الصفحة 1

مقالة إلى المؤتمر العالمي الثالث للإمام الكاظم(عليه السلام)

دور الإمام الكاظم(عليه السلام)

في ترسيخ العقيدة من خلال بعض مناظراته

الشيخ محمّد الحسّون

مدير مركز الأبحاث العقائدية

إيران – قم المقدسة – صفائية – ممتاز رقم34

ص – ب 3331/ 37185

الهاتف: 00982517742088 – الفكس: 00982517742056

موبايل: 00989125532710

الصفحة على الانترنيت: http://www.aqaed.com/muhammad

البريد الالكتروني: muhammad@aqaed.com


الصفحة 2

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، نبيّنا ومقتدانا وحبيب قلوبنا، النبيّ المصطفى محمّد(صلى الله عليه وآله) وعلى أهل بيته الطيبيّن الطاهرين، الذي أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا.

الحمد لله على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضي الربّ لنا الإسلام ديناً بولاية سيّدنا ومولانا علي بن أبي طالب(عليه السلام)، وأولاده المعصومين(عليهم السلام).

لا يخفى على القارئ الكريم ما يتعرّض له أتباع مذهب أهل البيت(عليهم السلام) من حملة شرسة وهجوم كبير، وعلى مختلف الأصعدة والمستويات: العلمية والثقافية والإعلامية، بل وصل الأمر إلى هدم مساجد وحسينيات ومراقد طاهرة لأولياء الله تعالى، بل إراقة دم المسلم ؛ لا سبب، بل لانتمائه لمذهب أهل البيت(عليهم السلام).

وفي السنوات الأخيرة تصاعدت الهجمة الإعلامية على مذهب الحقّ، المتمثّلة بإثارة شبهات وطرح أسئلة تتعلّق بعقيدة الشيعة الإمامية، حتى وصل الأمر إلى إنشاء فضائيات ومواقع الكترونية وغرف خاصة في الانترنيت، هدفها الأوّل النيل من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) وأتباعه.

وقد تصدّى أتباع المذهب الحقّ لهذه الهجمة الشرسة، وأخذوا يُجيبون على هذه الشبهات والإشكالات، من خلال مناظرات وحوارات علميّة، هدفها تعريف المخالف بأحقيّة دعوتنا وفكرنا واعتقادنا بأئمة أهل البيت(عليهم السلام).

لكنّ الملاحظ أنّ الكثير من هذه الفضائيات والمواقع والغرف، لم تتبّع المنهج العلمي في الحوار والأسس المنطقية الصحيحة التي تبنى عليها المناظرة ؛ لأنّ هدفهم لم يكن

الصفحة 3
الوقوف على الحقيقة ومعرفة الصحيح من المذاهب الإسلامية.

وفي نفس الوقت نُشاهد أتباع مدرسة الإمامة قد طبّقوا ما تعلّموه من علمائهم وأئمتهم(عليهم السلام) فيما يتعلّق بالحوار والمناظرة الصحيحة، لذلك كان النصر حليفهم دوماً في كل المجالات العلمية والثقافية.

وأنا هنا أغتنم هذه الفرصة المباركة – انعقاد المؤتمر العالمي الثالث للإمام الكاظم(عليه السلام)، الذي تقيمه العتبة الكاظمية المقدسة – لكي أقدّم مقالة متواضعة تتعلّق بدور الإمام الكاظم(عليه السلام) في ترسيخ العقيدة الصحيحة من خلال محاوراته ومناظراته العلمية، وقد جعلتها مقالة مختصرة طبقاً للشروط التي وضعتها الجنة المشرفة على هذا المؤتمر ومن الله أستمد العون والمغفرة.

أئمة أهل البيت(عليهم السلام) أسوتنا

اختلف المسلمون بعد رحيل المصطفى(صلى الله عليه وآله) إلى قسمين:

الأوّل: قالوا بإمامة وخلافة علي بن أبي طالب(عليه السلام)، ومن بعده بإمامة ولديه الحسن والحسين والتسعة المعصومين من ولد الحسين(عليهم السلام)، وهم الشيعة الإمامية الذين يأخذون أحكامهم في هذه الأيام من مراجعهم الكرام.

الثاني: قالوا بخلافة أبي بكر ومن بعده عمر بن الخطّاب وعثمان بن عفّان وعلي بن أبي طالب(عليه السلام)، ثمّ آمنوا بخلافة بني أميّة وبني العباس، وهم أتباع مدرسة الخلافة الذين انحصرت مذاهبهم الآن في أربعة هي: الحنفيّة، والمالكيّة، والشافعيّة، والحنبليّة.

والسبب الرئيسي في الاختلاف بين المسلمين يعود إلى مسألة علمية عقائدية تتعلّق بمنصب الإمام والخلافة بعد النبي(صلى الله عليه وآله)، هل هو منصب تعيني من الباري عزّ وجلّ، أو انتخابي بيد المسلمين؟

فالشيعة الإمامية يذهبون إلى أنّه منصب تعييني من الله سبحانه، شأئه شأن النبوة في هذه الخصوصية، أيّ أنّ الله سبحانه وتعالى مثلما انتخب بعض الأشخاص وبعثهم أنبياء، كذلك

الصفحة 4
اختار بعض الأشخاص وجعلهم أئمة بعد النبي(صلى الله عليه وآله)، يجب على الأمّة الإسلامية اتّباعهم.

