الصفحة 1

نزول القرآن على حرف واحد أو سبعة أحرف

نظرة في روايات الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام)

الشيخ محمد الحسّون

المؤتمر العلمي السنوي الدولي الخامس

للإمام الكاظم عليه السلام

٨ / ٩ رجب / ١٤٣٥

مدينة الكاظمية المقدسة


الصفحة 2
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين ، أبي القاسم محمد، وعلى أهل بيته الطيّبين الطاهرين، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا.

واللعن الدائم المؤيّد على من خالفهم ، وغصب حقهم، ونصب العداء لهم، من الآن إلى يوم الدين.

الحمد لله الذي جعلنا من المتمسكين بولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وأولاده المعصومين، والحمّد لله على إكمال الدين وإتمام النعمة بولايتهم جميعاً.

لا يخفى على أحدٍ ، أن عقيدة أتباع مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) ، تقوم أساساً على نظرّية الإمامة الإلهية بالجعل والتعيين من قِبل الباري عزّ وجلّ، أي أنّ الله سبحانه وتعالى اختار من أهل الأرض عدّة أشخاص وعيّنهم أئمة ، وفرض طاعتهم على كلّ البشر، بل على كلّ المخلوقات ، كما اختار عدّة أشخاص وبعثهم أنبياءً ورسلاً، وأوجب طاعتهم أيضاً.

وبذلك يكون أئمتنا (عليهم السلام) هم الحجّة بيننا وبين الله تعالى ، وهم الواسطة بين الأرض والسماء، وبواسطتهم نأخذ أحكامنا وعقائدنا، وكلّ ما يتعلّق بأمور ديننا ودنيانا، لذلك أصبح قول المعصوم وفعله وتقريره حجّة علينا.

ولا يهمنا خلاف من خالف أئمتنا في أحكامهم ، سواء كانت متعلقة بالأصول أو الفروع، بالفقه أو العقائد أو غيرها.

ومن الأمور العقائدية المهمّة التي جرى الخلاف بين المسلمين فيها هي مسألة: هل نزل القرآن على حرف واحد أو سبعة أحرف أو أكثر؟

نحاول في هذه الرسالة المختصرة ـ التي نقدّمها للمؤتمر الدولي الخامس للإمام الكاظم(عليه السلام)، الذي يقام في مدينة الكاظمية المقدّسة ـ أن نبيّن هذه المسألة وأوجه الخلاف فيها بين المسلمين، ونسلّط الضوء فيها على عدة أمور هي:

١) رأي مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) في هذه المسألة ، من خلال أحاديث الإمامين الباقر والصادق‘.

٢) رأي المخالفين لمدرسة أهل البيت(عليهم السلام).

٣) الردّ بشكل مختصر على رأي المخالفين، من خلال إيراد التناقض الموجود في رواياتهم التي استدلوا بها.

٤) بيان معنى *سبعة أحرف* الذي ورد في أعلام المخالفين ورواياتهم ، والردّ عليه.

رأي مدرسة أهل البيت(عليهم السلام):

المشهور في مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) أنّ القرآن نزل على حرف واحد(1) ؛ واستدلّوا لرأيهم هذا بعدّة روايات، نورد منها اثنين فقط: إحداهما عن الإمام الباقر(عليه السلام) ، والأخرى عن الإمام الصادق(عليه السلام):

١- روى الشيخ الكليني بسند صحيح عن الحسين بن محمد، عن عليّ بن محمّد، عن الوّشاء، عن جميل بن درّاج ، عن محمّد بن مسلم ، عن زرارة ، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: *إنّ القرآن واحد ، نزل من عند واحدٍ، ولكنّ الاختلاف يجيئ من قبل الرّوأة*(2).

٢- روى أيضاً بسنده عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن أُذينة، عن الفضيل بن يسار، قال: قلت لأبي عبد الله(عليه السلام): إنّ الناس يقولون: إنّ القرآن نزل على سبعةُ أحرف، فقال: *كذبوا

____________

1- البيان في تفسير القرآن: ١١٩.

2- الكافي ٢: ٦٣٠ حديث١٢ باب النوادر، كتاب فضل القرآن.


الصفحة 3
أعداء الله، ولكنّه نزل على حرف واحدٍ من عند الواحد*(1).

هذا رأيّ مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) يشكل مختصر ، ولا أريد أن أطيل البحث فيه، وأذكر آراء مفسّريهم وباقي أدلّتهم ؛ لأنّ ذلك يوجب إطالة البحث المقدّم لهذا المؤتمر الكريم، الذي اشترط أن لا يكون البحث مفصّلاً ، ومن شاء فعليه بمراجعة تفاسير علمائنا الكرام الماضين الذين أشبعوا البحث من كلّ جوانبه، وأقاموا الأدلّة والبراهين الكافية على صحة عقيدتهم.

الرأي الآخر المخالف لمدرسة أهل البيت(عليهم السلام)

الذي ذهب إليه أكثر أتباع مدرسة الخلفاء ـ وكاد أن يكون إجماعاً عندهم ـ أنّ القرآن نزل على سبعة أحرف. ومراجعة سريعة لتفاسير القوم يتّضح ذلك جليّاً أمام القارئ الكريم ، حتى عدّت هذه المسألة من المسائل الخلافية بين المدرستين: مدرسة أهل البيت(عليهم السلام)، ومدرسة الخلفاء.

وحاول بعض مفسّريهم توجيه هذا الأمر ، وبيان عدّة تفاسير ومعانٍ للحروف السبعة التي نزل القرآن عليها(2) وكذلك لا نطيل البحث في ذكر أقوالهم ومصادرهم ؛ تجنباً للإطالة، ونكتفي بذكر بعض رواياتهم التي استدلوا بها، ومن ثمّ نشرع في نقاشها وبيان أوجه التناقص فيها:

١ـ أخرج الطبري عن يونس وأبي كريب، بإسنادهما عن ابن شهاب، بإسناده عن ابن عبّاس، حدّثه: أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال: (أقرأني جبرئيل على حرف فراجعته، فلم أزل أستزيده فيزيدني، حتّى انتهى إلى سبعة أحرف). ورواها مسلم عن حرملة، عن ابن وهب، عن يونس(3).

