا فقلتُ: مالي أرى الكوفة تضجّ؟

قال: الساعةُ أتوا برأس خارجي خرج على يزيد.

فقلتُ: مَن هذا الخارجي؟

فقال: الحسين بن علي (عليه السلام).

____________

1- الزَعقُ: الصياحُ، وقد زَعَقْتُ به زَعْقاً. الصحاح ١٤٩٠:٤ "زعق".


الصفحة 4

قال: فتركتُ الخادمَ حتّى خرجَ، ولطمتُ وجهي حتّى خَشيتُ على عيني أن تذهب، وغسلتُ يدي من الجُصّ، وخرجتُ من ظَهر القصر وأتيتُ إلى الكناس(1).

فبينما أنا واقف، والناس يتوقّعون وصولَ السبايا والرؤوس، إذ أقبلت نحو أربعين شُقّة تُحمل على أربعين جَملاً، فيها الحرم والنساء وأولاد فاطمة(عليها السلام)، وإذا بعليّ بن الحسين (عليه السلام) على بعير بغير وطاء، وأوداجه تشخب دماً، وهو مع ذلك يبكي ويقول:


يا أمّةَ السوءِ لا سُقياً لرِبعكميا أمّةً لم تُراعِ جدّنا فينا
لو أنّنا ورسولُ اللهِ يَجمعُنا يومَ القيامةِ ما كُنتم تقولونا
تسيّرونا على الأقتاب(2)عاريةً كأنّنا لم نُشيّد فيكُمُ دِينا
بَني أميّة ما هذا الوقوفُ علىتلكَ المصائب لا تُلبون داعينا
تُصفّقون علينا كفّكَم فرحاًوأنتُم في فجاج الأرض تَسبُونا
أليسَ جدّي رسولُ الله ويلكُمأهدى البريّةِ من سُبل المضلّينا
يا وقعةَ الطفّ قد أورثتَني حُزناًواللهُ يَهتكُ أستارَ المسيئينا

قال: وصار أهلُ الكوفة يناولون الأطفالَ الذين على المحامل بعض التمر والخبز والجوز، فصاحت بهم اُمّ كُلثوم وقالت: يا أهلَ الكوفة إنّ الصدقة علينا حرام، وصارت تأخذ ذلك من أيدي الأطفال وأفواههم وترمي به إلى الأرض، قال: كلّ ذلك والناس يبكون على ما أصابهم.

____________

1- الكُنَاسَةُ: القمامةُ، واسمُ موضعٍ بالكوفة. الصحاح ٩٧٢:٣ "كنس".

2- القَتَبُ، بالتحريك: رَحلٌ صغير على قدر السَنام. الصحاح ١٩٨:١ "قتب".


الصفحة 5

ثمّ إنّ اُمّ كلثوم أطلعت رأسها من المحمل، وقالت لهم: صَهْ يا أهلَ الكوفة، تقتلنا رجالكم، وتبكينا نسائكم؟ فالحاكم بيننا وبينكم الله يوم فصلِ القضاء.

فبينما هي تخاطبهنّ إذا بضجّة قد ارتفعت، فإذا هم أتوا بالرؤوس يقدمهم رأس الحسين (عليه السلام)، وهو رأس زهريّ قمريّ أشبهُ الخلق برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولحيتُهُ كسواد السّبج(1) قد انتصل منها الخضاب، ووجهُهُ دارةُ قمر طالع والرّمحُ تلعبُ بها يميناً وشمالاً، فالتفتت زينب فرأت رأسَ أخيها فنطَحَتْ جَبينها بمقدّم المحمل، حتّى رأينا الدّم يخرج من تحت قناعها، وأومأت إليه بحرقة وجعلت تقول:


يا هلالاً لمّا استتمّ كمالاغالَهُ خَسفُه فأبدا غروبا
ما توهّمتُ يا شقيقَ فؤاديكان هذا مُقدّراً مكتوبا
يا أخي فاطمُ الصغيرةُ كلّمهافقدْ كادَ قلبُها أن يذوبا
يا أخي قلبُكَ الشفيق علينامالَهُ قد قسى وصارَ صليبا
يا أخي لو ترى عليّاً لدى الأسرمعَ اليُتم لا يطيق وجوبا
كلّما أوجعوه بالضربِ ناداك بذلٍّ يغيضُ دمعاً سكوبا
يا أخي ضُمّه إليك وقرّبهوسكّن فؤادَهُ المرعوبا
ما أذلَّ اليتيم حينَ يُناديبأبيه ولا يراه مُجيبا(2)

____________

1- السُبْجَةُ، بالضم: كِساء أسود، يقال: تَسَبَّجَ الرجلُ: إذ البسهُ، وهو فارسيّ معرّب، أصله "شَبي. الصحاح ٣٢١:١ سبج".

2- بحار الأنوار ٤٥: ١١٤.


الصفحة 6

مصادر الرواية

"بحار الأنوار"

يُعتبر "بحار الأنوار" للعلّامة محمّد باقر المجلسيّ (ت ١١١١ هـ)، المصدَر الأساسيّ والمشهور لهذه الرواية، إلّا أنّ المشكلة فيه أنّه لم يذكر المصدر الذي أخذ منه الرواية، إذ قال: رأيت في بعض الكتب المعتبرة(1)، وسيأتي الحديث قريباً عن الإشكالات الواردة على سند هذا الحديث.

"المنتخب" و"نور العين"

ذكرنا أنّ العلّامة المجلسيّ لم يصرّح بمصدَرِه لهذا الحديث، إلّا أنّ المحدّث الشيخ عباس القميّ (ت ١٣٥٩هـ) قال في "منتهى الآمال": "وهذا الخبر وإن نقله العلّامة المجلسيّ، لكن مصدر نقله (منتخب الطريحي) ، وكتاب (نور العين)"(2). وفي هذا القول إشكالات عديدة، نذكرها أيضاً قريباً إن شاء الله.