ولأصحاب هذا الرأي أدلّة كثيرة من مصدري التشريع الإسلامي: الكتاب والسُنّة، كآية المباهلة والتطهير والولاية، وحديث الدار والغدير والثقلين والطائر المشوي والمنزلة، إضافة للدليل العقلي القائل بوجوب الاعتقاد بعصمة وإمامة علي بن أبي طالب(عليه السلام) وأولاده المعصومين(عليهم السلام).

وكذلك لأتباع مدرسة الصحابة أدلّتهم على معتقدهم.

ولستُ بصدد الدخول في هذا الموضوع الآن، وبيان صحّة أدلّتنا وحججنا على معتقدنا، لكن الذي أريد أن أقوله – بناءً على ما قدّمته في الأسطر السابقة – أنّنا ملزمون بإتباع أئمتنا(عليهم السلام) في كلّ أمورنا، والتي منها كيفيّة المناظرة والمحاولة مع المخالفين لنا، بل كيف تعامل أئمتنا(عليهم السلام) مع من خالفهم في الأمور الاجتماعية العامة.

تعامل الأئمة(عليهم السلام) مع المخالفين:

الدين الإسلامي دين هدى ورحمة، وقد ﴿كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ(1)، وأرسل نبيّه رحمة للناس كافة ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (2)، وجعل الكتاب العزيز ﴿هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ، وجعل ﴿آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ (3)، وأراد الباري عزّ وجلّ لهذه الأمّة أن تكون أمّة واحدة تعبد الله سبحانه وتعالى على دين واحد ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (4)،﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (5) .

____________

1- الأنعام (6): 12.

2- الأنبياء (21): 107.

3- لقمان (31): 2 - 3.

4- الأنبياء (21): 92.

5- المؤمنون (23): 52.


الصفحة 5
وفعلاً، فقد حافظت هذه الأمّة على الكثير من المشتركات بينها وإن اختلفت في أمور مهمة، ممّا أدى ذلك إلى انقسامها إلى عدّة مذاهب وطوائف، اضمحل الكثير منها، وبقي الجامع بينهم هو الإسلام المحمّدي، الذي يحفظ دم المسلم وعرضه وماله، تمسكاً بقوله(صلى الله عليه وآله): (المسلم أخو المسلم حرام دمه وماله وعرضه).

وقد وصّانا أئمة أهل البيت(عليهم السلام) بضرورة المعاشرة الحسنة مع باقي المسلمين وإن اختلفوا معنا في المذهب، ولا أريد أن أطيل الكلام في هذا الموضوع، بل دعونا نمرّ سريعاً على بعض أقوال أئمتنا(عليهم السلام) المتعلّقة بهذا الموضوع:

قال الإمام الصادق(عليه السلام) وهو يوصي شيعته: (خالقوا الناس بأحسن أخلاقكم، صلّوا في مساجدهم، وعودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم)(1) .

وقال الإمام العسكري(عليه السلام): (قولوا للناس كلّهم حُسنا، مؤمنهم ومخالفهم، أمّا المؤمنون فيبسط لهم وجهه، وأمّا المخالفون فيكلّمهم بالمداراة لاجتذابهم إلى الإيمان)(2) .

وقالت فاطمة الزهراءعليها السلام: (بُشر في وجه المؤمن يوجب لصاحبه الجنّة، وبُشر في وجه المعاند يقي صاحبه عذاب النار).

وقال الإمام الجواد(عليه السلام): (من أطاب الكلام مع موافقيه ليؤنسهم، وبسط وجهه لمخالفيه ليأمنهم على نفسه وإخوانه، فقد حوى من الخيرات والدرجات العالية عند الله مالا يقدر قدره غيره).

بل ذهب أئمتنا(عليه السلام) إلى أكثر من ذلك، فأمرونا مداراة أعداء الله تعالى وقت الضرورة فقد ورد عن المعصوم(عليه السلام) : (إنّ مداراة أعداء الله من أفضل صدقة المرء عن نفسه وإخوانه).

وقال الإمام الحسن(عليه السلام): (قال سول الله(صلى الله عليه وآله): إنّ الأنبياء إنّما

____________

1- دعائم الإسلام 1: 66.

2- ورد هذا الحديث، والأحاديث التي بعده في التفسير المنسوب للإمام العسكري(عليه السلام): 142.


الصفحة 6
فضلّهم الله على خلقه أجمعين بشدّة مداراتهم لأعداء دين الله، وحسن تقيّتهم لأجل إخوانهم في الله).

وقول أمير المؤمنين(عليه السلام): (الناس صنفان : إما أخ لك في الخلق أو نظير لك في الدين) مشهور ومعروف وفيه دلالات كثيرة.

مشروعية المناظرة:

مشروعية الحوار والمناظرة والاحتجاج مأخوذة من مصدري التشريع الإسلامي : الكتاب، والسنّة:

قال تبارك وتعالى: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (1).

وقال: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (2).

وقال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ (3).

