استغلال الأحزاب السياسيّة
للمواكب الحسينيّة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على خير الأنام، نبيّنا ومقتدانا أبي القاسم محمّد، وعلى أهل بيته الطيّبين الطّاهرين، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.
وبعد،
لكلّ اُمّة من الاُمم، بل لكلّ جماعة من الناس ـ على اختلاف أديانهم ومذاهبهم ومعتقداتهم ـ شعائر وطقوس يؤمنون بها، ويؤدّونها على أنّها فرضٌ لا يمكن التساهل به.
والاُمم والجماعات: السالفة منها، والتي نعاصرها الآن، وحتّى التي تأتي بعدنا، كلّها سواء من حيث المعتقدات، إلّا أنّ الاختلاف في طبيعتها وكيفيّتها يكون تابعاً لعنصري المكان والزمان والمستوى الثقافي للأفراد، فالشعائر التي يؤدّيها المثقّف تختلف عن تلك التي يؤدّيها الأمّي وإن كانت متّحدة من حيث المنشأ والمعتقد.
والشعائر الحسينيّة التي يقيمها أتباع أهل البيت (عليهم السلام) ومحبّوهم، قديمة قِدم واقعة الطفّ الخالدة، ومتأصّلة في النفوس أصالة المبادئ التي ثار من أجلها الإمام الحسين (عليه السلام).
وقد مرّت هذه الشعائر بفترات مدّ وجزر; تبعاً للظروف السياسيّة التي عمّت المجتمع الإسلامي آنذاك، ونزولاً عند رأي الحكّام المتسلّطين على رقاب المسلمين وميولهم لهذه الشعائر وعدمها.
وهذه الشعائر منها: منصوصٌ، فعلها المعصوم وتحدّث عن أجرها وثوابها، وأقرّها حينما اُقيمت أمامه.
ومنها: غير منصوص، تابع للأدلّة العامّة، التي تدلّ على استحباب الحزن والجزع لمصيبة الإمام الحسين (عليه السلام).
وتتنوع الشعائر حسب الزمان والمكان، والشائع منها الآن: إقامة المأتم ومجلس العزاء داخل الحسينيّات والدور، وخروج مواكب العزاء إلى الشوارع والأزقّة، يندبون المولى شهيد الطفّ بأشعار وقصائد حزينة. ومنها: مواكب اللطم، والسلاسل، والقامات، وتمثيل واقعة الطفّ الأليمة.
وتُصاحب مواكب العزاء سواء التي اُقيمت في الحسينيّات والدور، أو التي خرجت للشوارع والأزقّة قراءةُ قصائد شعريّة من قِبل المنشد «الرادود»، أو ترديد هتافات حسينيّة تُسمّى «الردّات».
وهذه الشعارات و «الردّات» الحسينيّة: عبارة عن أبيات ومقاطع شعريّة، بالفصحى واللهجة العاميّة، يردّدها المشاركون في العزاء الحسينيّ، أثناء مسيراتهم التي تجوب الشوارع والأزقّة، أو التي يلقيها المنشد «الرادود» في
داخل الحسينيّات وأماكن إقامة العزاء.
تعكس هذه الشعارات والقصائد رفضَ المجتمع للظلم والطغيان والاستبداد، الذي مارسه يزيد بن معاوية بحقّ الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه الكرام، حتّى أصبح رمزاً للحاكم الجائر المستبد، يقابله في الجانب الآخر الإمامُ الحسين (عليه السلام)، الذي غدا نموذجاً ومثالاً لرفض الظلم والثورة على الاستبداد والطغيان، والاستشهاد في سبيل الحقّ وإعلاء كلمة الله عالياً.
وبهذا أصبح العزاء الحسينيّ ـ إلى جانب وظائفه وأهدافه الاُخرى ـ وسيلةً من وسائل التعبير عن الصراع الخفي مع النظام القائم، ومقاومته في الوقت ذاته بشكل صريح أو رمزي.