ينابيع المودّة لذوي القربى

لسليمان بن إبراهيم القندوزيّ الحنفيّ (ت ١٢٩٤ هـ)، ذكر هذه الرواية بنصّ مختلف عمّا في البحار، دون ذكر مصدرٍ لها، ولا اسم الراوي مسلم

____________

1- بحار الأنوار ٤٥: ١١٤.

2- منهتى الآمال (المطبوع ضمن مؤلّفات الشيخ عباس القميّ) ٢١: ٨٣٢ .


الصفحة 7

الجصّاص، ولم ينسبها إلى راوٍ آخر، وفيه: "نطحت جبهتها بمقدّم الأقتاب فخرج الدم منها"(1).

المصادر المتأخّرة

كافّة المصادر التي جاءت بعد "البحار" نقلت هذه الرواية عنه، ابتداءً بكتاب "العوالم"(2) للشيخ عبد الله البحراني (ت ١٢٢٧ هـ)، وانتهاءً بالكتب والرسائل المعاصرة.

مناقشة سند الرواية

يردُ على سند هذه الرواية عدّة إشكالات، هي:

الإشكال الأوّل: مجهوليّة مصدرها

قلنا قبل قليل: إنّ العلّامة المجلسيّ لم يذكر مصدر هذه الرواية، بل نسبها إلى مصدرٍ مجهول قائلاً: رأيت في بعض الكتب المعتبرة(3)، وهذا بحدّ ذاته تضعيف لها؛ إذ أنّه (رحمه الله) كثيراً ما يذكر الكتب التي ينقل عنها الأحاديث.

ثمّ إنّ أغلب مصادر العلّامة المجلسيّ في "بحاره" وصلت إليه عن طريق الوجادة، وليس بالمناولة. ومعلوم أنّ النقل بالوجادة في حكم الخبر

____________

1- ينابيع المودّة ٣: ٨٦ .

2- العوالم الإمام الحسين (عليه السلام) ١٧: ٣٧٢ .

3- بحار الأنوار ٤٥: ١١٤.


الصفحة 8

المرسل؛ لأنّ تلك النسخة قد لا تكون صحيحة النسبة لكاتبها، وقد تكون محرّفة أو مشوّهة.

فإن قيل: إنّ مجرّد ذكر الرواية في "البحار" المقدّس، دليلٌ على اعتبارها.

قلنا: هذا كلام واهٍ، يدلّ على عدم معرفة قائله بمصادرنا الحديثيّة، فالبحر مثلما يحتوي على الدّر الثمين، يمكن أن يكون فيه الحصى والمدر، واطلاق عبارة "المقدّس" و"الشريف" على بعض كتبنا، جاء من باب الاحترام والتقدير.

وإن قيل: إنّ العلّامة المجلسيّ حكم باعتبار هذه الرواية.

قلنا: لم يحكم باعتبارها، بل نقلها عن "بعض الكتب المعتبرة"، والفرق بين الأمرين واضح وجليّ، فليس بالضرورة اعتبار وتوثيق كلّ الروايات الواردة في الكتاب المعتبر إجمالاً. ثمّ قد يكون الكتاب معتبراً طبقاً لمباني العلّامة المجلسيّ، غير معتبرٍ لمباني غيره.

وإن قيل: إنّ محلّ الشاهد في هذه الرواية (وهو نطح زينب (عليها السلام) جبينها بمقدّم المحمل) وارد في الزيارة الشريفة لها، التي يزورها بها ملايين المسلمين، وهذا دليل كافٍ في اعتبارها، إذ وردَ في زيارتها (عليها السلام): "السلام على يا من نطحت جبينها بمقدّم المحمل إذ رأت رأس سيّد الشهداء، ويخرج الدم من تحت قناعها ومن محملها بحيث يرى من حولها الأعداء".


الصفحة 9

قلنا: هذا دليل سَمج، إذ غاب عن قائله أن لا وجود لزيارة لها (عليها السلام) صادرة من المعصوم، بل ألّفها البعض معتمداً على بعض الروايات، التي منها ما رواه مسلم الجصّاص.

والعجيب من بعض الجهلة أنّهم يستدلّون على اعتبار هذه الرواية بقول شاعر شعبيّ ومنشدٍ حسينيّ "رادود" إذ قال:


لا تَسل يا لائماً عن شَجّ رأس العاشقينأصدرَت فتواه زينب مُذ رأت رأس الحسين(1)

وإن قيل: إنّ المحدّث الشيخ عباس القميّ صرّح بأنّ العلّامة المجلسيّ نقلها من كتابي المنتخب ونور العين، وهذا كافٍ في اعتبارها.

قلنا: إنّ المجلسيّ لم يذكرهما، فمن أين عرفَ المحدّث القميّ ذلك؟ ثمّ إنّه ـ المجلسي ـ لم يذكر هذين الكتابين ضمن مصادر (بحاره) التي ذكرها في أوّله(2).

ولو سلّمنا ـ من باب التنزّل ـ أنّ مصدره هذان الكتابان، فهذا لا يفيد في اعتبار الرواية أبداً:

____________

1- من قصيدة للشاعر الميرزا عادل الإشكناني، قرأها المنشد الحسينيّ محمّد الحجيرات، ومطلعها:


أنا لا أملكُ وجوديوكلُّ وُجودي بينَ يديك
شلون يصير وأنا ملككأَبخل بدميّ عليك

2- بحار الأنوار ١: ٦ "في بيان الأصول والكتب المأخوذ منها".


الصفحة 10

أمّا "منتخب الطريحي" فإنّه أرسل الرواية عن مسلم الجصّاص(1)، كما فعل المجلسيّ.

والشيخ فخر الدين الطريحيّ النجفيّ (ت ١٠٨٥ هـ) وإن كان من العلماء الكبار، إلّا أنّ كتابه هذا "المنتخب" عبارة عن مجموعة نثريّة وشعريّة تهدف إلى التذكير بمصاب أهل البيت (عليهم السلام)، لذلك صرّح بعض الأعلام بعدم الاعتماد على ما ينفرد فيه من أحداث واقعة الطفّ.