ورواها البخاري بسند آخر(4). وروى مضمونها عن ابن البرقي، بإسناده عن ابن عبّاس.

٢ـ وأخرج عن أبي كريب، بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن جدّه، عن أُبيّ بن كعب، قال: كنت في المسجد فدخل رجل يصلّي، فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثمّ دخل رجل آخر فقرأ قراءة غير قراءة صاحبه، فدخلنا جميعاً على رسول الله(صلى الله عليه وآله)، قال: فقلت يا رسول الله! إنّ هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ثمّ دخل هذا فقرأ قراءة غير قراءة صاحبه؟ فأمرهما رسول الله(صلى الله عليه وآله) فقرءا، فحسن رسول الله(صلى الله عليه وآله) شأنهما، فوقع في نفسي من التكذيب، ولا إذ كنت في الجاهلية، فلمّا رأى رسول الله(صلى الله عليه وآله) ما غشيني، ضرب في صدري، ففضت عرقاً كأنّما أنظر إلى الله فرقاً.

فقال لي: (يا أُبيّ! أرسل إلَيَّ أن اقرأ القرآن على حرف، فرددت عليه أن هوّن على أُمّتي، فردّ علَيَّ في الثانية أن اقرأ القرآن على حرف (هكذا في النسخة وفي صحيح مسلم على حرفين)، فرددت عليه أن هوّن على أُمّتي، فرّد علَيَّ في الثالثة أن أقرأه على سبعة أحرف، ولك بكلّ ردة رددتها مسألة تسألنيها. فقلت: اللّهمّ اغفر لأُمّتي، اللّهمّ اغفر لأُمّتي، وأخّرت الثالثة ليوم يرغب فيه إلى الخلق كلّهم حتّى إبراهيمu).

وهذه الرواية رواها مسلم أيضاً بأدنى اختلاف(5). وأخرجها الطبري عن أبي كريب بطرق أُخرى باختلاف يسير أيضاً، وروى ما يقرب من مضمونها عن طريق يونس بن عبد الأعلى، وعن طريق محمّد بن عبد الأعلى الصنعاني، عن أُبيّ.

٣ـ وأخرج عن أبي كريب، بإسناده عن سليمان بن صرد، عن أُبّي بن كعب، قال: رحت إلى المسجد فسمعت رجلاً يقرأ. فقلت: من أقرأك؟

فقال: رسول الله(صلى الله عليه وآله).

فانطلقت به إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فقلت: استقرئ هذا. فقرأ.

____________

1- الكافي ٢: ٦٣٠ حديث١٣ باب النوادر، كتاب فضل القرآن.

2- انظر تفسير الطبري ١: ٩، وتفسير القرطبي ١: ٤٣.

3- صحيح مسلم، باب: إنّ القرآن أنزل على سبعة أحرف ٢/٢٠٢، ط محمّد علي صبيح بمصر.

4- صحيح البخاري، باب: أنزل القرآن على سبعة أحرف ٦/١٠٠، ط دار الخلافة المطبعة العامرة.

5- صحيح مسلم ٢/٢٠٣.


الصفحة 4
فقال: أحسنت.

قال: فقلت إنّك أقرأتني كذا وكذا.

فقال: وأنت قد أحسنت.

قال: فقلت: قد أحسنت، قد أحسنت.

قال: فضرب بيده على صدري، ثمّ قال: (اللّهمّ أذهب عن أُبيّ الشكّ).

قال: ففضت عرقاً، وامتلأ جوفي فرقاً.

ثمّ قال(صلى الله عليه وآله): (إنّ الملكين أتياني. فقال أحدهما: اقرأ القرآن على حرف، وقال الآخر: زده، قال: فقلت زدني. قال: أقرأه على حرفين حتّى بلغ سبعة أحرف. فقال: اقرأ على سبعة أحرف).

٤ـ وأخرج عن أبي كريب، بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (قال جبرئيل: اقرأ القرآن على حرف. فقال ميكائيل: استزده. فقال: على حرفين، حتّى بلغ ستّة أو سبعة أحرف ـ والشكّ من أبي كريب ـ فقال: كلّها شافٍ كافٍ، ما لم تختم آية عذاب برحمة، أو آية رحمة بعذاب، كقولك: هلّم وتعال).

٥ـ وأخرج عن أحمد بن منصور، بإسناده عن عبد الله بن أبي طلحة، عن أبيه، عن جدّه، قال: قرأ رجل عند عمر بن الخطّاب فغيّر عليه.

فقال: لقد قرأت على رسول الله(صلى الله عليه وآله) فلم يغيّر علَيَّ.

قال: فاختصما عند النبيّ(صلى الله عليه وآله)، فقال: يا رسول الله! ألم تقرئني آية كذا وكذا؟

قال: بلى.

فوقع في صدر عمر شيء فعرف النبيّ(صلى الله عليه وآله) ذلك في وجهه.

قال: فضرب صدره. وقال: (أبعد شيطاناً)، قالها ثلاثا، ثمّ قال: (يا عمر! إنّ القرآن كلّه سواء، ما لم تجعل رحمة عذاباً، وعذاباً رحمة).

وأخرج عن يونس بن عبد الأعلى، بإسناده عن عمر بن الخطّاب قضية مع هشام بن حكيم تشبه هذه القصّة. وروى البخاري ومسلم والترمذي قصّة عمر مع هشام بإسناد غير ذلك، واختلاف في ألفاظ الحديث(1).

٦ـ وأخرج عن محمّد بن المثنى، بإسناده عن ابن أبي ليلى، عن أُبيّ بن كعب: أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) كان عند إضاءة بني غفار.

قال: فأتاه جبرئيل، فقال: إنّ الله يأمرك أن تقرئ أُمّتك القرآن على حرف.

فقال: (أسأل الله معافاته ومغفرته، وإنّ أُمّتي لا تطيق ذلك).

قال: ثمّ أتاه الثانية، فقال: إنّ الله يأمرك أن تقرئ أُمّتك القرآن على حرفين.

فقال: (أسأل الله معافاته ومغفرته، وإنّ أُمّتي لا تطيق ذلك).

ثمّ جاء الثالثة، فقال: إنّ الله يأمرك أن تقرئ أُمّتك القرآن على ثلاثة أحرف.

