إنكار الشيخ القرضاوي لفتوى شيخ الأزهر محمود شلتوت (جمادى الاولى 1430)

بعد إنكار الشيخ يوسف القرضاوي لفتوى الشيخ محمود شلتوت بجواز التعبّد بمذهب أهل البيت عليهم السلام ، وردت أسئلة كثيرة لمدير مركز الأبحاث العقائدية سماحة الشيخ محمّد الحسون مستفسرة عن صحة تلك الفتوى، فأجاب قائلاً:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله ربّ العالمين، وأكمل الصلوات وأتمّها على نبيّنا ومقتدانا وحبيب قلوبنا النبي محمّد ، وأهل بيته الطيبّين الطاهرين عليهم سلام الله أجمعين.
نعم، لقد أنكر الشيخ القرضاوي صدور تلك الفتوى من شيخ الأزهر محمود شلتوت ، وذلك خلال لقاء بينه وبين بعض الشباب في دورة ((علماء المستقبل)) التي ينظمها (( اتحاد العلماء في القاهرة)) يوم الثلاثاء السابع من ابريل من هذه السنة، كما هو منشور في موقع الشيخ القرضاوي بتاريخ 9/ 4/ 2009م .
واستدلّ القرضاوي على إنكاره لتلك الفتوى بأنّه لم يرَ تلك الفتوى ، وأنّ كلّ من يعثر عليها عليه أن يبعثها له ، وأنّه – أي القرضاوي – أعلم الناس بتراث الشيخ شلتوت ، وأنّه والشيخ أحمد العسّال أخرجا كتب شلتوت وقدّموها للطبع، ولا وجود لتلك الفتوى فيها.
أقول: نحن أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام ، لسنا بحاجة لفتوى من هذا العالم الأزهري  أوذلك يجيز لنا فيها التعبّد بمذهبنا ، فإنّنا والحمدُ لله لدينا الأدلّة الكافية القطعية من مصدري التشريع الإسلامي الكتاب والسنّة، تلزمنا بإتباع هذا المذهب الحقّ ، المتمثّل بكون أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السلام هو الإمام والخليفة بعد النبي محمّد (ص) ، ومن بعده أبنائه المعصومين الأئمة سلام الله عيهم أجمعين.
وإنّما نرد دعوى الشيخ القرضاوي هذه ، باعتبارها إنكاراً لقضيّة تاريخيّة واقعة ، وهي أيضاً تمثّل تهاجماً على مدرسة أهل البيت عليهم السلام، لا مبرر له.
فإنّ شيخ الأزهر السابق محمود شلتوت أصدر تلك الفتوى ، ونُشرت في وقتها في عدّة مجلاّت ، وطُبعت في عدّة كتب ، ونحن نضع أمامكم صورة تلك الفتوى، وهي:

 


وبما أنّ تلك الصورة قد تكون غير واضحة ، ولا يتسنّى لبعض قراءتها، لذلك نورد هنا نصها وهو :
دار التقريب بين المذاهب الإسلاميّة:
مكتب شيخ الجامع الأزهر:

بسم الله الرحمن الرحيم

نصّ الفتوى التي أصدرها السيّد صاحب الفضيلة ـ الأستاذ الأكبر ـ الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر في شأن جواز التعبّد بمذهب الشيعة الإماميّة.
قيل لفضيلته:
إنّ بعض الناس يرى أنّه يجب على المسلم لكي تقع عباداته ومعاملاته على وجه صحيح أن يقلّد أحد المذاهب الأربعة المعروفة وليس من بينها مذهب الشيعة الإماميّة ولا الشيعة الزيديّة فهل توافقون فضيلتكم على هذا الرأي على إطلاقه فتمنعون تقليد مذهب الشيعة الإماميّة الاثنا عشريّة مثلاً؟
فأجاب فضيلته:
 1 - إنّ الإسلام لا يوجب على أحد من أتباعه اتّباع مذهب معيّن بل نقول: إنّ لكلّ مسلم الحقّ في أن يقلّد بادئ ذي بدء أيّ مذهب من المذاهب المنقولة نقلاً صحيحاً والمدوّنة أحكامها في كتبها الخاصّة ولمن قلّد مذهباً من هذه المذاهب أن ينتقل إلى غيره - أيّ مذهب كان - ولا حرج عليه في شيء من ذلك.
2 - إنّ مذهب الجعفرية المعروف بمذهب الشيعة الإماميّة الإثنا عشريّة مذهب يجوز التعبّد به شرعاً كسائر مذاهب أهل السنّة فينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك، وأن يتخلّصوا من العصبية بغير الحقّ لمذاهب معيّنة، فما كان دين الله وما كانت شريعته بتابعة لمذهب أو مقصورة على مذهب، فالكلّ مجتهدون مقبولون عند الله تعالى يجوز لمن ليس أهلاً للنظر والاجتهاد تقليدهم والعمل بما يقرّرونه في فقههم، ولا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات.
السيّد صاحب السماحة العلامة الجليل الأستاذ محمد تقي القمي السكرتير العامّ لجماعة التقريب بين المذاهب الإسلاميّة:
 سلام عليكم ورحمته:
أمّا بعد فيسرّني أن أبعث إلى سماحتكم بصورة موقّع عليها بإمضائي من الفتوى التي أصدرتها في شأن جواز التعبّد بمذهب الشيعة الإماميّة راجياً أن تحفظوها في سجلّات دار التقريب بين المذاهب الإسلامية التي أسهمنا معكم في تأسيسها ووفّقنا الله لتحقيق رسالتها والسلام عليكم ورحمة الله.
شيخ الجامع الأزهر
وقد أكّد الشيخ شلتوت في فتواه هذه على نقطتين مهمّتين:
الأولى : أنّ الإسلام لا يوجب على كلّ مسلم اتّباع مذهب معيّن ، بل لكلّ مسلم الحقّ في أن يقلّد ابتداءً أيّ مذهب من المذاهب الإسلامية.
الثانية: يحقّ لكلّ مسلم أن ينتقل من مذهب إلى مذهب آخر، وهذا ما نسمّيه الآن التحول المذهبي.
ولابدّ هنا من الإشارة إلى عدة نقاط:
أولاً: في أوائل سنة 1959م صرّح شيخ الأزهر الشيخ محمود شلتوت لجريدة (( الحياة)) بعزمه على التقريب بين المذاهب ، والمباشرة بتدريس الفقه الشيعي في كليّة الشريعة ضمن برامجها الجديدة، مما جعل مندوب جريدة ((الشعب)) السيد محمود سليمة يسأل الشيخ شلتوت ذلك السؤال الوارد في نصّ الفتوى ، الذي مطلعه : (( قيل لفضيلته إنّ بعض الناس يرى أنّه يجب على المسلم...))، ويقوم الشيخ بالإجابة بالفتوى الصادرة منه بجواز التعبّد بمذهب أهل البيت عليهم السلام، وقد نقلتها مجلة ((رسالة الإسلام)) بعنوان ((فتوى تاريخية))، ومهّدت لها بهذه الكلمات : ((تفسح ـ أي كلمة التحرير ـ  صدر هذا العدد للحديث التاريخي الخطير الشأن الذي أدلى به السيّد صاحب الفضيلة الأستاذ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر، مدّ الله في عمره ، وأدام نفع الأمّة الإسلامية بعلمه وفضله وصالح سعيه)).
ثانياً: من الواضح أنّ شلتوت كان مقتنعاً بفتواه، ولم تكن مجرّد فتوى خرجت وانتهى الأمر ، فبعدها بفترة وجيزة نشرت مجلة ((المجتمع العربي)) حواراً مطوّلاً مع شلتوت، وقد أعادت مجلة ((الأزهر)) نشر الحوار بالكامل أيضاً، وجاء فيه هذا السؤال : ((هل يعني تدريس مذهب الشيعة في الأزهر أنّه جائز التطبيق، أم أنّه يُدرّس لمجرّد العلم والتحصيل وزيادة معارف رجل الدين))؟
فأجاب شلتوت: (( لسنا حريصين على أن تكون دراستنا في الأزهر لمجرّد العلم والتحصيل، إنّما نحن ندرس للاستيعاب والفهم ، ثم التطبيق والعمل بكلّ ما يمكن العمل به ، وفقه الشيعة مأخوذ ببعض أحكامه في كثير من القانون عندنا وكثير من علمائنا عمل ببعض أحكام العبادات عندهم، ونحن إنّما نرجع إلى الكتاب والسنّة ، فمتى لم يخالف الرأي أصلاً من الأُصول الإسلاميّة الصحيحة، ولم يتعارض مع نصّ شرعي ، فلا بأس من تطبيقه ، والأخذ به ، وذلك هو التقريب المنشود، والتيسير المرجو))(3) .