قال المحدّث الشيخ عباس القميّ في "منتهى الآمال" بعد ذكره لكتابي المنتخب ونور العين: "وحال هذين الكتابين عند أهل فنّ الحديث لا يخفى"(2).

ثمّ في صحّة نسبة النسخة المطبوعة والمتداولة من هذا الكتاب، إلى مؤلّفه، نقاش عند أهل الفنّ. قال العلّامة المتتبّع الشيخ أقا بزرك الطهراني (ت١٣٨٩ هـ) في "الذريعة":

"والمنتخب الكبير الذي فيه زيادات على المطبوع، عند السيّد محمّد اليزديّ وعند الميرزا علي أكبر العراقيّ، ونسخة منتخب من المنتخب لبعض المتأخّرين، وهو موافق مع المنتخب في الخطبة، ومخالف معه كثيراً بالزيادة والنقصان، ومن نقصه عدم ذكر حديث الكساء فيه ... ونسخة اُخرى من المنتخب لكن بينه وبين المنتخب المطبوع اختلاف بعض الألفاظ"(3).

____________

1- المنتخب : ٤٧٧.

2- منتهى الآمال (ضمن المؤلّفات الكاملة) ٢١: ٨٣٢ .

3- الذريعة ٢٢: ٤٢٠ رقم ٧٦٩٦.


الصفحة 11

وأمّا "نور العين" فنقول عنه:

أوّلاً: نُسب هذا الكتاب "نور العين في مشهد الحسين" إلى ركن الدين أبي إسحاق إبراهيم بن محمّد بن إبراهيم بن مهران البغدادي الشافعي الذي يعرف بالاسفرائني (ت ٤١٨ هـ). له عدّة مؤلّفات منها: أدب الجدل، الجامع الجليّ والخفيّ في أصول الدين، الردّ على الملحدين، شرح فروع ابن الحدّاد، معالم الاسلام(1).

طبع هذا الكتاب عدّة طبعات في مصر: مطبعة شرف سنة ١٢٨٩هـ، مطبعة عبد الرزاق سنة ١٣٠٢ و١٣٠٣هـ(2).

ورأينا الطبعة التي طبعت في مطبعة المنار في تونس.

ثانياً: أكثر الذين ترجموا للاسفرائني، لم يذكروا هذا الكتاب من مصنّفاته، لذلك يشكّك الكثير من الأعلام في صحة نسبته إليه، حتّى أنّ إسماعيل باشا البغدادي (ت ١٣٣٩ هـ) في كتابه "هدية العارفين" عندما ذكره ضمن مصنّفات الاسفرائني، أعقبه بعبارة "ينسب إليه"(3).

نعم، نسبه إليه يوسف الياس سركيس (ت ١٤١٢ هـ) في كتابه "معجم المطبوعا ت العربيّة والمعرّبة" اعتماداً على الطبعات التي رآها له(4).

____________

1- هديّة العارفين (المطبوع مع كشف الظنون) ٦: ٨ .

2- معجم المطبوعات العربيّة والمعرّبة ١: ٤٣٥ .

3- هديّة العارفين (المطبوعة مع كشف الظنون) ٦: ٨ .

4- معجم المطبوعات العربيّة والمعرّبة ١: ٤٣٥ .


الصفحة 12

وأشار إليه العلّامة الطهراني عند حديثه عن "قرّة العين في شرح ثارات الحسين" للشيخ علي بن الحسين بن موسى المروي العاملي الكاظمي، قائلاً: "وأمّا (نور العين) فهو لأبي إسحاق الاسفرائني إبراهيم بن محمّد بن إبراهيم الشافعي، المتوفّى ٤١٨ هـ أو ٤١٧ هـ"(1).

ثالثاً: إن ثبتت نسبةُ هذا الكتاب للاسفرائني، فإنّ نسبة النسخة المطبوعة إليه غير ثابتة؛ لاحتوائها على كلمات عاميّة باللهجة العراقيّة، لم تكن مستعملة في القرن الرابع الهجري، ولنقله وقائع مكذوبة تتعلّق بمأساة الطفّ، لذلك شكّك بعض الأعلام في نسبة هذا الكتاب للاسفرائني.

قال الشيخ عباس القميّ في "منتهى الآمال" بعد ذكره لهذا الكتاب و"المنتخب": "وحال هذين الكتابين عند أهل فنّ الحديث لا يخفى"(2).

وقال السيّد المرعشي النجفي (ت ١٤١١ هـ) في كتابه "إحقاق الحقّ": "ليس ممّا يعتمد عليه في منفرداته"(3).

ونُسب إلى المحقّق السيّد عبد العزيز الطباطبائي (ت ١٤١٦ هـ) قوله: "أغلبُ الظنّ أنّ هذا الكتاب من الموضوعات، وقد نُسب إلى الاسفرائني لاحقاً؛ وذلك لأنّ النصّ المذكور لا يُساعد أن يكون من القرن الرابع".

وإلى القاضي الطباطبائي قوله: "من الكتب الضعيفة جدّاً، التي لا يعتمد عليها، ومجهول وضعيف، ومجهول المؤلّف".

____________

1- الذريعة ١٧: ٧٢ رقم ٣٨٠ .

2- منتهى الآمال (ضمن مؤلّفاته الكاملة) ٢١: ٨٣٢ .

3- إحقاق الحقّ ١: ٤٨٢ .


الصفحة 13

وإلى فضل علي القزويني قوله: "ومن نظر في مقتله المطبوع (نور العين) يعرف أنّ فيه أكاذيب وأموراً على خلاف ما أجمع عليه الفريقان ... فإنّا لا نعتمد على ما تفرّد به".

رابعاً: الرواية المذكورة في هذا الكتاب تختلف عن النصّ الوارد في "البحار"، وتلقيبه الراوي ـ "الحصّاص" بالحاء المهملة. والشيء المهم فيها: عدم ورود نطح زينب (عليها السلام) جبينها بمقدّم المحمل، الذي هو المقصود من الرواية، ومحلّ الشاهد فيها الذي يحتجّ به الذين يسعون لاعتبارها وتصحيحها.