وقال النبي(صلى الله عليه وآله): (نحن المجادلون في دين الله على لسان سبعين نبياً)(4).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام): (خاصموهم وبيّنوا لهم الهدى الذي أنتم عليه، وبيّنوا لهم ضلالهم وباهلوهم في علي)(5) .

وهناك روايات كثيرة تبيّن أجر وثواب العلماء الذين يحاجّون المخالفين ويردّون شبهاتهم، وردت في الكتب الحديثة.

وقد ربّى أئمتنا(عليهم السلام) مجموعة من تلاميذهم على المناظرة الصحيحة، خصوصاً في زمن الإمام الصادق(عليه السلام)، منهم: حمران بن أعين، وقيس بن ماصر، ومؤمن

____________

1- النحل (16): 125.

2- العنكبوت (29): 46.

3- البقرة (2): 258.

4- الاحتجاج 1: 6.

5- الفصول المختارة: 284.


الصفحة 7
الطاق، وهشام بن سالم، وزرارة بن أعين و...

إذاً فالاحتجاج في باب المعارف مشروع، سواء كان الهدف منه إقناع النفس وهدايتها أو إقناع الغير.

وقد يتصوّر البعض أنّ المناظرة منهيّ عنها ؛ لما قد يظهر من نصوص القرآن والسنّة، وأنّ النبي والأئمة عليهم لم يناظروا ولم يجادلوا المخالفين لهم، وهذا خطأ قطعاً ؛ إذ أنّ المنهيّ عنه هو الجدال بالباطل، أمّا المناظرة المبنيّة على الأسس الصحيحة فمطلوبة ومستحبة، بل قد تكون واجبة في بعض الأحيان، ذلك ظاهر من بعض النصوص:

قال الحسن بن علي العسكري(صلى الله عليه وآله): ذُكر عند الصادق(عليه السلام) الجدال في الدّين، وأن رسول الله(صلى الله عليه وآله) والأئمة(عليهم السلام) نهوا عنه.

فقال الصادق(عليه السلام): لم ينه عنه مطلقاً، ولكنّه نهى عن الجدال بغير التي هي أحسن، أما تسمعون الله عزّ وجلّ يقول ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (1).

وقوله: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (2).

فالجدال بالتي هي أحسن قد قرنه العلماء بالدين، والجدال بغير التي هي أحسن محرّم، حرّمه الله على شيعتنا، وكيف يحرّم الله الجدال جملة وهو يقول: ﴿وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى (3)، وقال الله تعالى: ﴿تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (4).

فجعل علم الصدق والإيمان بالبرهان، وهل يؤتى ببرهان إلا في الجدال بالتي هي أحسن؟

____________

1- العنكبوت (29): 46.

2- النحل (16): 125.

3- البقرة (2): 111.

4- البقرة (2): 111.


الصفحة 8
فقيل: يابن رسول الله! فما الجدال بالتي هي أحسن والّتي ليست بأحسن؟

قال: أمّا الجدال بغير التّي هي أحسن فأن تجادل به مبطلاً فيورد عليك باطلاً، فلا تردّه بحجّة قد نصبها الله، ولكن تجحد قوله أو تجحد حقاً، يريد ذلك المبطل أن يعين به باطله، فتجحد ذلك الحقّ مخافة أن يكون له عليك فيه حجّة ؛ لأنّك لا تدري كيف المخلص منه، فذلك حرام على شيعتنا أن يصيروا فتنة على ضعفاء إخوانهم وعلى المبطلين.

أمّا المبطلون فيجعلون ضعف الضعيف منكم إذا تعاطى مجادلته، وضعف ما في يده حجة له على باطله.

وأمّا الضعفاء منكم فتغمّ قلوبهم لما يرون من ضعف المحقّ في يد المبطل.

وأمّا الجدال بالتي هي أحسن، فهو ما أمر الله تعالى حاكياً عنه: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (1)، فقال الله تعالى في الردّ عليه: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ (2)، إلى آخر السورة.

فأراد الله من نبيّه أن يجادل المبطل الذي قال: كيف يجوز أن يبعث هذه العظام وهي رميم؟ فقال تعالى: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ أفيعجز من ابتدأ به لا من شيء أن يعيده بعد أن يبلى؟ بل ابتداؤه أصعب عندكم من إعادته.

ثم قال: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا أي إذا كان قد كمن النار الحارّة في الشجر الأخضر الرطب، ثم يستخرجها فعرّفكم أنّه على إعادة ما بلي أقدر.

ثم قال: ﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (3) أي إذا كان خلق السماوات والأرض أعظم وأبعد في أوهامكم وقدّركم أن تقدروا عليه من إعادة البالي، فكيف جوّزتم من الله خلق هذا الأعجب عندكم،

____________

1- يس (36): 78 .

2- يس (36): 79 – 80 .

3- يس (36): 81 .


الصفحة 9
والأصعب لديكم، ولم تجوّزوا منه خلق ما هو أسهل عندكم من إعادة البالي؟

فقال الصادق(عليه السلام): فهذا الجدال بالتي هي أحسن، لأن فيها قطع عذر الكافرين وإزالة شبههم.

وأمّا الجدال بغير التي هي أحسن، فأن تجحد حقّاً لا يمكنك أن تفرّق بينه وبين باطل مَن تجادله، وإنّما تدفعه عن باطله بأن تجحد الحقّ، فهذا هو المحرّم ؛ لأنك مثله، جحد هو حقّاً وجحدت أنت حقّاً آخر.