وأيضاً أصبح العزاء وسيلةً ومُتنفَّساً للجماهير، تُعبّر من خلاله عن أحوالها السياسيّة الاجتماعيّة الرديئة، وما يحلُّ بها من كوارث طبيعيّة.
وسعى أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، والمشرفون على الهيئات والمواكب الحسينيّة، للحفاظ على هذه المواكب والشعارات والقصائد التي تُنشد فيها، أن تكون حسينيّة عزائيّة صرفة، يبتغون منها رضى الله وشفاعة أهل البيت (عليهم السلام).
إلّا أن الأحزاب والجهات السياسيّة، بذلت قصارى جهودها للتوغّل في هذه الشعائر واستغلالها لصالحها، بل قامت بتأسيس هيئات ومواكب عزائيّة تدعوا لأهدافها السياسيّة، من خلال كسب وخداع بعض المنشدين «الرواديد».
وأثناء جمعي وتحقيقي لرسائل الشعائر الحسينيّة ـ التي طُبعت في أحد عشر جزء وقفتُ على بعض هذه القصائد والردّات السياسيّة، التي اُطلقت في المناسبات الدينيّة في مدن مختلفة في العراق، أذكرها مرتبةً حسب الترتيب
الزمني لها:
* نشرت جريدة «الزمان» البغداديّة صاحبها ورئيس تحريرها توفيق السمعاني في عددها 1657، الصادر في آذار 1943م، مقالة بعنوان «في زيارة الأربعين: عشرات الاُلوف يهتفون بحياة المليك والوصي»، ذَكَرتْ فيه:
«أنّ المواكب العزائيّة لمدينة الكاظميّة المقدّسة، نزلت في شوارع كربلاء المقدّسة، تهتف بحياة الملك ووصيّه، وتُعلن تأييدها للدول «الحليفة»، ومعارضتها لدول «المحور» في الحرب العالميّة الثانيّة، قائلة:
ننتظر يَمْته ينادينا الوصي | ساحة إعلان الحرب لجناها |
لَوَن تنخانا «الحليفة» الظافرة | چان وفّينا العهد وياها |
إن شاء الله «المحور» تدهور وانكسر |
والعروبة حصّلت منواها |
* سنة 1956م قامت مصر بتأميم قناة السويس، وقد أدّى ذلك إلى إحداث العدوان الثلاثي الغاشم على مصر، التي كانت بقيادة جمال عبد الناصر. ولم تألوا شعوب الدول العربيّة ـ ومنها الشعب العراقيّ ـ جهداً في إسنادها. وظهر ذلك جليّاً في ردّات موكب الكوفة في زيارة الأربعين في كربلاء المقدّسة سنة 1957م :
هاي الشباب تريد قائد به عزّ ومرجلة ... يا هلا |
جنود كلّ إحنه إله ... يا هلا |
وبجمال انمثّله ... يا هلا |
* سنة 1959م حصل خلاف بين الزعيم عبد الكريم قاسم والعقيد عبد
عبد السلام عارف، أدّى إلى انقسام الشارع العراقيّ إلى قسمين: الأوّل مويّد للزعيم ولموقفه في دعوته إلى اتّحاد فدرالي مع مصر وسوريا، والثاني مؤيّد للعقيد ودعوته إلى الوحدة الفوريّة دون قيد أو شرط أو مفاوضات مع مصر وسوريا، تحت قيادة جمال عبد الناصر.