فإن ثبتت نسبة الكتاب لمؤلّفه الاسفرائني، وحكمنا باعتبار هذه الرواية، فلا يفيدنا هذا بشيء في محلّ النزاع، الذي هو اثباة النطح منها (عليها السلام).

الإشكال الثاني: الرواية مُرسلة

من الواضح أنّ العلّامة المجلسيّ (رحمه الله) أرسل الرواية عن مسلم الجصّاص، ولم يذكر سنده إليه، بل لم يذكر المصدر الذي حكاه عنه، كما بيّنا سابقاً. وهذا يجعلنا نحكم بضعف الرواية وعدم إمكان الاعتماد عليها؛ إذ أنّ المرسل من أقسام الضعيف.

قال الشهيد الثاني زين الدين الجبعي العامليّ (ت ٩٦٥ هـ) في "الدراية" ـ بعد أن جعلَ المرسل من أقسام الضعيف ـ : "والمرسل ليس بحجّة مطلقاً في أصح الأقوال للأصوليين والمحدّثين؛ وذلك للجهل بحال المحذوف، فيحتمل كونه ضعيفاً"(1).

____________

1- الدراية: ٤٨ .


الصفحة 14

الإشكال الثالث: مجهوليّة الراوي مسلم الجصّاص

أوّلاً: مسلم الجصّاص ـ أو الحصّاص، كما في "نور العين" ـ مجهولٌ،

لا بمعنى أنّ الأعلام ذكروه وحكموا بمجهوليّته، بل لم يَرد له أيُّ ذكرٍ في المصادر الرجاليّة، شيعيّة وسنيّة.

وإنّما ذكره بعض المتأخّرين ـ مثل علي النمازي الشاهرودي (ت١٤٥٠هـ) في كتابه "مستدركات علم الرجال"(1) ـ بناءً على ورود اسمه في بحار الأنوار، وهذا يدلّ على أنّ هذا الرجل لم يعرف قبل زمن العلّامة المجلسيّ (ت ١١١١ هـ).

ثانياً: من الغريب أنّ هذا الراوي ـ مسلم الجصّاص ـ لم يروِ أيّ روايةٍ، سوى رواية "النطح"، الواردة في البحار، فلم تذكر المصادر الحديثيّة كافّة له رواية واحدة.

ثالثاً: يتّضح من نصّ الرواية، أنّ هذا الرجل، انتدبه ابن زياد لإصلاح قصر الإمارة وتجصيص أبوابه، فهو إذن من الذين يعملون للظالمين.

وهو أيضاً لا شغل ولا معرفة له بالأحداث الدائرة آنذاك، شأنه شأن الكثير من أهل الكوفة، الذين وقفوا غير معنيّين ولا مهتمّين بثورة الحسين (عليه السلام). وهذا واضح من سؤاله الخادم "ما لي أرى الكوفة تضجّ؟". ومن جواب

____________

1- مستدركات علم الرجال: ٧: ٤١١ رقم ١٤٩٠٣ .


الصفحة 15

الخادم: "قال: الساعة أتوا برأس خارجي خرج على يزيد. فقلت: من هذا الخارجي؟ فقال: الحسين بن علي".

فهكذا شخص هل يمكن الاعتماد على روايته؟! هذا إذا سكتنا عن باقي الإشكالات الواردة على سند الرواية ومتنها.

فإن قيل: إنّما تقبل روايات أمثال مسلم الجصّاص، الذين كانوا مع الظالمين، من باب الاطمئنان إلى أنّ العدو لا يشهد على نفسه إلّا بالصدق،

ولا يظهر عيوبه إلّا وهو محقّ. ولا يخفى أنّ قول أحدهم: إنّه كان حاضراً في معسكر العدو، أو كان يجصّص قصر الطاغي، ومع ذلك هاله ما جرى على الحسين (عليه السلام) وأهل بيته، فبكى عليهم، وروى تلك الأحداث مفصّلة، مفهومه أنّه يدين نفسه لتخاذله أو تقصيره، لذا يُطمأن إلى ما رواه.

قلنا: إنّ تعاطف الظالمين مع مصائب أهل البيت (عليهم السلام)، وبكاءهم عليهم في بعض المواقف، لا يخرجهم من دائرة الظلم والفسق، التي يترتّب عليها عدم قبول قولهم، وهناك شواهد كثيرة على ذلك: مثل بكاء معاوية بن أبي سفيان على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، عندما طلب من أبي الدرداء أن يصف له علياً (عليه السلام)، فهل هذا يدلّ على صلاح معاوية؟

وكذلك بكاء اللعين عمر بن سعد، وهو ينظر إلى الحسين (عليه السلام) يذبح في يوم عاشوراء.

وبكاء مروان بن الحكم وهو يستمع لندبة السيدة أمّ البنين (عليها السلام)، وهي تندب أولادها في البقيع.


الصفحة 16

مناقشة متن الرواية

يرد على متن الرواية عدّة إشكالات، وهي:

أولاً: وردَ في رواية "البحار": "فالتفتت زينبُ فرأت رأسَ أخيها فنطَحَت جَبينها بمقدّم المحمل، حتى رأينا الدّم يخرج من تحت قناعها"(1).

وفي مصادرنا المعتبرة، أنّ عمرَ بن سعد حملَ عيالات الحسين (عليه السلام) على جمالٍ بدون وطاء:

قال السيّد ابن طاووس (ت٦٦٤ هـ) في كتابه "اللهوف": "ثمّ رحلَ ـ ابن سعد ـ بمن تخلّف من عيال الحسين (عليه السلام)، وحملَ نساءه صلوات الله عليه على أحلاس(2) أقتاب (3) بغير وطاء، مكشّفات الوجوه بين الأعداء، وهنّ ودائع خير الأنبياء، وساقوهنّ كما يُساق سبيّ الترك أو الروم في أسر المصائب والهموم"(4).