وقال أبو محمّد الحسن العسكري(عليه السلام): فقام إليه رجل آخر وقال: يابن رسول الله(صلى الله عليه وآله)، أفجادلَ رسولُ الله؟

فقال الصادق(عليه السلام): مهما ظننت برسول الله من شيء فلا تظننّ به مخالفة الله، أليس الله قد قال: ﴿وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وقال: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ لمن ضرب الله مثلا، أفتظن أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) خالف ما أمره الله به، فلم يجادل بما أمره الله به ولم يخبر عن أمر الله بما أمره أن يخبر به عنه(1) ؟

قال السيد المرتضى: قلت للشيخ المفيد أدام الله عزّه: إنّ المعتزلة والحشوّية يزعمون أنّ الذي نستعمله من المناظرة شيءٌ يخالف أصول الإمامية، ويخرج عن إجماعهم ؛ لأنّ القوم لا يرون المناظرة ديناً، وينهون عنها، ويروون عن أئمتهم بتبديع فاعلها، وذمّ مستعملها، فهل معك رواية عن أهل البيت(عليهم السلام) في صحّتها، أم تعتمد على حجج العقول، ولا تلتفت إلى مَن خالفها وإن كان عليه إجماع العصابة؟

فقال: أخطأت المعتزلة والحشوية فيما ادّعوه علينا من خلاف جماعة أهل مذهبنا في استعمال المناظرة، وأخطأ من ادّعى ذلك من الإماميّة أيضاً، وتجاهل ؛ لأنّ فقهاء الإماميّة ورؤساءهم في علم الدين كانوا يستعملون المناظرة، ويدينون بصحّتها، وتلقّى ذلك عنهم المخالف ودانوا به، وقد أشبعتُ القول في هذا الباب، وذكرت أسماء المعروفين بالنظر

____________

1- تفسير المنسوب للإمام العسكري عليه السلام: 527.


الصفحة 10
وكتبهم ومدائح الأئمة لهم في كتابي (الكامل في علوم الدين) وكتاب (الأركان في دعائم الدين)، وأنا أروي لك في هذا الوقت حديثاً من جملة ما أوردت في ذلك إن شاء الله.

ثمّ روى بسنده عن أبي جعفر محمّد بن النعمان عن أبي عبد الله الصادق قال: قال لي: (خاصِمُوهم وبيّنوا لهم الهدى، الذي أنتم عليه، وبيّنوا لهم ضلالهم، وباهلوهم في علي(عليه السلام))(1).

أنواع المناظرات:

قد تكون المناظرة داخل المذهب الواحد، في مسألة علمية معيّنة، يختلف فيها العلماء، وهذا الأمر كثير الوقوع بين العلماء والمختصّين بالمعارف الإسلامية.

وقد تكون في دائرة الدين الإسلامي مع الذي يختلف معك في المذهب، وقد حصل هذا لكلّ الأئمة(عليهم السلام)، كمناظرات الإمام علي(عليه السلام) في السقيفة وغيرها.

ومناظرة الإمام الحسن(عليه السلام) مع الوليد بن عقبة والمغيرة بن شعبة ومعاوية ابن أبي سفيان.

ومناظرة الإمام الحسين(عليه السلام) مع معاوية بن أبي سفيان ومروان بن الحكم وأهل الكوفة.

ومناظرة زين العابدين(عليه السلام) مع الحسن البصري وعبّاد البصري والزهري.

ومناظرة الإمام الباقر(عليه السلام) مع هشام بن الحكم ونافع مولى عمر بن الخطاب وطاووس اليماني وعمرو بن عبيد والحسن والبصري.

ومناظرة الإمام الصادق(عليه السلام) مع ابن أبي ليلى وابن جريح وأبي حنيفة وعمرو بن عبيد.

ومناظرة الإمام الرضا(عليه السلام) مع المأمون العباسي وأبي قرة المحدّث ويحيى ابن

____________

1- الفصول المختارة من العيون والمحاسن: 284.


الصفحة 11
الضماك.

وقد تكون المناظرة في الدائرة الدينية، أي مع الذي يؤمن بالله سبحانه وتعالى وإن اختلف معك في الدين، كمناظرات الأئمة(عليهم السلام) مع اليهود والنصارى.

وقد تكون المناظرة مع الكفّار والزنادقة، كمناظرة الإمام الباقر(عليه السلام) مع نافع الأزرق، ومناظرة الإمام الصادق(عليه السلام) مع ابن أبي العوجاء وأبي شاكر الديصاني والزنديق المصري وابن أبي العوجاء وابن أبي حذرة.


الصفحة 12

الأسس الصحيحة للمناظرة التي اعتمدها الإمام الكاظم(عليه السلام)

الذي يتابع القنوات الفضائيّة ومواقع الانترنيت وغرف البالتاك في هذه الأيام، يُشاهد كثرة المناظرات وتعدّدها، وكلّ طرف يدعو الآخر للمناظرة واثبات أحقيّة دعوته.