وفي ليلة العاشر من محرّم الحرام من هذه السنة، ردّد موكب «البراق» في النجف الأشرف داخل الصحن العلويّ الشريف:
اتّحاد فيدرالي وصداقة سوفيتيّة |
فلتحيا الصين الشعبيّة |
حيدر، يا عليّ |
* سنة 1963م، 18 تشرين الأوّل، سيطر عبد السلام عارف على السلطة في العراق، وقام بحلّ الحرس القوميّ، الذي عاث في الأرض فساداً، وقد عبّر الشارع العراقيّ عن فرحته في القضاء على حزب البعث بقيادة ميشيل عفلق. وخلال الأشهر التسعة التي حكم فيها البعثيون العراق، كان لديهم مذيع يذيع برامجه في الإذاعة العراقيّة اسمه «فاروق»، ويسمّى «فاروق الأعور»، صاحب مقولة «اخرسي يا موسكو». وفي زيارة الأربعين سنة 1964م، نزل موكب العباسيّة الكربلائيّ بردّة هي:
فاروق الأعور | سقط وسافر |
وميشيل عفلق النذل | شاجخيلة خنجر |
* سنة 1965م، نزلَ موكب أهل السماوة في أربعينيّة الإمام الحسين (عليه السلام)
في كربلاء المقدّسة، بردّة ـ مندّدين بعبد السلام عارف ـ تُذكّر الحكّام بقطار الموت، الذي كان يمرّ على مدينتهم للذهاب إلى سجن «نقرة السلمان»، هي:
كم شاب نايم بالسجن | ومن جرحه اليون |
يا نكرة السلمان | للظلم عنوان |
ليش طلع صاحبنه قاسي وغدار |
ومن السماوة أنصار |
* وفيها أيضاً ـ 1965م ـ كان عبد السلام عارف رئيساً للجمهوريّة، وكانت طبيعة السلطة ذات توجّه قوميّ وطائفيّ معادٍ للشيعة، وكان أن حدث انقلاب عسكريّ على أحمد بن بلا رئيس الجمهوريّة الجزائريّة، قام به رئيس أركان الجيش هواري بومدين، وفي زيارة الأربعين في كربلاء المقدّسة، هتف المشاركون في أحد المواكب العزائيّة:
يا لحبل جرّار | وين ابن بيلا صار |
* عندما منح عبد السلام عارف نفسه رتبة «مشير»، وكان رجال الأمن آنذاك يأخذون صور ويسجّلون الردّات الحسينيّة، ويكتبون تقارير عن الناشطين الحسينيّين، عندها كان هتاف أحد المواكب سنة 1965م:
سجّل يا أمن واُخبر مُشيرك | لو ثار الشعب شنهو مصيرك(1) |
____________
(1) انظر: النجف الأشرف عاداتها وتقاليدها، لطالب عليّ الشرقيّ: 357.
* سنة 1965م ألقى أحد المنشدين قصيدة في موكب عزائيّ في مدينة السماوة، انتقد فيها الأوضاع الاقتصاديّة السيئة، والجوع والحرمان الذي يعاني منه المجتمع، جاء فيها:
من أرض السماوة العلم منشور | أرض التضحية واسمع المسطور |
موكبنه الجديدة | گصده يوفي بوعوده |
ويزيل الظلم ويسطع النور | من أرض السماوة العلم منشور |
يحسين وبعد نشجيلك الحال | يمعود علينه حكم الأنذال |
قانون أبو سفيان | تولّه على الأوطان |
يمعوّد علينه الظلم والجور | من أرض السماوة العلم منشور |
ما نصبر بعد ما نحمل العار | لابد للشعب تتغيّر أحوال |
هم ننتظر شجعان | ونحطّم الطغيان |
ونزيل الظلام ويسطع النور | من أرض السماوة العلم منشور |
باب الحكم باقي يا مغرور | ما تدري الفلك دوّار ويدور |
شاهِدنه الجزائر | تكفيك الضماير |
ما تصحه لزمانك ليس مسطور | من أرض السماوة العلم منشور |
خل نحجي عدل والخجل مرفوع | ملايين العوائل تشتكي الجوع |
وين الخير وينه | بعد واصل يجينه |