فقال: (أسأل الله معافاته ومغفرته، وإنّ أُمّتي لا تطيق ذلك).

ثمّ جاء الرابعة. فقال: إنّ الله يأمرك أن تقرئ أُمّتك القرآن على سبعة أحرف، فأيّما حرف قرأوا عليه فقد أصابوا.

____________

1- صحيح مسلم ٢/٢٠٢، وصحيح البخاري ٣/٩٠، و ٦/١٠٠، ١١١، و ٨/٥٣، ٢١٥، وصحيح الترمذي بشرح ابن العربي، باب: ما جاء أنزل القرآن على سبعة أحرف ١١/٦٠.


الصفحة 5
ورواها مسلم أيضاً في صحيحه(1). وأخرج الطبري أيضاً نحوها عن أبي كريب، بإسناده عن ابن أبي ليلى، عن أبّي بن كعب. وأخرج أيضاً بعضها عن أحمد بن محمّد الطوسي، بإسناده عن ابن أبي ليلى، عن أُبيّ بن كعب باختلاف يسير. وأخرجها أيضاً عن محمّد بن المثنى، بإسناده عن أُبيّ بن كعب.

(صلى الله عليه وآله)ـ وأخرج عن أبي كريب، بإسناده عن زر، عن أُبيّ، قال: لقي رسول الله(صلى الله عليه وآله) جبرئيل عند أحجار المراء. فقال: (إنّي بعثت إلى أُمّة أميين، منهم الغلام والخادم، وفيهم الشيخ الفاني والعجوز).

فقال جبرئيل: فليقرأوا القرآن على سبعة أحرف.

ورواها الترمذي أيضاً بأدنى اختلاف(2).

٨ـ وأخرج عن عمرو بن عثمان العثماني، بإسناده عن المقبري، عن أبي هريرة، أنّه قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (إنّ هذا القرآن أُنزل على سبعة أحرف، فاقرأوا ولا حرج، ولكن لا تختموا ذكر رحمة بعذاب، ولا ذكر عذاب برحمة).

٩ـ وأخرج عن عبيد بن أسباط، بإسناده، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (أُنزل القرآن على سبعة أحرف: عليم، حكيم، غفور، رحيم).

وأخرج عن أبي كريب، بإسناده عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، مثله.

١٠ـ وأخرج عن سعيد بن يحيى، بإسناده عن عاصم، عن زر، عن عبد الله بن مسعود، قال: تمارينا في سورة من القرآن، فقلنا: خمس وثلاثون، أو ستّ وثلاثون آية.

قال: فانطلقنا إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فوجدنا عليّاً يناجيه. قال: فقلنا إنّما اختلفنا في القراءة.

قال: فاحمرّ وجه رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وقال: (إنّما هلك من كان قبلكم باختلافهم بينهم). قال: ثمّ أسرّ إلى عليّ شيئاً.

فقال لنا عليّ: (إنّ رسول الله يأمركم أن تقرأوا كما علمتم)(3).

١١ـ وأخرج القرطبي، عن أبي داود، عن أُبيّ، قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (يا أُبيّ! إنّي قرأت القرآن، فقيل لي: على حرف أو حرفين؟ فقال الملك الذي معي: قل على حرفين. فقيل لي: على حرفين أو ثلاثة؟ فقال الملك الذي معي: قل على ثلاثة، حتّى بلغ سبعة أحرف، ثمّ قال: ليس منها إلاّ شاف كاف، إن قلت: سميعاً، عليماً، عزيزاً، حكيماً، ما لم تخلط آية عذاب برحمة، أو آية رحمة بعذاب)(4).

مناقشة هذه الروايات

الردّ على هذه الروايات سنداً ومتناً.

أمّا من ناحية السند، فلا اعتبار عندنا بالروايات الواردة من طُرق المخالفين، إذ لا قيمة لها مادامت مخالفةً لمّا يصحّ عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام)، لذلك لا داعي للنظر في أسانيد هذه الروايات وتتبّع رواتها فرداً فرداً، وبهذا تسقط جميع هذه الروايات عن الاعتبار والحجيّة عندنا.

أمّا من ناحية المتن، فيكفي في ردّها وتضعيفها ما ورد فيها من التناقض والتخالف وما في بعضها من عدم التناسب بين السؤال والجواب، ونشير إلى بعضها اختصاراً:

أولاً: إنّ بعض الروايات دلّت على أنّ جبرئيل(عليه السلام) أقرأ النبي’ على حرف واحد، فاستزاده النبي’

____________

1- صحيح مسلم ٢/٢٠٣.

2- صحيح الترمذي ١١/٦٢ .

3- هذه الروايات كلّها مذكورة في تفسير الطبري ١/٩ ــ ١٥.

4- تفسير القرطبي ١/٤٣ .


الصفحة 6
فزاده ، حتى انتهى إلى سبعة أحرف. وهذا يدل على أنّ الزيادة كانت على التدريج، كما في الرواية الأولى من الروايات التي ذكرناها قبل قليل، التي أخرجها البخاري ومسلم في صحيحها، وفيها: أنّ رسول الله’ قال: *أقرأني جبرئيل على حرف فراجعته، فلم أزل أستزيده فيزيدني، حتى انتهى إلى سبعة أحرف*(1).

وفي بعضها أنّ الزيادة كانت في مرّة واحدة، في المرة الرابعة ، كما في الرواية رقم٦ (2) ، التي أ(عليه السلام) أخرجها الشيخان أيضاً.

ثانياً: إنّ بعض الروايات يدلّ على أنّ الزيادة كلّها كانت في مجلس واحد، وأنّ طلب النبي’ الزيادة كانت بإرشاد ميكائيل، فزاده جبرئيل حتّى بلغ سبعاً، كما في الرواية المتقدّمة رقم٤.

وفي بعضها أنّ جبرئيل كان ينطلق ويعود مرّة بعد مرّة، كما في الرواية المتقدّمة رقم ٦.

ثالثاً: إنّ في بعض الروايات: إنّ أبي بن كعب دخل المسجد، فرأى رجلاً يقرأ على خلاف قراءته، فسأله : من أقرأك؟ قال : رسول الله’، كما في الرواية المتقدّمة رقم٣.