لكن المُشاهد – ومع الأسف الشديد – أن أغلب هذه المناظرات لا تبتني على الأسس الصحيحة والقواعد السليّمة للمناظرة، كما أرادها الدين الإسلامي الحنيف، والذي أكّد عليها مصدري التشريع الإسلامي: الكتاب، والسنّة المطهّرة.

والمتابع لمناظرات أئمتنا(عليهم السلام) يجدهم قد خاضوا كلّ أنواع المناظرات مع المخالفين لهم، سواء كانت في داخل الدائرة المذهبية الواحدة، أو المذاهب الإسلامية، أو مع أصحاب الديانات الأخرى، بل وحتى مع الكفّار والزنادقة الذين لا يؤمنون بخبر السماء.

وقد سلك أئمتنا(عليهم السلام) الأسس الصحيحة للمناظرة، التي تؤدي إلى إقناع المخالف بالرأي الصواب، وقد جمعت هذه المناظرات في كتب مستقلّة، قام بجمعها بعض الفضلاء.

نتعرّض هنا إلى بعض مناظرات الإمام الكاظم(عليه السلام) التي بنيت على تلك الأسس الصحيحة.

أولاً: الهدف من المناظرة هو الوصول إلى الحقيقة، لا التغلّب على المناظر.

وهذا ما يتّصف به أتباع مدرسة أهل البيت(عليهم السلام)، إذ أنّ هدفهم الأول والأخير هو معرفة الحقيقة وإتباع الحقّ، لذلك تجدهم يردّون على القول الخاطئ حتى إذا صدر من واحد منهم، وهذا ما فعله الإمام الكاظم(عليه السلام) حينما ردّ على قول هشام بن الحكم.

ردّ الإمام الكاظم على هشام بن الحكم:

في كتاب أصول الكافي: عن محمّد بن أبي عبد الله، عن محمّد بن إسماعيل، عن علي بن العباس، عن الحسن بن عبد الرحمن الحماني، قال: قلت لأبي إبراهيم(عليه السلام): إنّ

الصفحة 13
هشام بن الحكم زعم أنّ الله تعالى جسم ليس كمثله شيء، عالم سميع بصير، قادر، متكلّم، ناطق، والكلام والقدرة والعلم يجري مجرى واحد، ليس شيء منها مخلوقاً.

فقال(عليه السلام): ( قاتله الله! أما علم أنّ الجسم محدود؟! والكلام غير المتكلّم؟ معاذ الله وأبرأ إلى الله من هذا القول، لا جسم، ولا صورة، ولا تحديد، وكلّ شيء سواه مخلوق، وإنّما تكون الأشياء بإرادته ومشيئته من غير كلام ولا تردد في نفس ولا نطق لسان)(1).

ولبعض علمائنا كلام حول هذه الرواية لا مجال لذكره هنا.

بينما نلاحظ أنّ بعض المخالفين لأئمة أهل البيت(عليهم السلام) كان الهدف من مناظراتهم هو إسكات الخصم والتغلب عليه فقط, وهذا ما وحصل لأبي حنيفة مع الإمام الكاظم(عليه السلام).

موقف أبي حنيفة من الإمام الكاظم(عليه السلام):

في كتاب الاحتجاج للطبرسي: دخل أبو حنيفة المدينة ومعه عبد الله بن مسلم، فقال له: يا أبا حنيفة: إنّ هاهنا جعفر بن محمد من علماء آل محمد، فاذهب بنا إليه نقتبس منه علماً. فلّما أتيا إذ هما بجماعة من علماء شيعته ينتظرون خروجه أو دخولهم عليه، فبينما هم كذلك إذ خرج غلام حدث، فقام الناس هيبةً له، فالتفت أبو حنيفة فقال: يابن مسلم: من هذا؟

قال: موسى ابنه.

قال: والله لأجبهنَّه(2) بين يدي شيعته.

قال: مه! لن تقدر على ذلك.

قال: والله لافعلنّه، ثمّ التفت إلى موسى(عليه السلام) فقال... إلى آخر الرواية(3).

وفي بعض المصادر: والله لأخجلنّه.

____________

1- أصول الكافي 1: 106 حديث7 باب النهي عن الجسم والصورة.

2- جَبَهْتُهُ: صككت جبهته، وجبهته بالمكروه : إذا استقبلته به. الصحاح 6: 2230

3- الاحتجاج 2: 331 باب 269. وأخرجه الفتال النيشابوري في روضة الواعظين: 48، والشيخ الصدوق في أماليه: 334 مجلس64 حديث4 .


الصفحة 14
وفي بعضها الآخر: والله أخجّله.

إذاً لم يكن هدف أبي حنيفة من سؤال الإمام الكاظم(عليه السلام) هو التعلّم ومعرفة الحقيقة، وذلك واضح جلّي من قوله : (لأجبهنّه) أو (لأخجلنَّه) أو (والله أخجّله).

ويمكن أن يكون أبو حنيفة استصغر سنّ الإمام الكاظم(عليه السلام)، إذ الوارد في الرواية: (فبينما هم كذلك إذ خرج غلام حدث)، وهو لا يعلم أنّ أئمة أهل البيت(عليهم السلام) قد زقّوا العلم زقاً.

ثانياً: احترام المناظر وعدم الإساءة له ولعقيدته ورموزه.