وين اللي يجي للضلع مكسور | من أرض السماوة العلم منشور |
* وقرأ منشد آخر من أهالي مدينة الكاظميّة المقدّسة سنة 1964م قصيدةً، ينتقد فيها الوضع السياسيّ الجديد، موجّهاً خطابه للإمام الحسين (عليه السلام):
شوف الظلم والجور يا حسينيا | حصّل الرتبة وشدّ النياشين |
بعد شعليه بالبشر | مهما يصير بخطر |
شوف الظلم والجور يا حسين |
شوف الظلم والجور يا حسينيا | بالوحدة فرقوا الملايين |
وحدتهم مو صادقة | يردون بيها التفرقة |
شوف الظلم والجور يا حسين |
* وعندما قام عبد السلام عارف، بمدح بني اُميّة في إحدى خطبه، أثار ذلك غضب الشيعة في العراق، وأنشد أحد المنشدين في «موكب الأنباريّين» في الصحن الكاظمي الشريف سنة 1966م قصيدة جاء فيها:
يا ظالم أهل البيت ندمان | عاقبة هذا الندم |
يصبح وجودك عدم | موكبنه بي مكتوب عنوان |
يردون يتفجّر البركان | بركان لو ينفجر |
وتصير ساعة صفر | موكبنه بي مكتوب عنوان |
ليريد يمدح آل سفيان | ما ينجح بسلطته |
ومدوم إله مرتبه | موكبنه بي مكتوب عنوان |
حكّم ضميرك على العرفان | انصف واحكم عدل |
والعدل جمع الشمل | موكبنه بي مكتوب عنوان |
* سنة 1968م، عندما تضرّر آلاف الفلاحين الفقراء بسبب فيضان نهر الفرات، أنشد أحد المنشدين في موكب عزاء أهالي الكاظميّة المقدّسة، في العشرين من صفر سنة 1968م قصيدةً للشاعر ملّا عبد الحسين الكاظمي، جاء فيها:
صرخة من وادي الكرامة | يا لتمنيتوا الزعامة |
يعتمد على التغيير | ويشتت التفكير |
على الغرب لا تخليها | والعلل أنت داويهه |
والفرات أعظم مصيبة | من تتفجّر أنابيبه |
واحنه مخطورين | ابين هالشطين |
واحتفظ من دواهيهه | والعلل أنت داويهه |
* سنة 1973م بعد مصالحة السلطة العراقيّة مع الأكراد، وتوقيع اتفاقيّة 11 آذار، دخل موكب أهالي المشخاب إلى كربلاء المقدّسة يهتفون:
يهتف المشخاب من طب كربلاء | هذي راية إلآل فتلة إمسجلة |
بالولاء بالولاء |
هذي راية إلآل فتلة مسجلة |
صرختك بالطف يبن عقد الولة | تهتف إلكل الأجيال المقبلة |
بالولاء بالولاء |
هذي راية إلآل فتلة مسجلة |
يا من إبدمك وخدر العائلة | ثبّت الدين أو رجع من أوّله |
بالولاء بالولاء |
هذي راية إلآل فتلة مسجلة |
باسمك أو باسم العدالة الفاضلة | تظل صرخات العدل متواصلة |
بالولاء بالولاء |
هذي راية إلآل فتلة مسجلة |
دعش(1) آذار ابقيادتنه اعتله | خلي الأكراد اتهتف وإطيع اله |
بالولاء بالولاء |
هذي راية إلآل فتلة مسجلة(2) |
الحزب الشيوعي:
أعضاء الحزب الشيوعيّ حاولوا استغلال المواكب الحسينيّة، وإلقاء شعارات يساريّة من خلال المشاركة الفعّالة فيها، ففي موكب العباسيّة الذي كان يُطلق عليه بـ «عزاء الشيوعيّين» ردّدوا:
لو إچه الجيل الورانه | وقدّمنه چم سؤال |
الأراضي العربيّة | ليش تحت الاحتلال |
شلون يقبله عقلنه | تصبح أمريكا أملنا |
هاي خطة أجنبيّة | تقودنه للانهدام |
ها لشعب يا جبهة باسمچ | يمشي بدروب النضال |
قدّم السوفيت إلنه | بالحرب أجمل وسام |
____________
(1) أحد عشر.
(2) وثيقة في مركز النجف الأشرف للتأليف والتوثيق والنشر.