وفي بعضها أنّه ـ أيّ أبي بن كعب ـ كان في المسجد، فدخل رجل يصلّي، فقرأ قراءة، أنكرها أبّي، ثمّ دخل رجل آخر فقرأ قراءة غير قراءة صاحبه، فاحتكما إلى رسول الله’ ، فوافق على قراءة الجميع ، كما في الرواية المتقدّمة رقم٢.

رابعاً: عدم التناسب بين السؤال والجواب في الرواية المتقدّمة رقم١٠، التي أخرجها الطبري في تفسيره بسنده عن عبد الله بن مسعود، إذ قال: تمارينا في سورة من القرآن، فقلنا: خمس وثلاثون، أو ستّ وثلاثون آية.

قال: فانطلقنا إلى رسول الله’، فوجدنا عليّاً يناجيه.

قال : فقلنا: إنّما اختلفنا في القراءة.

قال: فاحمر وجه رسول الله’ وقال: *إنّما هلك من كان قبلكم باختلافهم بينهم*.

قال: ثمّ أسرّ إلى عليّ شيئاً، فقال لنا عليّ: *إنّ رسول الله يأمركم أن تقرؤا كما عُلّمتم*.

ومن الواضح أنّ هذا الجواب لا يرتبط بما وقع فيه النزاع من الاختلاف في عدد الآيات.

تفسير *سبعة أحرف* عند القوم

إضافة إلى جميع ما تقدّم من الاختلافات والتناقضات الموجودة في الروايات التي استدلّ بها القوم في نزول القرآن الكريم على سبعة أحرف، فإنّنا لا نرى معنىً معقولاً ومتفقاً عليه بينهم، فقد ذكروا في توجيه هذا الرأي ومعنى السبعة أحرف وجوهاً كثيرة، نذكر بعضها مع مناقشة مختصرة لها:

الوجه الأوّل: إنّ المراد سبعة أوجه من المعاني المتقاربة بألفاظ مختلفة، نحو: عجّل، وأسرع، وأوسع، وكانت هذه الأحرف باقية إلى زمان عثمان، فحصرها عثمان بحرف واحد، وأمر بإحراق بقية المصاحف التي كانت على غيره من الحروف الستّة.

واختار هذا الوجه الطبري(3) وجماعة، وذكر القرطبي: أنّه مختار أكثر أهل العلم(4). وكذلك قال أبو عمرو بن عبد البرّ(5).

واستدلّوا على ذلك برواية ابن أبي بكرة، وأبي داود، وغيرهما ممّا تقدّم.

وبرواية يونس بإسناده عن ابن شهاب، قال: أخبرني سعيد بن المسيب: أنّ الذي ذكر الله تعالى ذكره: *

____________

1- صحيح البخاري باب : أنزل القرآن على سبعة أحرف ٦: ١٠ ط دار الخلافة المطبعة العامة.

2- نكتفي بذكر رقم الرواية ؛ لأنّا ذكرنا نصوص الروايات ومصادرها قبل قليل.

3- تفسير الطبري ١/١٥.

4- تفسير القرطبي ١/٤٢.

5- التبيان: ٣٩.


الصفحة 7
إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ *(1)، إنّما افتتن أنّه كان يكتب الوحي، فكان يملي عليه رسول الله(صلى الله عليه وآله) سميع عليم، أو عزيز حكيم، وغير ذلك من خواتم الآي، ثمّ يشتغل عنه رسول الله(صلى الله عليه وآله) وهو على الوحي، فيستفهم رسولَ الله(صلى الله عليه وآله)، فيقول: أعزيز حكيم، أو سميع عليم، أو عزيز عليم؟ فيقول له رسول الله(صلى الله عليه وآله): (أي ذلك كتبت فهو كذلك).

ففتنه ذلك. فقال: إنّ محمّداً أوكل ذلك إلَيَّ فأكتب ما شئت.

واستدلّوا أيضاً بقراءة أنس: (إنّ ناشئة الليل هي أشدّ وطأ وأصوب قيلا)، فقال له بعض القوم: يا أبا حمزة! إنّما هي: (وأقوم).

فقال: أقوم، وأصوب، وأهدى واحد. وبقراءة ابن مسعود: إن كانت إلاّ زقية واحدة(2).

وبما رواه الطبري عن محمّد بن بشار، وأبي السائب، بإسنادهما عن همام: أنّ أبا الدرداء كان يقرئ رجلاً: * إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ *(3)، قال: فجعل الرجل يقول: إنّ شجرة الزقوم طعام اليتيم.

قال: فلمّا أكثر عليه أبو الدرداء فرآه لا يفهم. قال: (إنّ شجرة الزقوم طعام الفاجر)(4).

واستدلّوا أيضاً على ذلك بما تقدّم من الروايات الدالّة على التوسعة: (ما لم تختم آية رحمة بعذاب، أو آية عذاب برحمة)، فإنّ هذا التحديد لا معنى له إلاّ أن يراد بالسبعة أحرف جواز تبديل بعض الكلمات ببعض، فاستثنى من ذلك ختم آية عذاب برحمة، أو آية رحمة بعذاب.

وبمقتضى هذه الروايات لا بدّ من حمل روايات السبعة أحرف على ذلك بعد ردّ مجملها إلى مبيّنها.

إنّ جميع ما ذكر لها من المعاني أجنبيّ عن مورد الروايات! وستعرف ذلك. وعلى هذا فلا بدّ من طرح الروايات، لأنّ الالتزام بمفادها غير ممكن. والدليل على ذلك:

(أوّلاً): إنّ هذا إنّما يتم في بعض معاني القرآن، التي يمكن أن يعبّر عنها بألفاظ سبعة متقاربة. ومن الضروري أنّ أكثر القرآن لا يتم فيه ذلك، فكيف تتصوّر هذه الحروف السبعة التي نزل بها القرآن؟

(ثانياً): إنّ كان المراد من هذا الوجه: أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) قد جوّز تبديل كلمات القرآن الموجودة بكلمات أُخرى تقاربها في المعنى ـ ويشهد لهذا بعض الروايات المتقدّمة ـ فهذا الاحتمال يوجب هدم أساس القرآن، المعجزة الأبدية، والحجّة على جميع البشر، ولا يشكّ عاقل في أنّ ذلك يقتضي هجر القرآن المنزل، وعدم الاعتناء بشأنه. وهل يتوهّم عاقل ترخيص النبيّ(صلى الله عليه وآله) أن يقرأ القارئ: (يس، والذكر العظيم، إنّك لمن الأنبياء، على طريق سوي، إنزال الحميد الكريم، لتخوِّف قوماً ما خوّف أسلافهم، فهم ساهون)؟!! فلتقرّ عيون المجوزين لذلك.