من الأمور المهمّة والأسس الصحيحة للمناظرة، هو احترام المخالف والمُناظر وعدم الإساءة والاستهزاء به وبعقيدته وبرموزه وإن اختلفنا معه في تقييم مبادئه ورموزه . فكلّ شخص له رموز يعتقد بهم ويحترمهم ويأخذ عقيدته منهم، ولا يرضى بتوجيه أيّ إساءة له، بل يعتبرها من الخطوط الحمراء التي لا يمكن الدنوّ منها.

لذلك فإنّ الشريعة المقدسة نهت عن سب الكافرين، لأنّه يؤدي إلى سبّ الله تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدوًا بِغَيرِ عِلمٍ (1).

وكذلك نهى علي(عليه السلام) عن سب أهل صفّين، بل أجاز ذكر معايبهم فقط.

____________

1- الأنعام (6): 108


الصفحة 15

مواقف الإمام الكاظم(عليه السلام)

أولاً: عدم استهزائه بأبي حنيفة:

حينما رأى أبو حنيفة الإمام الكاظم(عليه السلام) وهو صغير السنّ، كما ورد في الرواية بلفظ: (خرج غلام حدث السن)، سأله سؤالاً اختبارياً لا سؤال تعلّم ومعرفة، والظاهر من طبيعة السؤال أنّ أبا حنيفة لم يحترم الإمام الكاظم(عليه السلام) وإن لم يكن إماماً مفترض الطاعة، لوجود والده الإمام جعفر الصادق(عليه السلام)، فسأله قائلاً: يا غلام: أين يضع الغريب في بلدتم هذه؟

فالإمام سلام الله عليه أجابه جواباً علمياً وفي غاية الأدب والاحترام، ولم ينهره ولم يستهزئ به وبسؤاله فقال له: (يتوارئ خلف الجدار، ويتوقّى أعين الجار، وشطوط الأنهار، ومسقط الثمار، ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، فحينئذ يضع حين يشاء).

وحينما سمع أبو حنيفة الجواب من الإمام وعرف غزارة علمه سأله سؤالاً آخراً علمياً حول الجبر والتخيير فقال: يا غلام : ممّن المعصية؟

قال: يا شيخ لا تخلو من ثلاث:

إمّا أن تكون من الله وليس من العبد شيء، فليس للحكيم أن يأخذ عبده بما لم يفعله.

وإمّا أن تكون من العبد ومن الله، والله أقوى الشريكين، فليس للشريك الأكبر أن يأخذ الشريك الأصغر بذنبه.

وإمّا أن تكون من العبد وليس من الله شيء، فإن شاء عفى وإن شاء عاقب.

فقال – أي الراوي عبد الله بن مسلم – فأصابت أبا حنيفة سكتة كأنّما ألقم فوه الحجر.


الصفحة 16
قال: فقلت له : ألم أقل لك لا تتعرّض لأولاد رسول الله(صلى الله عليه وآله)(1).

ثانياً: استهزاء محمد بن الحسن الشيباني بكلام الإمام الكاظم(عليه السلام).

في كتاب الإرشاد للشيخ المفيد:

سأل محمد بن الحسن أبا الحسن موسى(عليه السلام) - بمحضر من الرشيد وهم بمكّة – فقال له: أيجوز للمحرِم أن يظلُل عليه محمله؟

فقال له موسى(عليه السلام) : لا يجوز له ذلك مع الاختيار.

فقال له محمد بن الحسن: أفيجوز أن يمشي تحت الظلال مختاراً؟

فقال له: نعم.

فتضاحك محمد بن الحسن من ذلك.

فقال له أبو الحسن موسى(عليه السلام): أتعجب من سُنّة النبيّ وتستهزئ بها، إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) كشف ظلاله في إحرامه، ومشى تحت الظلال وهو محرِم، إنّ أحكام الله يا محمد لا تقاس، فمن قاسم بعضها على بعض فقد ضلّ عن السبيل.

فسكت محمد بن الحسن لا يرجع جواباً(2).

وأنا لا أعلّق على هذه الرواية، وأترك التعليق للقارئ الكريم.

ثالثاً: أبو يوسف القاضي والإمام الكاظم(عليه السلام).

روى الشيخ الصدوق – في كتابه (عيون أخبار الإمام الرضا(عليه السلام)-) عن أبيه، عن علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن عثمان بن عيسى، عن أصحابه، قال: قال أبو يوسف للمهدي وعنده موسى بن جعفر(عليه السلام): أتأذن لي أن أسأله عن مسائل ليس عنده فيها

____________

1- أصول الكافي 1: 106 حديث7 باب النهي عن الجسم والصورة.

2- عيون أخبار الإمام الرضا(عليه السلام) 1: 76 حديث6.


الصفحة 17
شيء؟

قال له : نعم. فقال لموسى بن جعفر(عليه السلام): أسائل؟

قال: (نعم).

قال: ما تقول في التظليل للمحرم؟

قال: (لا يصح).

قال: فيضرب الخباء في الأرض ويدخل البيت؟

قال: (نعم).

قال: فما الفرق بين هذين؟

قال أبو الحسن(عليه السلام): (ما تقول في الطامث أتقضي الصلاة)؟

قال: لا.

قال: فتقضي الصوم؟

قال نعم.

قال: (ولم)؟

قال: هكذا جاء.