ثالثاً: ولم تقف ردود الأفعال حول فتوى شلتوت عند هذا الحدّ، بل تفاعل معها تأييداً ونقداً ، عدد من العلماء والمشايخ، فمّمن أيدوا: الدكتور محمّد البهي الذي كتب – مؤيداً لتوجّه الفتوى وشلتوت – مقالا بعنوان: (( مع المذاهب الإسلامية ))(4) ، وفي نفس العدد كتب الأستاذ محمود الشرقاوي مقالا بعنوان: ((الأزهر ومذاهب الفقه الإسلامي ))(5).
أمّا مجلّة ((رسالة الإسلام)) فقد كتب في العدد التالي للفتوى الشيخ محمّد تقي القمي السكرتير العام لجماعة التقريب مقالا بعنوان ((قصة التقريب)) ، يشيد بالفتوى ، وبجهود شلتوت في التقريب(6).
وتلاه في نفس العدد الشيخ محمّد محمّد المدني رئيس تحرير مجلّة ((رسالة الإسلام)) وعميد كلية الشريعة بجامعة الأزهر، بمقال بعنوان: ((رجة البعث في كليّة الشريعة)) يؤيّد فيه فتوى شلتوت ، ويسهب في الرد على المخالفين للفتوى(7) .
وفي نفس العدد نشر الشيخ محمّد الغزالي مقالا بعنوان : ((على أوائل الطريق ))(8) ، وقد ناقش المخالفين لفتوى شلتوت، ودافع عن الفتوى ، بطريقة الحوار الساخر المعهودة من الشيخ الغزالي.
رابعاً: أن بعض علماء الأزهر لم يؤيدوا تلك الفتوى بل عارضوها بعدّة مقالات، منهم: الشيخ عبد اللطيف السبكي رئيس لجنة الفتوى وشيخ الحنابلة بالأزهر ، الذي كتب مقالا شديد اللهجة في التقريب بين السنة والشيعة، وبأنّه وهم لا حقيقة له ، وأنّه من طرف السنة فقط(9) ، وكتب أيضاً معه مهاجماً الفكرة، الشيخ محمّد عرفة، والأستاذ محب الدين الخطيب(10).
خامساً:إنّ نفي القرضاوي والعسّال للفتوى ، وأنّها ليست في تراث شلتوت، وهما أخبر الناس بتراثه ، فقد قاما بجمعه ، وتبويبه، وإخراجه، فهما مصيبان في أنّ الفتوى ليست في تراث شلتوت المجموع في كتبه الأربعة: الإسلام عقيدة وشريعة – الفتاوى – التفسير – من توجيهات الإسلام.
وأمّا قولهما: أنّهما لم يجدا الفتوى في الكتب السابقة لشلتوت، وهي تمثل كتبه الرئيسة فهو صحيح، لكن كتب شلتوت طبعت قبل صدور هذه الفتوى، فبالتتبّع لكتب شلتوت وتاريخ الطبع، نجدها كلّها نشرت أو جمعت وأعدت للطبع قبل صدور فتواه بموضوع المقال ، فكتاب ((الإسلام عقيدة وشريعة)) صدر في شهر نوفمبر سنة1959م، ويتضح ذلك من حوار دار بين شلتوت وطه حسين بحضور مستشرق، وقد أهداه شلتوت نسخة، وقال له : من حسن الحظ أنّكم تزوروني اليوم وقد انتهت المطبعة من طبع كتابي ((الإسلام عقيدة وشريعة))(11).
أما كتاب ((الفتاوى)) فقد طبع إمّا معه في نفس الشهر ، أو في شهر ديسمبر، فقد كتب الدكتور محمّد البهي تعريفاً بالكتاب في مجلّة  ((الأزهر))، في عدد شهر يناير سنة 1960م(12) ومعنى هذا أن الكتاب صدر في شهر ديسمبر 1959م.
أمّا كتاب ((من توجيهات الإسلام)) فقد صدر أيضاً في نهاية عام 1959م .
أما تفسير شلتوت فلم يصدره الأزهر كما أصدر كتب شلتوت الثلاث ، فطبعته دار القلم والتي صارت دار الشروق فيما بعد وصدرت الطبعة الأولى منه مطلع سنة 1960م، ومعنى هذا أن كلّ كتب شلتوت التي قام القرضاوي والعسّال بجمعها، جمعت قبل صدور الفتوى أيضاً.
سادساً: إنّ تراث شلتوت لم يجمع جمعاً كاملاً، رغم محاولة الأزهر متمثّلة في تكليف القرضاوي والعسّال بجمع ما أنتجه شلتوت من مقالات وبحوث في كتب، فالقرضاوي والعسّال كلاهما سافرا إلى قطر ، في مطلع الستينيات من القرن الماضي، وقد صدرت كل كتب شلتوت بين عامي : 1959م ، و1960م، وسافر القرضاوي إلى قطر عام1961م ، وسافر العسّال قبله بعام(1960م)(13)، بينما توفّي شلتوت في ديسمبر 1963م، وفي هذه الفترة كانت هناك بحوث ومقالات وتصريحات مهمّة جداً لشلتوت ولم تجمع بعد.
كما أنّ جمع القرضاوي والعسّال لم يكن متقصياً لكلّ تراث الرجل، فقد جمعوه من مظانّه، ومع ذلك فاتهم بعض الشيء مما نشر ، ومن بين هؤلاء مقالات لشلتوت في مجلات وجرائد الإخوان المسلمين، وفي المجلاّت المستأجرة للإخوان كالمباحث القضائية التي كتب فيها شلتوت عدة مقالات.
وأخيراً فإنّ فتوى شيخ الأزهر السابق محمود شلتوت، صرّح بها مفتي مصر حالياً الشيخ علي جمعة –كما ورد في شبكة إشارة الأخبارية ، بتأريخ 5/2/2009م- قائلاً: ((يجوز التعبّد بالمذاهب الشيعيّة ولا حرج ، وقد أفتى بهذا شيخ الأزهر الراحل محمود شلتوت، فالأمّة الإسلامية جسد واحد ، لا فرق فيه بين سنّي وشيعي، طالما أنّ الجميع يصلّي صلاة واحدة ويتّجه لقبلة واحدة ، وأنّ الشيعة كانوا دائما جزء لا يتجزأ  من الأمة الإسلامّية)).    
هذا ما أردنا بيانه عن التصريح الأخير للشيخ يوسف القرضاوي، والحمد لله ربّ العالمين أولاً وآخراً.
محمد الحسّون 30 جمادي الأولى 1430هـ