وحكى الشيخ عبد الله البحراني في "العوالم" عن "مجالس المفيد" و"مجالس الطوسيّ" عن حذلم بن ستير أنّه قال: "قدمتُ الكوفة في المحرّم سنة إحدى وستين، عند منصرف عليّ بن الحسين (عليهما السلام) بالنسوة من كربلاء،

____________

1- بحار الأنوار ١١٤:٤٥.

2- الحِلْسُ للبعير: وهو كساءٌ رقيق يكون تحت البَرذَعَةِ. الصحاح ٩١٩:٣ "حلس".

3- القَتَبُ، بالتحريك: رَحلٌ صغير على قدر السَنام. الصحاح ١٩٨:١ "قتب".

4- اللهوف "الملهوف": ١٨٩.


الصفحة 17

ومعهم الأجناد يحيطون بهم، وقد خرج الناس للنظر إليهم، فلمّا اُقبل بهم على الجمال بغير وطاء، جعل نساء الكوفة يبكين ويندبن(1).

وقال الشيخ عباس القميّ في "منتهى الآمال": "لم يَردْ ذكرُ المحامل والهودج في خبر غير خبر مسلم الجصّاص... وقد نُقل في المقاتل المعتبرة أنّ العائلة حملوهم على الجمال بغير وطاء، ومعهم الأجناد يحيطون بهم، خوفاً من الفتنة؛ لأنّ الكوفة فيها كثير من الشيعة"(2).

ثانياً: إنّ هذه الرواية تضمّنت مقطوعتين شعريّتين: إحداهما للإمام زين العابدين علي بن الحسين (عليهما السلام)، والثانية للعقيلة زينب (عليها السلام). والذي يراجع هذه الأبيات الشعريّة يجد فيها ركّة في التعبير وصياغة الألفاظ، ومعانٍ يبعد صدورها من أهل البيت (عليهم السلام).

فالإمام السجّاد (عليه السلام) عرف بقوّة بلاغته، والصحيفة السجاديّة خير شاهد على ذلك. وكذلك عقيلة الهاشميين، العالمة غير المعلّمة، الفصيحة البليغة، بنت سيّد البلاغة العربيّة وواضع اُسسها أمير المؤمنين (عليه السلام)، وخطبها في الكوفة والشام والمدينة دالّة على ذلك.

هذا إذا سكتنا عن منزلة العصمة لهما، وتعاملنا معهما منزلة عموم البشر.

ثمّ إنّ بعض هذه الأبيات الشعريّة منسوبة لمحمّد بن حمّاد، المعاصر للعلّامة المجلسيّ، كما قال العلّامة السيّد محسن الأمين (ت ١٣٧١ هـ) في "أعيان الشيعة"، إذ ذكر مقطوعة شعريّة تقع في تسعة أبيات، والبيتان الثامن والتاسع نُسبا في رواية مسلم الجصّاص لزينب (عليها السلام)، والمقطوعة الشعريّة هي:


إنّ يومَ الطفوف لم يبق لي منلَذّة العيش والرقاد نصيبا
يومَ سارت إلى الحسين بنو حرببجمعٍ فنازلوه الحُروبا
وحموه من الفرات فما ذَلفسوى الموتَ دونه مشروبا
في رجالٍ باعوا النفوسَ على اللهِفنالوُا ببيعها المرغُوبا
فكأنّي بصُحبهِ حولَه صَرعىلدى كربلا شبابا وشيبا
وكأنّي بزينب إذ رأتهُعارياً دامَي الجبين تَريبا
كنتَ حُصني من الزمان إذا ماخفتُ خطباً دفعتَ عنّي الخُطوبا
يا هلالاً لمّا استتبَ كمالاًغالَهُ خسفه فأهوى غُروبا
ما توهّمتُ يا شقيقَ فُؤاديكانَ هذا مُقدّراً مكتُوبا(3)

كذلك فعلَ السيّد جواد شبر في "أدب الطفّ"، إذ أورد هذين البيتين ضمن مقطوعة شعريّة تقع في خمسة وثلاثين بيتاً، ونسبها لمحمّد بن حمّاد الحلّي، من أعلام أواخر القرن التاسع، ومطلعها:


ويك يا عين سحِّ دمعاً سكوباويك يا قلب كن حزيناً كتيبا(4)

____________

1- العوالم "الإمام الحسين (عليه السلام)" ١٧ :٣٧١ ، نقلاً عن: أمالي المفيد: ٣٢٠ حديث ٨، وأمالي الطوسي ٩٠:١، وبحار الأنوار ٤٥: ١٦٤حديث ٨ .

2- منتهى الآمال (ضمن مؤلفاته الكاملة) ٢١: ٨٣٢ .

3- أعيان الشعية ٩: ٢٦٢ .

4- أدب الطفّ ٤: ٣٠٩ .


الصفحة 18

ثالثاً: يستشكل البعض على ورود كلمة "النطح" في هذه الرواية، على أنّها مخصوصة بالحيوانات (الكباش)، وبعيدة عن الذوق العربي، وفيها ما يُشين ويحطّ من كرامة العقيلة زينب (عليها السلام).

ويمكن الجواب على هذا الإشكال، بأنّ هذه الكلمة وإن كانت مستعملة كثيراً ومشهورة للحيوانات، إلّا أنّها تُطلق على غيرها أيضاً، فيقال: نطحه: أي دفعه وأزاله، ونطحَ فلاناً عن كذا: أي دفعه وأزاله. وتناطحت الأمواج والسيول: تلاطمت وتضاربت. وكناطح صخرة: يضرب في المكابرة لمن يحاول المستحيل.

قال الفراهيدي (ت ١٧٥ هـ) في "كتاب العين": "النَّطْحُ للكباش ونحوها. وتَناطَحَتِ الأمواج والسيول والرجال في الحرب"(1).

وقال الجوهري (ت ٣٩٣ هـ) في "الصحاح": "نَطَحَهُ الكبش ينطحُهُ نطحاً. وانتطَحَتِ الكباش وتَنَاطَحَتْ، وكبشٌ نطَّاحٌ"(2).