قال أبو الحسن(عليه السلام): (وهكذا جاء هذا).

فقال المهدي لأبي يوسف: ما أراك صنعت شيئاً؟!

قال: رماني بحجر دامغ(1).

انظر أيّها القارئ الكريم إلى قول أبي يوسف: أسأله عن مسائل ليس عنده فيها شيء؟

مناظرة الإمام الكاظم(عليه السلام) وهارون الرشيد:

في ختام هذه المقالة نورد المناظرة التي جرت بين الإمام الكاظم(عليه السلام) وهارون

____________

1- عيون أخبار الإمام الرضا(عليه السلام) 1: 76 حديث6 .


الصفحة 18
الرشيد، والتي تحتوي على مواضيع متعدّدة علمية بينها الإمام(عليه السلام) للرشيد.

روى الشيخ الصدوق في عيون أخبار الإمام الرضا(عليه السلام)، قال: وحدّث أبو أحمد هاني بن محمد العبدي، قال : حدّثني أبو محمد، رفعه إلى موسى بن جعفر(صلى الله عليه وآله)، قال: (لمّا أُدخلت على الرشيد سلّمت عليه فردّ عليّ السلام ثمّ قال: يا موسى بن جعفر، خليفتين يُجبى إليهما الخراج؟

فقلت: (يا أمير المؤمنين! أُعيذك بالله أن تبوء باثمي وإثمك، وتقبل الباطل من أعدائنا علينا، فقد علمت بأنّه قد كذب علينا منذ قبض رسول الله(صلى الله عليه وآله)، كما علم ذلك عندك، فإن رأيت بقرابتك من رسول الله(صلى الله عليه وآله) أن تأذن لي أُحدّثك بحديث أخبرني به أبي عن آبائه عن جدّي رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟

فقال: قد أذنت لك.

فقلت: أخبرني أبي، عن آبائه، عن جدّي رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنّه قال: (إنّ الرحم إذا مسّت الرحم تحرّكت واضطربت) فناولني يدك جعلني الله فداك.

قال: ادن مني! فدنوت منه، فأخذ بيدي ثمّ جذبني إلى نفسه وعانقني طويلاً ثمّ تركني وقال: اجلس يا موسى! فليس عليك بأس، فنظرت إليه فإذا به قد دمعت عيناه، فرجعت إليّ نفسي فقال: صدقت وصدق جدّك(صلى الله عليه وآله)، لقد تحرّك دمي واضطربت عروقي حتى غلبت عليّ الرقة وفاضت عيناي، وأنا أُريد أن أسألك عن أشياء تتلجلج في صدري منذ حين لم أسأل عنها أحداً، فإن أنت أجبتني عنها خلّيت عنك ولم أقبل قول أحد فيك، وقد بلغني عنك أنّك لم تكذب قطّ، فأصدقني فيما أسألك ممّا في قلبي.

فقلت: ما كان علمه عندي فانّي مخبرك به إن أنت أمنتني.

قال: لك الأمان إن صدقتني وتركت التقية التي تعرفون بها معشر بني فاطمة.

فقلت: ليسأل أمير المؤمنين عمّا يشاء.

قال: أخبرني لِمَ فُضلّتم علينا ونحن وأنتم من شجرة واحدة، وبنو عبد المطّلب ونحن وأنتم

الصفحة 19
واحد، إنّا بنو عبّاس وأنتم ولد أبي طالب، وهما عمّا رسول الله(صلى الله عليه وآله) وقرابتهما منه سواء؟

فقلت : نحن أقرب.

قال: وكيف ذلك؟

قلت: لأنّ عبد الله وأبا طالب لأب وأُم، وأبوكم العبّاس ليس هو من أُم عبد الله ولا من أُم أبي طالب.

قال: فلم ادعيتم أنّكم ورثتم النبي(صلى الله عليه وآله) والعم يحجب ابن العم، وقبض رسول الله(صلى الله عليه وآله) وقد توفّي أبو طالب قبله والعباس عمّه حي؟

فقلت له: إن رأى أمير المؤمنين أن يعفيني عن هذه المسألة، ويسألني عن كلّ باب سواه يريده.

فقال: لا، أو تجيب.

فقلت: فآمني.

قال: قد آمنتك قبل الكلام.

فقلت: إنّ في قول عليّ بن أبي طالب(عليه السلام): إنّه ليس مع ولد الصلب ذكراً كان أو أُنثى لأحد سهم إلاّ الأبوين والزوج والزوجة، ولم يثبت للعم مع ولد الصلب ميراث، ولم ينطق به الكتاب العزيز والسنة، إلاّ أنّ تيماً وعدياً وبني أُميّة قالوا: (العم والد) رأياً منهم بلا حقيقة ولا أثر عن رسول الله(صلى الله عليه وآله).

ومن قال بقول عليّ من العلماء قضاياهم خلاف قضايا هؤلاء، هذا نوح بن دراج يقول في هذه المسألة بقول عليّ(عليه السلام) وقد حكم به، وقد ولّاه أمير المؤمنين المصرين الكوفة والبصرة وقد قضى به، فانهى إلى أمير المؤمنين فأمر بإحضاره وإحضار من يقول بخلاف قوله، منهم : سفيان الثوري، وإبراهيم المدني، والفضيل بن عياض، فشهدوا أنه قول عليّ(عليه السلام) في هذه المسألة. فقال لهم فيما أبلغني بعض العلماء من أهل الحجاز: لم

الصفحة 20
لا تفتون وقد قضى به نوح بن دراج؟

فقالوا: جسر وجبنّا.