 

(1) مجلّة ((رسالة الإسلام)) الفصلية، العدد الثالث من السنة الحادية عشر، الصادرة في محرّم سنة 1379هـ يوليو 1959م، الصفحة : 227 -228.
(2) مجلّة المجتمع العربي العدد الثاني والثلاثون الصادر في شهر أغسطس 1959م.
(3) مجلة الأزهر العدد الثالث المجلد الحادي والثلاثون الصادر في ربيع الأول1379هـ - سبتمبر 1959م  ص362.
(4) مجلة الأزهر العدد الثاني من المجلد الحادي والثلاثين ، الصادر في غرة صفر سنة 1372هـ أغسطس سنة 1959م ص : 137 ـ 141.
(5) المصدر السابق ص: 142 ـ 146.
(6) مجلة رسالة الإسلام العدد الرابع من السنة الحادية عشر الصادر في جمادى الأولى 1379هـ ـ سبتمبر 1959م ص: 348 ـ 359.
(7) مجلة رسالة الإسلام العدد الرابع من السنة الحادية عشرة الصادر في جمادى الأولى 1379هـ ـ سبتمبر 1959م ص: 373 ـ 388. ومجلة (الأزهر) العدد السادس من المجلد الحادي والثلاثين الصادر في جمادى الآخرة 1379هـ ـ ديسمبر1959م ص: 526 ـ 536.
(8) مجلة رسالة الإسلام العدد الرابع من السنة الحادية عشرة الصادر في جمادى الأولى 1379هـ ـ سبتمبر 1959م ص : 412 ـ 416.
(9)  مقال (طوائف بهائية وكباشية ثم جماعة التقريب) للشيخ عبد اللطيف السبكي ، المنشور في مجلّة (الأزهر) في العدد الثالث من السنة الرابعة والعشرين، الصادر في ربيع الأول 1372هـ ـ 19 من نوفمبر1952م.
(10) كتب محبّ الدين الخطيب عدّة مقالات في مجلّة الأزهر، يهاجم فكرة التقريب بين السنة والشيعة ، بل وله كتاب (الخطوط العريضة) فيه نقاش لأفكار الشيعة ومعتقداتهم.
(11) مجلّة الأزهر العددان الرابع والخامس من المجلد الحادي والثلاثين الصادر في جمادى الأولى 1379هـ ـ نوفمبر1959م ص: 496.
(12) مجلة الأزهر العدد السابع من المجلد الحادي والثلاثين الصادر في رجب 1379هـ، ـ يناير 1960م  ص: 756 ـ 759.
(13) مذكرات القرضاوي (ابن القرية والكتاب) (2/317).