____________

1- كتاب العين ٣: ١٨٠٦ "نطح".

2- الصحاح ١: ٤١٢ "نطح".


الصفحة 19

وقال ابن منظور (ت ٧١١ هـ) في "لسان العرب": "النطح للكباش ونحوها ... ويُقْتاس من ذلك تَنَاطحْتِ الأمواجُ والسيولُ والرجالُ في الحرب"(1).

وقال الفيروزآبادي الشيرازي (ت ٨١٧ هـ) في "القاموس المحيط": "نَطَحَهُ كمنعه وضربه: أصابه بقرنه. وانتطَحَتِ الكباشُ: تناطَحت. والنَطيحةُ: التي ماتَت منه"(2).

لكن الإشكال يبقى وارداً، واستعمال الكلمة هنا من قبل الراوي مسلم الجصّاص، في غير محلّها؛ إذ الأصل واحد في المادة: وهو الطعن بقرن في الثور والكبش والعنز وغيرها. وتستعمل مجازاً للرجال في الحرب، وكذا للأمواج والسيول.

رابعاً: يسشتكل البعض على فعلِ العقيلة زينب (عليها السلام)، إذ كيف تضرب رأسها بمقدّم المحمل؟! وقد أوصاها الإمام الحسين (عليه السلام) بالصبر وعدم الجزع، وهي العالمة غير المعلّمة والفهمة غير المفهمة، بل هي معصومة لا بمعنى واجبة العصمة.

قال السيّد ابن طاووس في "اللهوف": إنّ الإمام الحسين (عليه السلام) خاطبها قائلاً: "يا اُختاه، تعزّي بعزاء الله، فإنّ سكانَ السماوات يموتون، وأهلَ الأرض لا يبقون، وجميعَ البريّة يهلكون".

____________

1- لسان العرب ١٤: ١٨٤ "نطح".

2- القاموس المحيط ١: ٣٤٨ "نطح".


الصفحة 20

ثمّ قال (عليه السلام): "يا اُختاه يا أمَّ كلثوم، وأنتِ يا زينب، وأنتِ يا رقية، وأنتِ يا فاطمة، وأنتِ يا رباب، اُنظرنَ إذا أنا قُتلت فلا تشققنَ عليَّ جيباً، ولا تخمشنَ عليّ وجهاً، ولا تقلنَ عليّ هجراً"(1).

قال المحدّث الشيخ عباس القميّ في "منتهى الآمال": مع أنّ نسبة شجّ الرأس إلى السيّدة زينب (عليها السلام)، بعيدة أيضاً عن هذه المخدّرة، عقيلة الهاشميّين، العالمة غير المعلّمة، رضيعة ثدي النبوة، صاحبة مقام الرضى والتسليم(2).

ويجاب على هذا الإشكال: إنّ ما قامت به العقيلة زينب (عليها السلام)، من ضرب جبينها بمقدّم المحمل، إنّما كان سبَبهُ الجزع على مصاب المولى أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)، هذا المصاب الذي يحقّ أن تشق القلوب لأجله،

لا تضرب الرؤوس فقط.

والجزع على الحسين (عليه السلام) مستحبٌ ومأجور فيه فاعله، كما ورد عن عليّ بن أبي حمزة، عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: إنّ البكاءَ والجزعَ مكروه للعبد في كلِّ ما جزعَ، ما خلا البكاء على الحسين بن علي (عليهما السلام)، فإنّه فيه مأجور(3).

ومن المعلوم أنّ إيلام النفس غير المؤدّي إلى الهلاك، لا ديليل على عدم جوازه. وقد بيّن الإمام الباقر (عليه السلام) معنى الجزع في رواية جابر عنه إذ قال:

____________

1- اللهوف "الملهوف": ١٤١.

2- منتهى الآمال "ضمن مؤلّفاته الكاملة" ٢١: ٨٣٢ .

3- كامل الزيارات: ٢٠٢ حديث ٥.


الصفحة 21

سألته: ما الجزع؟ قال: "أشدّ الجزع الصّراخ بالويل والعويل، ولطم الوجه والصدر، وجزّ الشعر من النواصي"(1).

وإذا أضفنا إلى هذا قولَ الإمام الصادق عليه السلام، في رواية خالد بن سدير عنه، إذ قال: "وقد شققنَ الجيوب ولَطمن الخُدود الفاطميّات على الحسين بن علي، وعلى مثله تُلطم الخُدود وتُشقّ الجيوب"(2)، يتّضح أنّ ما قامت به العقيلة (عليها السلام)، نابع من العشق الحسينيّ، والمحبّة والوله لأبي عبد الله (عليه السلام)، والجزع لمصابه العظيم.

خلاصة البحث

تبيّن ممّا تقدّم من الكلام، أنّ هذه الرواية: مجهولة المصدر، مجهولة الراوي، مرسلة، في متنها عدّة إشكالات، لذا لم نجد من الفقهاء ـ إلّا ما ندر ـ من استندَ إليها كدليل مستقلّ، بل أوردوها من باب المؤيّد والشاهد والمؤكّد للدليل الدالّ على جواز أو استحباب ضرب الرؤوس وشجّها على المولى أبي عبد الله الحسين (عليه السلام).

وهناك فرقٌ كبير بين الاستناد إلى رواية كدليلٍ مستقلّ، وبين ذِكرها كشاهد ومؤيّد يدعم دليل الجواز أو الاستحباب. ولا يوجد أيّ محذور من إيراد الرواية غير المعتبرة سنداً كمؤيّد إذا كان مضمونها لا يتنافى مع الدليل، بل هو منسجم مع منهج علمائنا.

____________

1- الكافي ٣ : ٢٢٢ حديث ١ باب "الصبر والجزع والاسترجاع".

2- التهذيب ٨ : ٤٤٩ حديث ١٩٩.