والجيوش العربيّة | تفخر بصاروخ سام(1) |
* وعندما نُصبت الأبواب الذهبيّة لإيوان الحرم العلويّ المبارك في النجف الأشرف، الذي تبرّع بها التاجر الإيراني الحاج محمّد اتفاق، ألقى الرادود عباس ترجمان قصيدة في حفل جماهيري كبير اُقيم في الصحن المبارك، مطلعها:
باب السلام انفتحت | يا لمحب ادخل بيها |
تلگه الفرح بأوّلها | والغانمة بتاليها |
وقد اُتُهم ترجمان بترويجه للحزب الشيوعيّ بقصيدته هذه، لذلك تمّ اعتقاله من قِبل السلطة آنذاك وإحالته إلى لجنة تحقيقيّة.
* يقول السيّد طالب الرفاعيّ ـ أحد مؤسّسي حزب الدعوة الإسلاميّة ـ في «أماليه»:
«أخذت الماركسيّة بالنجف الأشرف دور المرجعيّة، تسرّبت إلى المواكب الحسينيّة عبر الرواديد (شعراء ومنشدو المواكب).
وقصائد الشاعر الشعبيّ عبد الحسين أبو شَبع(2)، وعلى لسان فاضل الرادود، تملأ الفضاء وتُطرب الجماهير، وأنّ مستهلّات اللطميّات كانت شيوعيّة واشتراكيّة، عماليّة وفلاحيّة وعلانيّة، اختطفت منّا العزاء الحسينيّ، فكلُّ النشاط صار شيوعيّاً، أي يتحدّث بلسان الحزب الشيوعيّ.
مثلاً، أثارني عزاء أو موكب مدينة الحيّ، الواقعة على نهر الغرّاف،
____________
(1) انظر: تراجيديا كربلاء: 364 ـ 376.
(2) في هامش الكتاب: «شاعر شعبيّ نجفيّ، كان يسارياً ينتمي إلى الحزب الشيوعيّ العراقيّ، وشعره ذائع على الألسن، ولد 1912، وتوفّي 1980، وقيل: مات مسموماً».
والتابعة إلى لواء الكوت (محافظة واسط) في جنوب العراق، عندما تحرّك من مدينة كربلاء في زيارة صفر أو الأربعين إلى النجف، وكان من مستهلّات لطميّاتهم: «اتّحاد فيدراليّ، صداقة سوفياتيّة مع الصَين الشعبيّة، وأيزنهاور(1) ينهار، يا حيدر يا كرار».
« ... كنت أسير أمام موكب الرفاعيّ بكربلاء ـ كونها مدينتي ـ أنا والشيخ محمّد عليّ الخمايسيّ المرجع الدينيّ هناك، فسمعتُ الردّات شيوعيّة أيضاً، أو تمجّد الأفكار والرؤى الشيوعيّة.
فعندما يقولون: «فيدراليّة عربيّة صداقة سوفياتيّة» أخذتُ أردّ عليهم وبصوت عالٍ: «وحدتنا ويّ (مع) مصر، تأييد إلنا ونصر ... يا حيدر يا كرار» ومعلوم أنّ الأخير هو الشعار الذي كان يرفعه القوميّون والبعثيّون، وأنا هتفتُ به، لا حبّاً بالقوميّين أو البعثيّين، إنّما بغضاً للشيوعيّين.
وإذا الرادود بعد أن سمع هتافي، وأنّ الآخرين تابعوني به، جاء وبعصبيّة يقول: كيف غيّرتم الردّة؟! وكان من أهل النجف، فارجعها إلى ما هي عليه من جديد ...، وعُدت وغيّرت الردة مرّة اُخرى، إلّا أنّ الرادود (المنشد) أعادها.
وبعدها قلت للشيخ الخمايسيّ: لا أستطيع الاستمرار في السير أمام الموكب، فكما ترى الردّات كلّها شيوعيّة، وانسحبت مضطراً»(2).
ويقول أيضاً في مكان آخر من «أماليه»:
____________
(1) في هامش الكتاب: «دوايت ديفيد أيزنهاور: رئيس الولايات المتحدة الأمريكيّة للفترة 1953 ـ 1961، كان قائد حلف النيتو، توفّي 1969».
(2) أمالي السيّد طالب الرفاعيّ: 133 ـ 135.