سبحانك اللّهمّ إن هذا إلاّ بهتان عظيم. وقد قال الله تعالى: * قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ *(5).

وإذا لم يكن للنبيّ أن يبدّل القرآن من تلقاء نفسه، فكيف يجوز ذلك لغيره؟ وإنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) علَّم برّاء بن عازب دعاء كان فيه: (ونبيّك الذي أرسلت)، فقرأ براء: ورسولك الذي أرسلت. فأمره(صلى الله عليه وآله) أن لا يضع الرسول موضع النبيّ(6). فإذا كان هذا في الدعاء، فماذا يكون الشأن في القرآن؟

وإن كان المراد من الوجه المتقدّم: أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) قرأ على الحروف السبعة ـ ويشهد لهذا

____________

1- سورة النحل/١٠٣.

2- تفسير الطبري ١/١٨.

3- الدخان/٤٣ ــ ٤٤.

4- تفسير الطبري ٢٥/٧٨ عند تفسير الآية المباركة.

5- سورة يونس/١٥.

6- التبيان: ٥٨.


الصفحة 8
كثير من الروايات المتقدّمة ـ فلا بدّ للقائل بهذا أن يدلّ على هذه الحروف السبعة التي قرأ بها النبيّ(صلى الله عليه وآله)، لأنّ الله سبحانه قد وعد بحفظ ما أنزله: * إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ *(1).

(ثالثاً): أنّه صرّحت الروايات المتقدّمة: بأنّ الحكمة في نزول القرآن على سبعة أحرف هي التوسعة على الأُمّة، لأنّهم لا يستطيعون القراءة على حرف واحد، وأنّ هذا هو الذي دعا النبيّ الاستزادة إلى سبعة أحرف.

وقد رأينا أنّ اختلاف القراءات أوجب أن يكفّر بعض المسلمين بعضاً، حتّى حصر عثمان القراءة بحرف واحد، وأمر بإحراق بقية المصاحف؛ ويستنتج من ذلك أمور:

١ـ إنّ الاختلاف في القراءة كان نقمة على الأُمّة. وقد ظهر ذلك في عصر عثمان، فكيف يصحّ أن يطلب النبيّ(صلى الله عليه وآله) من الله ما فيه فساد الأُمّة؟ وكيف يصحّ على الله أن يجيبه إلى ذلك؟ وقد ورد في كثير من الروايات النهي عن الاختلاف، وأنّ فيه هلاك الأُمّة، وفي بعضها أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) تغيّر وجهه واحمرّ حين ذكر له الاختلاف في القراءة. وقد تقدّم جملة منها، وستجيء بعد هذا جملة أخرى.

٢ـ قد تضمّنت الروايات المتقدّمة أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) قال: (إنّ أُمّتي لا تستطيع ذلك (القراءة على حرف واحد*، وهذا كذب صريح، لا يعقل نسبته إلى النبيّ(صلى الله عليه وآله)! لأنّا نجد الأُمّة بعد عثمان على اختلاف عناصرها ولغاتها قد استطاعت أن تقرأ القرآن على حرف واحد، فكيف يكون من العسر عليها أن تجتمع على حرف واحد في زمان النبيّ(صلى الله عليه وآله)، وقد كانت الأُمّة من العرب الفصحى؟!

٣ـ إنّ الاختلاف الذي أوجب لعثمان أن يحصر القراءة في حرف واحد قد اتّفق في عصر النبيّ(صلى الله عليه وآله)، وقد أقرّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) كلّ قارئ على قراءته، وأمر المسلمين بالتسليم لجميعها، وأعلمهم بأنّ ذلك رحمة من الله لهم. فكيف صحّ لعثمان، ولتابعيه سدّ باب الرحمة، مع نهي النبيّ(صلى الله عليه وآله) عن المنع عن قراءة القرآن؟! وكيف جاز للمسلمين رفض قول النبيّ(صلى الله عليه وآله) وأخذ قول عثمان وإمضاء عمله؟! أفهل وجدوه أرأف بالأُمّة من نبيّها؟ أو أنّه تنبه لشيء قد جهله النبيّ(صلى الله عليه وآله) من قبل وحاشاه! أو أنّ الوحي قد نزل على عثمان بنسخ تلك الحروف؟!

وخلاصة الكلام: أنّ بشاعة هذا القول تغني عن التكلّف عن ردّه، وهذه هي العمدة في رفض المتأخّرين من علماء أهل السُنّة لهذا القول. ولأجل ذلك قد التجأ بعضهم، كأبي جعفر محمّد بن سعدان النحوي، والحافظ جلال الدين السيوطي، إلى القول: بأنّ هذه الروايات من المشكل والمتشابه، وليس يدري ما هو مفادها(2)؛ مع أنّك قد عرفت أنّ مفادها أمر ظاهر، ولا يشكّ فيه الناظر إليها، كما ذهب إليه واختاره أكثر العلماء.

الوجه الثاني: إنّ المراد بالأحرف السبعة، هي الأبواب السبعة التي نزل منها القرآن، وهي: زجر، وأمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال.

واستدلّ عليه بما رواه يونس، بإسناده عن ابن مسعود، عن النبيّ(صلى الله عليه وآله)، أنّه قال: (كان الكتاب الأوّل نزل من باب واحد على حرف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب وعلى سبعة أحرف: زجر، وأمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال. فأحلّوا حلاله، وحرّموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عمّا نهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا آمنا به كلّ من عند ربّنا)(3).

ويرد على هذه الوجه:

١ـ أنّ ظاهر الرواية كون الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن غير الأبواب السبعة التي نزل منها، فلا يصحّ أن يجمل تفسيراً لها، كما يريده أصحاب هذا القول.