الصفحة 22

لذا نجد أنّ بعض الأعلام استأنسَ بها، بل صحّحها، وجعلَ ما قامت به العقيلة إنّما هو مصداق من مصاديق الجزع الذي لا يؤدّي إلى تلف النفس. ونحن ننقل هنا عبارات بعض الأعلام في مؤلّفاتهم عن الشعائر الحسينيّة، التي جمعناها وحقّقناها في مجموعة "رسائل الشعائر الحسينيّة":

١- قال الشيخ عبد الله المامقاني (ت ١٣٥١ هـ) في رسالته "المواكب الحسينيّة":

"ويمكن الاستيناس لإدماء الرأس بالسيف والسلسلة، بضرب زينب جبينها بمقدّم المحمل، وسيلان الدم من تحت قناعها"(1).

٢- قال الشيخ حسن المظفّر (ت ١٣٨٨ هـ) في رسالته "نصرة المظلوم":

ولقد كان شيخنا العلّامة شيخ الشريعة (ت ١٣٣٩ هـ) (قدس سره)، بهذا الاعتبار (2) وبتلك الأخبار، يصحّح الخبر المرسل الذي استبعده بعض العظماء، من أنّ عقيلة عليّ الكبرى لمّا لاح لها رأس الحسين (عليه السلام) وهو على رمح، والريح تلعب بكريمته، نطحت جبينها بمقدّم المحمل حتّى سال الدم من تحت قناعها.

____________

1- المواكب الحسينيّة (المطبوعة ضمن المجموعة)٢: ٢٤٢.

2- باعتبار أنّ "كلّ الجزع والبكاء مكروه سوى الجزع والبكاء على الحسين (عليه السلام)" انظر: أمالي الشيخ الطوسي١: ١٦٢. كامل الزيارات: ٢٠٢ حديث ٥.

وباعتبار تحديد أشدّ الجزع بالصراخ بالويل والعويل، ولطم الوجه والصدر، وجزّ الشّعر من النّواصي. انظر الكافي٣: ٢٢٢ حديث ١.


الصفحة 23

ويقول العلّامة شيخ الشريعة (قدس سره): "إنّه لا استبعاد فيه إلّا من جهة ظهور الجزع منها وإيلام نفسها، والإيلام غير المؤدّي إلى الهلاك لا دليل على عدم جوازه، والجزع مندوب إليه ومرغب فيه في كثير من الأخبار(1) ..."(2).

٣- قال الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء (ت ١٣٧٣ هـ) في كتابه "الفردوس الأعلى":

وعلى هذا(3) يُحمل ما صدر من الأعمال ونظائر هذه الأفعال من أهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام)، مثل ما نُقل عن العقيلة الكبرى والصدّيقة الصغرى زينب (عليها السلام)، من أنّها نطحت جبينها بمقدّم المحمل حتّى سال الدم من تحت قناعها(4).

٤- قال الشيخ عبد الرضا كاشف الغطاء (ت ١٣٨٧ هـ) في كتابه "الأنوار الحسينيّة":

____________

1- انظر وسائل الشيعة ١٤: ٥٠٠ باب ٦٦ من أبواب المزار وما يناسبه "باب استحباب البكاء لقتل الحسين وما أصاب أهل البيت (عليهم السلام) ...".

2- نصرة المظلوم (المطبوعة ضمن المجموعة) ٢: ٤٠٠.

3- قال (رحمه الله) قبل إيراده هذه العبارة: "هذه الأعمال والأفعال إن صدرت من المكلّف بطريق العشق الحسينيّ والمحبّة والوله لأبي عبد الله (عليه السلام) نحو الحقيقة والطريقة المستقيمة، وانبعثت من احتراق الفؤاد وانتقال نيران الأحزان في الأكباد بمصاب هذا المظلوم ريحانة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، المصاب بتلك الرزية، بحيث تكون خالية ومبرّأة من جميع الشوائب والتظاهرات والأغراض النفسانيّة، فلا يبعد أن يكون جائزاً، بل يكون من القربات وأجلّ العبادات".

4- الفردوس الأعلى (المطبوع ضمن المجموعة) ٤: ٣٨٥.


الصفحة 24

"ويمكن ـ لك أيّها الضالع ـ الاستيناس لجواز إدماء الرؤوس بالسيوف والقامات والسلاسل، من أنّ عقيلة عليّ الكبرى زينب (عليها السلام)، لمّا لاحَ لها رأس الحسين (عليه السلام) وهو على رمح طويل، والريح تلعب بكريمته، نطَحَت جبينها بمقدّم المحمل حتّى سال الدم من تحت قناعها"(1).

٥- قال السيّد مرتضى ابن السيّد عليّ الداماد (ت القرن الرابع العشر) في كتابه "الأعلام الحسينيّة":

وهذه الصّديقة الصغرى زينب (عليها السلام)، التي حملت أسرار آل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهمّ علماء الشريعة والسلوك، وأئمة اُسس الحكمة، وأساطين علماء الحقيقة المتعالية، والمراتب الجلية، الطاهرة المعصومة، التي جعلوا شأنها كشأن إبراهيم الخليل (عليه السلام)، وعدّوا قولها وفعلها وتقريرها حجّة كالإمام، نطحت جبينها بمقدّم محملها حتّى سال الدم من تحت المحمل.

وقد توهّم بعض من لا علم له ـ بلا علم ولا تفحّص ـ في أنّ "نطحت" فعل مجهول، ولكنّ النطح غير الدقّ؛ لأنّ الدقّ يقع في حالتي الاختيار والاضطرار، إضافةً إلى أنّ سياق الخبر يأبى عن وجود مثل هذا التوهّم، كما لا يخفى ذلك على المنصف غير المتعسّف المتأمّل في الخبر(2).

٦- قال الشيخ عبد الحسين قاسم الحلّي (ت ١٣٧٥ هـ) في رسالته

"النقد النزيه لرسالة التنزيه":

____________

1- الأنوار الحسينيّة والشعائر الإسلامية (المطبوعة ضمن المجموعة) ٣: ٣٥١.

2- الأعلام الحسينيّة (المطبوع ضمن المجموعة) ٤: ٢٢.