«كانت القوى كافّة تستغل مراسم عاشوراء، استغلّها الشيوعيّون والقوميّون الناصريّون، وكان يتردّد في المواكب اسم جمال عبد الناصر.
كنتُ أزور موكب آل بدير، القادم من محافظة الناصريّة إلى كربلاء، في زيارة الأربعين (في العشرين من صفر)؛ لأنّ أولاد عمّي هم رؤساء ذلك الموكب، وذلك في العهد الملكي، فأتى مفوّض شرطة وتغدّى معنا، وهو قادم من بغداد لحماية الأمن بين المواكب، وقال:
العجيب الذي شاهدته: أنّ موكباً فيه مستهلّات (شعر) عن جمال عبد الناصر، فسألتُ أحدَ اللطّامين في ذلك الموكب: ما هو دخل جمال عبد الناصر في عزاء الحسين؟
فقال اللطّام ـ وكان رجلاً بسيطاً ـ : إنّه من أصحاب الحسين، ألا تعرفه؟!
بمعنى أنّ ذلك الإنسان كان يجهل عبد الناصر، ويعتقد أنّه من أصحاب الحسين، شأنه شأن حبيب بن مظاهر ومسلم بن عوسجة، وهم من شهداء الطفّ بكربلاء.
وكذلك وظّف الحزب الشيوعيّ العراقيّ عزاءَ عاشوراء أفضلَ توظيف، وكانت مستهلّات الردّات في العام الأوّل من ثورة 14 تموز 1958م أكثر من غيرها لصالح اليسار».(1)
واستمرت الشعارات والقصائد السياسيّة ليومنا هذا، وأتذكّر جيداً الموكب العزائي الذي كان ينظّمه ويخرجه حزب الدعوة الاسلاميّة في مدينة
____________
(1) أمالي السيّد طالب الرفاعيّ: 236 ـ 237.
قم المقدّسة قبل سنة 2003م، والذي تجتمع جماهيره من كلّ مدن إيران، فمجموعةٌ شعارها على فلسطين، واُخرى على أفغانستان، وثالثة على الشيشان... .
بعد سقوط النظام البعثيّ سنة 2003م
* ولا يغيب على القارئ ما يسمعه ويشاهده من شعارات سياسيّة في العراق، تخترق المواكب العزائيّة، فبعد أن أجرى رئيس اقليم كردستان استفتاءً عن استقلال الإقليم، خرجَ في مدينة كربلاء المقدسة موكب عزائي شعاره:
مسعود بارزاني يا راعي التقسيم |
شو أخبار استفتاءك دمّرت الإقليم |
* وعندما دعا السيّد مقتدى الصدر إلى إصلاح الوضع العراقيّ، ورفعَ شعارَ «شلع قلع»، خرجَ موكب عزائيّ، يضرب المعزّون فيه بالزنجيل على ظهورهم، والمنشد ينشد معرِّضاً برئيس الوزراء السابق السيّد نوري المالكيّ قائلاً:
شلع قلع قالها ابن الصدرين | شلع قلع قالها ابن الصدرين |
شلع قلع صاح صيحات حسين | شلع قلع وين المفر لاوين |
أرد أحلفك بالضمير وبالشرف | حسين لو يحضرنه ويامن يكف |
يوكف الهفقرا لو لأهل الترف | حسين لأهل الباطل أبداً ما هتف |
شلع قلع ركابهم يلويها | شلع قلع أحزابهم يمحيها |
إشلع قلع خير لن ما بيها |
كل زمان يعوزنه حسين العصر | ومعتقدنه حسين هو ابن الصدر |
كل زمان يعوزنه دور الشمر | ومعتقدنه الشمر محتال العصر |
شنق شنق نطالب بعدامه | شنق شنق لعيون اليتامه |
شنق شنق سودة ذيج أيامه |
رجعونه قرون حكمه ثمن سنين | ما جنينه وياه بس موت وونين |
وَجْبَة ماكو شلع ظل بس الطحين | گلّي يرضى المهدي لو يرضى الحسين |