٢ـ أنّ هذه الرواية معارضة برواية أبي كريب، بإسناده عن ابن مسعود، قال: (إنّ الله أنزل القرآن على

____________

1- سورة الحجر/٩.

2- التبيان: ٦١.

3- تفسير الطبري ١/٢٣.


الصفحة 9
خمسة أحرف: حلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال)(1).

٣ـ أنّ الرواية مضطربة في مفادها، فإنّ الزجر والحرام بمعنى واحد، فلا تكون الأبواب سبعة، على أنّ في القرآن أشياء أُخرى لا تدخل في هذه الأبواب السبعة، كذكر المبدأ والمعاد، والقصص، والاحتجاجات والمعارف، وغير ذلك. وإذا أراد هذا القائل أن يدرج جميع هذه الأشياء في المحكم والمتشابه، كان عليه أن يدرج الأبواب المذكورة في الرواية فيهما أيضاً، ويحصر القرآن في حرفين: (المحكم، والمتشابه)، فإنّ جميع ما في القرآن لا يخلو من أحدهما.

٤ـ أنّ اختلاف معاني القرآن على سبعة أحرف لا يناسب ما دلّت عليه الأحاديث المتقدّمة من التوسعة على الأُمّة، لأنّها لا تتمكّن من القراءة على حرف واحد.

٥ـ أنّ في الروايات المتقدّمة ما هو صريح في أنّ الحروف السبعة هي الحروف التي كانت تختلف فيها القرّاء، وهذه الرواية إذا تمت دلالتها لا تصلح قرينة على خلافها.

الوجه الثالث: أنّ الحروف السبعة، هي: الأمر، والزجر، والترغيب، والترهيب، والجدل، والقصص، والمثل.

واستدلّ على ذلك، برواية محمّد بن بشار، بإسناده عن أبي قلامة، قال: بلغني أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) قال: (أنزل القرآن على سبعة أحرف: أمر، وزجر، وترغيب، وترهيب، وجدل، وقصص، ومثل)(2).

وجوابه يظهر ممّا قدّمناه في الوجه الثاني.

الوجه الرابع: إنّ الأحرف السبعة هي اللغات الفصيحة من لغات العرب، وأنّها متفرّقة في القرآن، فبعضه بلغة قريش، وبعضه بلغة هذيل، وبعضه بلغة هوازن، وبعضه بلغة اليمن، وبعضه بلغة كنانة، وبعضه بلغة تميم، وبعضه بلغة ثقيف.

ونسب هذا القول إلى جماعة، منهم: البيهقي، والأبهري، وصاحب القاموس.

ويردّه:

١ـ أنّ الروايات المتقدّمة قد عينت المراد من الأحرف السبعة، فلا يمكن حملها على أمثال هذه المعاني التي لا تنطبق على موردها.

٢ـ إنّ حمل الأحرف على اللغات ينافي ما روي عن عمر من قوله: *نزل القرآن بلغة مضر*(3). وأنّه أنكر على ابن مسعود قراءته: (عتى حين)، أي: حتّى حين، وكتب إليه: أنّ القرآن لم ينزل بلغة هذيل، فأقرئ الناس بلغة قريش، ولا تقرئهم بلغة هذيل(4). وما روي عن عثمان أنّه قال: *للرهط القرشيين الثلاثة، إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنّما نزل بلسانهم*(5). وما روى من: *أنّ عمر وهشام بن حكيم اختلفا في قراءة سورة الفرقان، فقرأ هشام قراءة. فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (هكذا أنزلت)، وقرأ عمر قراءة غير تلك القراءة. فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ (هكذا أنزلت)، ثمّ قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (إنّ هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف*). فإنّ عمر وهشام كان كلاهما من قريش، فلم يكن حينئذ ما يوجب اختلافهما في القراءة.

ويضاف إلى جميع ذلك أنّ حمل الأحرف على اللغات قول بغير علم، وتحكّم من غير دليل.

٣ـ أنّ القائلين بهذا القول إن أرادوا أنّ القرآن اشتمل على لغات أخرى، كانت لغة قريش خالية منها، فهذا

____________

1- تفسير الطبري ١/٢٤.

2- المصدر نفسه.

3- التبيان: ٦٤.

4- التبيان: ٦٥.

5- صحيح البخاري: ١٥٦ باب نزول القرآن بلسان قريش.


الصفحة 10
المعنى خلاف التسهيل على الأُمّة، الذي هو الحكمة في نزول القرآن على سبعة أحرف، على ما نطقت الروايات بذلك، بل هو خلاف الواقع، فإنّ لغة قريش هي المهيمنة على سائر لغات العرب، وقد جمعت من هذه اللغات ما هو أفصحها، ولذلك استحقّت أن توزن بها العربية، وأن يرجع إليها في قواعدها.

وإن أرادوا أنّ القرآن مشتمل على لغات أخرى، ولكنّها تتحد مع لغة قريش، فلا وجه للحصر بلغات سبع، فإنّ في القرآن ما يقرب من خمسين لغة. فعن أبي بكر الواسطي: *في القرآن من اللغات خمسون لغة، وهي لغات: قريش، وهذيل، وكنانة، وخثعم، والخزرج، وأشعر، ونمير...*(1).

الوجه الخامس: إنّ الأحرف السبعة هي سبع لغات من لغات مضر خاصّة، وأنّها متفرّقة في القرآن، وهي لغات: قريش، وأسد، وكنانة، وهذيل، وتميم، وضبة، وقيس.

ويرد عليه جميع ما أوردناه على الوجه الرابع.

الوجه السادس: إنّ الأحرف السبعة هي وجوه الاختلاف في القراءات.

قال بعضهم: إنّي تدبّرت وجوه الاختلاف في القراءة فوجدتها سبعاً.

فمنها، ما تتغيّر حركته ولا يزول معناه ولا صورته، مثل: (هن أطهر لكم) بضم (أطهر) وفتحه.

ومنها، ما تتغيّر صورته ويتغيّر معناه بالإعراب، مثل: (ربّنا باعد بين أسفارنا) بصيغة الأمر والماضي.

ومنها، ما تبقى صورته ويتغيّر معناه باختلاف الحروف، مثل: (ننشزها وننشرها) بالزاي والراء.