الصفحة 25

وبهذا الاعتبار كان بعض العظماء يصحّح المرسل المتضمّن لكون بعض عيال الحسين (عليه السلام) ممّن لا يشكّ في عصمتها وعظمتها، لمّا لاح لها رأسه "نطحت جبينها بمقدّم المحمل حتّى سال دمها"، إذ أنّ ذلك لا بُعد فيه إلّا من جهة ظهور الجزع منها وإيلام نفسها. والإيلام غير المؤدّي إلى الهلاك أو المرض لا دليل على حرمته، والجزع مندوب ومرغب فيه في الأخبار الكثيرة، بل الظاهر من الأخبار جواز الهلع أيضاً، وهو على ما ذكره أئمة اللغة: أفحش الجزع وأشدّه(1).

٧- قال السيّد مهدي السويج الخطيب (ت ١٤٢٣ هـ) في رسالته "الفتاوى والتقارير":

ويحدّثنا أهل المقاتل والسير، أنّ العالمة غير المعلّمة، زينب بنت علي (عليه السلام)، لمّا رأت رأس أخيها الحسين (عليه السلام) نطحت رأسها بمقدّم المحمل، حتّى سال الدم من تحت قناعها، وكان ذلك بمرأى ومسمع من الإمام زين العابدين (عليه السلام)، فلم ينكر عليها ذلك، بل أيّدها وساعدها في النوح على الحسين (عليه السلام) وتحمّل الآلام في سبيله(2).

____________

1- . النقد النزيه لرسالة التنزيه (المطبوع ضمن المجموعة) ٦: ٢١٣.

2- الفتاوى والتقارير في جواز العزاء والشبيه والسلاسل والتطبير (المطبوعة ضمن المجموعة) 6: 501.


الصفحة 26

مصادر البحث

١- أدب الطفّ، للسيّد جواد شبر، دار المرتضى ـ بيروت ١٤٠٩هـ .

٢- أعيان الشيعة، للسيّد محسن الأمين (ت ١٣٧١ هـ)، المطبعة الإسلامية ـ طهران ١٣٨٥ هـ .

٣- بحار الأنوار، للعلّامة المجلسيّ (ت ١١١١ هـ)، المطبعة الإسلامية ـ طهران ١٣٨٥ هـ .

٤- ترتيب كتاب العين، للخليل أحمد الفراهيدي (ت ١٧٥ هـ)، اُسوة ـ طهران ١٤١٤ هـ .

٥- تهذيب الأحكام، للشيخ الطوسي (ت ٤٦٠ هـ)، تحقيق علي أكبر عقاري، مكتبة الصدوق ـ قم ١٤١٨ هـ .

٦- الدراية في علم الأصول، للشهيد الثاني زين الدين الجبعي (ت ٩٦٥ هـ)، مطبعة النعمان ـ النجف الأشرف.

٧- الذريعة، أقا بزرك الطهراني (ت ١٣٨٩ هـ)، دار الأضواء بيروت.

٨- رسائل الشعائر الحسينيّة، لمجموعة من المؤلّفين، جمع وتحقيق الشيخ محمّد الحسّون، دار الرافد ١٣٤٢ هـ .

٩- الصحاح تاج اللغة، لإسماعيل بن حمّاد الجوهري (ت ٣٩٣ هـ) دار العلم للملايني ـ بيروت ١٤٠٧ هـ .


الصفحة 27

١٠- عوالم العلوم والمعارف والأحوال، للشيخ عبد الله البحراني (ت ١١٣٠ هـ)، مدرسة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) ـ قم ١٤٢٥ هـ .

١١- القاموس المحيط، للفيرزآبادي (ت ٨١٧ هـ)، دار الكتب العلميّة ـ بيروت ١٤٢٠ هـ .

١٢- الكافي، لثقة الإسلام الكليني (ت ٣٢٨ هـ)، دار الكتب العلميّة ـ طهران ١٣٧٥ هـ ش.

١٣- كامل الزيارات، لابن قولويه (ت ٣٦٨ هـ)، نشر الفقاهة ـ قم ١٤١٧ هـ .

١٤- لسان العرب، لابن منظور (ت ٧١١ هـ)، دار إحياء التراث العلمي العربي ـ بيروت ١٤١٩ هـ .

١٥- اللهوف (الملهوف) على قتلى الطفوف، دار اُسوة ـ قم ١٤١٧هـ .

١٦- مستدركات علم الرجال، للشيخ علي النمازي الشاهرودي (ت ١٤٠٥ هـ) مطبعة حيدري ـ طهران ١٤١٥ هـ .

١٧- معجم المطبوعات العربيّة والمستعربة، ليوسف الياس سركيس (ت ١٤١٢ هـ)، افسيت المكتبة المرعشية ـ قم ١٤١٠ هـ .

١٨- المنتخب، لفخر الدين الطريحي النجفي (ت ١٠٨٥ هـ)، الشريف الرضي ـ قم ١٣٦٨ هـ .

١٩- منتهى الآمال، للشيخ عباس القميّ (ت ١٣٥٩ هـ)، المطبوعة ضمن مجموعة آثاره ـ ايران ١٣٨٩ هـ ش.


الصفحة 28

٢٠- نو العين في مشهد الإمام الحسين، للاسفرايني (ت ٤١٨ هـ)، مكتبة المنار ـ تونس.

٢١- هدية العارفين (المطبوع مع كشف الضنون)، لاسماعيل باشا البغدادي (ت ١٣٣٩ هـ)، دار الفكر ـ بيروت ١٤٠٢ هـ .

٢٢- ينابيع المودة، لسلمان القندوزي، اُسوة ـ طهران ١٤١٦ هـ .

والحمد لله أوّلاً وآخراً، اللهمّ اغفر لنا، ووفّقنا لما فيه خير الدنيا والآخرة.

محمّد الحسّون

١١ شهر رمضان المبارك ١٤٣٨ هـ

هـ البريد الإلكتروني: Muhammad@aqaed.com

الصفحة على الإنترنيت: www.aqaed.com/muhammad