وقد أمضى أمير المؤمنين قضيته بقول قدماء العامة عن النبي(صلى الله عليه وآله) أنّه قال: (أقضاكم علي) وكذلك عمر بن الخطاب قال: (علي أقضانا) وهو اسم جامع، لأنّ جميع ما مدح به النبي(صلى الله عليه وآله) أصحابه من القرابة والفرائض والعلم داخل في القضاء.

قال: زدني يا موسى! قلت : المجالس بالأمانات وخاصة مجلسك.

فقال: لا بأس به.

فقلت: إنّ النبي(صلى الله عليه وآله) لم يورّث من لم يهاجر، ولا أثبت له ولاية حتى يهاجر.

فقال: ما حجّتك فيه؟

قلت: قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ (1), وإن عمّي العباس لم يهاجر.

فقال لي: إنّي أسألك يا موسى: هل أفتيت بذلك أحداً من أعدائنا، أم أخبرت أحداً من الفقهاء في هذه المسألة بشيء؟

فقلت: اللّهم لا، وما سألني عنها إلاّ أمير المؤمنين.

ثم قال لي: لِمَ جوّزتم للعامّة والخاصّة أن ينسبوكم إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) ويقولوا لكم: يا بني رسول الله! وأنتم بنو علي، وإنّما يُنسب المرء إلى أبيه، وفاطمة إنّما هي وعاء، والنبي(صلى الله عليه وآله) جدكم من قبل أمكم؟

فقلت: يا أمير المؤمنين! لو أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) نشر فخطب إليك كريمتك هل كنت تجيبه؟

فقال: سبحانه الله! ولِمَ لا أجيبه بل أفتخر على العرب والعجم وقريش وبذلك.

فقلت له : لكنّه لا يخطب إليّ ولا أزوّجه.

____________

1- الأنفال (8): 72.


الصفحة 21
فقال: ولِمَ؟

فقلت: لأنّه ولّدني ولم يلدك.

فقال: أحسنت يا موسى!

ثمّ قال: كيف قلتم إنّا ذريّة النبي، والنبي لم يعقب، وإنّما العقب للذكر لا للأنثى، وأنتم ولد الابنة ولا يكون لها عقب له.

فقلت: أسألك بحقّ القرابة والقبر ومن فيه، إلاّ أعفيتني عن هذه المسألة.

فقال: لا، أو تخبرني بحجّتكم فيه يا ولد علي! وأنت يا موسى يعسوبهم وإمام زمانهم، كذا انهي إليّ، وليست أعفيك في كلّ ما أسألك عنه حتى تأتيني فيه بحجّة من كتاب الله، وأنتم تدعون معشر ولد عليّ أنّه لا يسقط عنكم منه شيء ألف ولا واو إلاّ تأويله عندكم. واحتججتم بقوله عزّ وجلّ: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ (1), واستغنيتم عن رأي العلماء وقياسهم.

فقلت: تأذن لي في الجواب؟

قال: هات.

فقلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ (2), من أبو عيسى يا أمير المؤمنين؟

فقال: ليس لعيسى أب.

فقلت: إنّما ألحقناه بذراري الأنبياء(عليهم السلام) من طريق مريمعليها السلام وكذلك أُلحقنا بذراري النبي(صلى الله عليه وآله) من قبل أُمّنا فاطمةعليها السلام.

أزيدك يا أمير المؤمنين؟

قال: هات.

____________

1- الأنعام (6): 38.

2- الأنعام (6): 84 - 85.


الصفحة 22
قلت: قول الله عزّ وجلّ: ﴿فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (1).

ولم يدّع أحد أنّه أدخل النبي(صلى الله عليه وآله) تحت الكساء عند مباهلة النصارى إلاّ علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين، فأبناءنا الحسن والحسين، ونساءنا فاطمة، وأنفسنا علي بن أبي طالب(عليه السلام)، على أنّ العلماء قد أجمعوا على أنّ جبرائيل قال يوم أحد: (يا محمد! إنّ هذه لهي المواساة من علي) قال: (لأنّه مني وأنا منه).

فقال جبرائيل: (وأنا منكما يا رسول الله) ثمّ قال: (لا سيف إلاّ ذو الفقار ولا فتى إلاّ علي) فكان كما مدح الله عزّ وجلّ به خليله(عليه السلام) إذ يقول: ﴿قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (2) إنّا نفتخر بقول جبرائيل أنّه منّا.

فقال: أحسنت يا موسى! أرفع إلينا حوائجك.

فقلت له : إنّ أول حاجة لي أن تأذن لابن عمّك أن يرجع إلى حرم جدّه(صلى الله عليه وآله) وإلى عياله.

فقال: ننظر إن شاء الله

والحمد لله ربّ العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

محمد الحسّون

14 ربيع المولد – 1433هـ

____________

1- آل عمران (3): 61.

2- الأنبياء (21): 60.