ومنها، ما تتغيّر صورته ويبقى معناه، مثل: (كالعهن المنفوش، وكالصوف المنفوش).

ومنها ما تتغيّر صورته ومعناه، مثل: (وطلح منضود، وطلع منضود).

ومنها، بالتقديم والتأخير، مثل: (وجاءت سكرة الموت بالحقّ، وجاءت سكرة الحقّ بالموت).

ومنها، بالزيادة والنقصان: (تسع وتسعون نعجة أنثى، وأمّا الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين، فإنّ الله من بعد إكراههن لهنّ غفور رحيم).

ويردّه:

١ـ أنّ ذلك قول لا دليل عليه، ولاسيما أنّ المخاطبين في تلك الروايات لم يكونوا يعرفون من ذلك شيئاً.

٢ـ أنّ من وجوه الاختلاف المذكورة ما يتغيّر فيه المعنى وما لا يتغيّر، ومن الواضح أنّ تغيّر المعنى وعدمه لا يوجب الانقسام إلى وجهين، لأنّ حال اللفظ والقراءة لا تختلف بذلك، ونسبة الاختلاف إلى اللفظ في ذلك من قبيل وصف الشيء بحال متعلّقة. ولذلك يكون الاختلاف في (وطلح منضود، وكالعهن المنفوش) قسماً واحداً.

٣ـ أنّ من وجوه الاختلاف المذكور بقاء الصورة للفظ، وعدم بقائها، ومن الواضح أيضاً أنّ ذلك لا يكون سبباً للانقسام، لأنّ بقاء الصورة إنّما هو في المكتوب لا في المقروء، والقرآن اسم للمقروء لا للمكتوب، والمنزل من السماء إنّما كان لفظاً لا كتابة. وعلى هذا يكون الاختلاف في (وطلح. وننشزها) وجهاً واحداً لا وجهين.

٤ـ أنّ صريح الروايات المتقدّمة أنّ القرآن نزل في ابتداء الأمر على حرف واحد. ومن البيّن أنّ المراد بهذا الحرف الواحد ليس هو أحد الاختلافات المذكورة، فكيف يمكن أن يراد بالسبعة مجموعها!

٥ـ أنّ كثيراً من القرآن موضع اتّفاق بين القرّاء، وليس مورداً للاختلاف، فإذا أضفنا موضع الاتّفاق إلى موارد الاختلاف بلغ ثمانية. ومعنى هذا أنّ القرآن نزل على ثمانية أحرف.

٦ـ أنّ مورد الروايات المتقدّمة هو اختلاف القرّاء في الكلمات، وقد ذكر ذلك في قصّة عمر وغيرها. وعلى ما تقدّم فهذا الاختلاف حرف واحد من السبعة، ولا يحتاج رسول الله(صلى الله عليه وآله) في رفع خصومتهم إلى الاعتذار بأنّ القرآن نزل على الأحرف السبعة، وهل يمكن أن يحمل نزول جبريل بحرف، ثمّ بحرفين، ثمّ

____________

1- راجع الإتقان ١/ النوع/٣٧ ص/٢٣٠.


الصفحة 11
بثلاثة، ثمّ بسبعة على هذه الاختلافات؟! وقد أنصف الجزائري في قوله: *والأقوال في هذه المسألة كثيرة، وغالبها بعيد عن الصواب. وكأنّ القائلين بذلك ذهلوا عن مورد حديث: (أُنزل القرآن على سبعة أحرف)، فقالوا ما قالوا*(1).

الوجه السابع: أنّ الأحرف السبعة هي وجوه الاختلاف في القراءة، ولكن بنحو آخر غير ما تقدّم.

وهذا القول اختاره الزرقاني، وحكاه عن أبي الفضل الرّازي في (اللوائح)، فقال:

*الكلام لا يخرج عن سبعة أحرف في الاختلاف:

الأوّل: اختلاف الأسماء من إفراد، وتثنية، وجمع، وتذكير، وتأنيث.

الثاني: اختلاف تصريف الأفعال من ماض، ومضارع، وأمر.

الثالث: اختلاف الوجوه في الإعراب.

الرابع: الاختلاف بالنقص والزيادة.

الخامس: الاختلاف بالتقديم والتأخير.

السادس: الاختلاف بالإبدال.

السابع: اختلاف اللغات (اللهجات)، كالفتح، والإمالة، والترقيق، والتفخيم، والإظهار، والإدغام، ونحو ذلك*.

ويرد عليه: ما أوردناه على الوجه السادس في الإشكال الأوّل، والرابع والخامس منه.

ويردّه أيضاً: أنّ الاختلاف في الأسماء يشترك مع الاختلاف في الأفعال في كونهما اختلافاً في الهيئة، فلا معنى لجعله قسماً آخر مقابلاً له.

ولو راعينا الخصوصيات في هذا التقسيم، لوجب علينا أن نعدّ كلّ واحد من الاختلاف في التثنية، والجمع، والتذكير، والتأنيث، والماضي، والمضارع، والأمر قسماً مستقلاً. ويضاف إلى ذلك: أنّ الاختلاف في الإدغام، والإظهار، والروم، والإشمام، والتخفيف، والتسهيل في اللفظ الواحد لا يخرجه عن كونه لفظاً واحداً. وقد صرّح بذلك ابن قتيبة على ما حكاه الزرقاني عنه(2).

والصحيح أنّ وجوه الاختلاف في القراءة ترجع إلى ستّة أقسام:

الأوّل: الاختلاف في هيئة الكلمة دون مادتها، كالاختلاف في لفظة (باعد) بين صيغة الماضي والأمر، وفي كلمة (أمانتهم) بين الجمع والإفراد.

الثاني: الاختلاف في مادّة الكلمة دون هيئتها، كالاختلاف في لفظة (ننشرها) بين الراء والزاي.

الثالث: الاختلاف في المادّة والهيئة كالاختلاف في (العهن، والصوف).

الرابع: الاختلاف في هيئة الجملة بالإعراب، كالاختلاف في (وأرجلكم) بين النصب والجرّ.

الخامس: الاختلاف بالتقديم والتأخير، وقد تقدّم مثال ذلك.

السادس: الاختلاف بالزيادة والنقيصة، وقد تقدّم مثاله أيضاً.

الوجه الثامن: أنّ لفظ السبعة يراد منه الكثرة في الآحاد، كما يراد من لفظ السبعين والسبعمائة الكثرة في العشرات أو المئات.

ونسب هذا القول إلى القاضي عيّاض ومن تبعه.

ويردّه: أنّ هذا خلاف ظاهر الروايات، بل خلاف صريح بعضها. على أنّ هذا لا يعد قولاً مستقلاً عن

____________

1- التبيان: ٥٩ .

2- مناهل العرفان: ١٥٤.


الصفحة 12
الوجوه الأخرى، لأنّه لم يعيّن معنى الحروف فيه، فلا بدّ وأن يراد من الحروف أحد المعاني المذكورة في الوجوه المتقدّمة؛ ويرد عليه ما يرد من الإشكال على تلك الوجوه.

الوجه التاسع: أنّ الأحرف السبعة هي سبع قراءات.

ويردّه: أنّ هذه القراءات السبع إن أريد بها السبع المشهورة، فقد أوضحنا للقارئ بطلان هذا الاحتمال في البحث عن تواتر القراءات ـ وقد تقدّم ذلك.

وإن أريد بها قراءات سبع على إطلاقها، فمن الواضح أنّ عدد القراءات أكثر من ذلك بكثير، ولا يمكن أن يوجّه ذلك بأنّ غاية ما ينتهي إليه اختلاف القراءات أكثر من ذلك بكثير، الواحدة هي السبع، لأنّه إن أريد أنّ الغالب في كلمات القرآن أن تقرأ على سبعة وجوه فهذا باطل، لأنّ الكلمات التي تقرأ على سبعة وجوه قليلة جدّاً.

وإن أريد أنّ ذلك موجود في بعض الكلمات وعلى سبيل الإيجاب الجزئي، فمن الواضح أنّ في كلمات القرآن ما يقرأ بأكثر من ذلك، فقد قرأت كلمة (وعبد الطاغوت) باثنين وعشرين وجهاً، وفي كلمة (أُفٍّ) أكثر من ثلاثين وجهاً.

ويضاف إلى ما تقدّم: أنّ هذا القول لا ينطبق على مورد الروايات، ومثله أكثر الأقوال في المسألة.

الوجه العاشر: أنّ الأحرف السبعة يراد بها اللهجات المختلفة في لفظ واحد.

اختاره الرافعي في كتابه(1).

وتوضيح القول: أنّ لكلّ قوم من العرب لهجة خاصّة في تأدية بعض الكلمات، ولذلك نرى العرب يختلفون في تأدية الكلمة الواحدة حسب اختلاف لهجاتهم. فالقاف في كلمة (يقول) مثلاً يبدلها العراقي بالكاف الفارسية، ويبدلها الشامي بالهمزة، وقد أنزل القرآن على جميع هذه اللهجات للتوسعة على الأُمّة، لأنّ الالتزام بلهجة خاصّة من هذه اللهجات فيه تضييق على القبائل الأُخرى التي لم تألف هذه اللهجة، والتعبير بالسبع إنّما هو رمز إلى ما ألفوه من معنى الكمال في هذه اللفظة، فلا ينافي ذلك كثرة اللهجات العربية، وزيادتها على السبع.

الردّ: وهذا الوجه ـ على أنّه أحسن الوجوه التي قيلت في هذا المقام ـ غير تام أيضاً:

١ـ لأنّه ينافي ما ورد عن عمر وعثمان من أنّ القرآن نزل بلغة قريش، وأنّ عمر منع ابن مسعود من قراءة (عتى حين).

٢ـ ولأنّه ينافي مخاصمة عمر مع هشام بن حكيم في القراءة، مع أنّ كليهما من قريش.

٣ـ ولأنّه ينافي مورد الروايات، بل وصراحة بعضها في أنّ الاختلاف كان في جوهر اللفظ، لا في كيفية أدائه، وأنّ هذا من الأحرف التي نزل بها القرآن.

٤ـ ولأنّ حمل لفظ السبع ـ على ما ذكره خلاف ـ ظاهر الروايات، بل وخلاف صريح بعضها.

٥ـ ولأنّ لازم هذا القول جواز القراءة فعلاً باللهجات المتعدّدة، وهو خلاف السيرة القطعية من جميع المسلمين، ولا يمكن أن يدّعي نسخ جواز القراءة بغير اللهجة الواحدة المتعارفة، لأنّه قول بغير دليل، ولا يمكن لقائله أن يستدلّ على النسخ بالإجماع القطعي على ذلك، لأنّ مدرك الإجماع إنّما هو عدم ثبوت نزول القرآن على اللهجات المختلفة، فإذا فرضنا ثبوت ذلك كما يقوله أصحاب هذا القول، فكيف يمكن تحصيل الإجماع على ذلك؟ مع أنّ إصرار النبيّ(صلى الله عليه وآله) على نزول القرآن على سبعة أحرف إنّما كان للتوسعة على الأُمّة، فكيف يمكن أن يختصّ ذلك بزمان قليل بعد نزول القرآن؟ وكيف يصحّ أن يقوم على ذلك إجماع أو غيره من الأدلّة؟! ومن الواضح أنّ الأُمّة ـ بعد ذلك ـ أكثر احتياجاً إلى التوسعة، لان المعتنقين للإسلام في ذلك الزمان قليلون. فيمكنهم أن يجتمعوا في قراءة القرآن على لهجة واحدة، وهذا بخلاف المسلمين في الأزمنة المتأخّرة، ولنقتصر على ما ذكرنا من الأقوال فإنّ فيه كفاية عن ذكر البقية والتعرّض لجوابها وردّها.

وحاصل ما قدّمناه: أنّ نزول القرآن على سبعة أحرف لا يرجع إلى معنى صحيح، فلا بدّ من طرح الروايات الدالّة عليه، ولاسيما بعد أن دلّت أحاديث الصادقين ـ (عليهم السلام) ـ على تكذيبها، وأنّ القرآن إنّما

____________

1- إعجاز القرآن: ٧٠ .


الصفحة 13
نزل على حرف واحد، وأنّ الاختلاف قد جاء من قبل الرواة.