شعب شعب تنهض تمنيتك | شعب شعب ساعة واخذوا بيتك |
شعب شعب وصلت التنميتك(1) |
إحنه عدنه حسين للجائع نصير | حسين خبزة بحلك كل واحد فقير |
واللي عنده حسين عن ذني چبير | خلّ يفتّك عقله ويحرك الضمير |
تظن تظن حسين ابن الزهراء | تظن تظن راضي عن الخضراء |
تظن تظن ها ها ها |
حسين رادك بالعَزة بكلّ همّتك | حسين رادك صدك تعلن ثورتك |
حسين رادك على الحكومة صرختك | مو فقط بالموكب تذب حركتك |
نعترف حسين ما نفتهمه | نعترف حسين قِيَمة ولطمة |
نعترف منه يطلب كلمة | شلع قلع شلع قلع |
* وعرَضت إحدى القنوات الفضائيّة في أيام العشرة الاُولى من شهر محرّم الحرام 1441هـ = 2020م ، موكباً عزائيّاً يسير في شوارع كربلاء المقدّسة، وكانت إحدى شعاراته تندّد وتستنكر ما بثّته قناة «الحرة» من تقرير يسيء إلى بعض رجال الحوزة العلميّة ومؤسّساتها، والمتولّي الشرعيّ للعتبة العباسيّة المقدّسة سماحة السيّد أحمد الصافيّ، إذ كان المعزّون يردّدون:
السيّد السيستانيّ ناموس العراق |
يا قناة الحرّة كافي من النفاق |
إحنة للمرجع سند ـ لاوحگ ربنه الصمد |
يا سفير حسين ليش بلا نصير |
* وفي اليوم الثاني عَرضت هذه القناة الفضائيّة مُنشداً حسينياً «رادوداً»، يُنشد قصيدة في موكب أبناء الحسن (عليه السلام) في مدينة النجف الأشرف، جاء فيها:
مو مهم تعليم فاشل | مو مهم كلّ الشاب عاطل |
مو مهم مستشفى مسلخ | مو مهم فوضة مزابل |
المهم لتذم الحكومة | الحكم شيعيّ وأنتَ جاهل |
مو مهم سوء التغذية | وفَسدت ضمائر وأدوية |
مو مهم دم التضحية | نباع والشراي قاتل |
المنبر لازم يذمّه | للما عنده وجدان |
امنين يجيبله الذمّة | للما عنده وجدان |
رادك تصبح انسان |
يعلن المنبر آراءه | ولو مكروه اِليصارح |
على الشعائر هاي هجمة | والهدف ما سونيّ واضح |
على الحشد يومية هجمة | ساكتة أهل المصالح |
عدنه الوضع | شولابس نظارة العميان |
أو متضيّع وجه بائس | ابن الحشد شيريد |
رادك تصبح انسان |
حسين وبعده على المذبح | ينزف دمه إلى الآن |
ما رادك نبي تصبح | رادك تصبح انسان |
تشبه عابس وجون | بخيام اليخدمون |
رادك تصبح انسان |
* وعَرضت هذه القناة أيضاً، موكباً عزائيّاً يسير في شوارع كربلاء المقدّسة، ينتقد المعزّون فيه رئيس القوة القضائيّة مدحت المحمود، قائلين:
والـلّـه والـلّـه | والله فضحتونا |
يا برلمان الصدفة | خلتكم تجون |
ويا أهل الحكومة | الخايفة من اللي كَلونا(1) |
ويا مدحت المحمود | ربعك مرمرونا |
بس بوك وصراعات | يا شعب الحضارات |
فصلّتوا دستورين | إلنه وللكرايب |
وظلّت على الأحزاب | محجوزة المناصب |
صار البلد صومالي | والتحكم أجانب |
بها لدولة الغنيّة | صرنه مسرحيّة |
* وخرج موكب طرف العباسيّة في كربلاء المقدّسة، ليلة الثامن من شهر محرّم في هذه السنة ـ 1441هـ ـ ، يردّد شعارات:
قانون الخطّة الخمسيّة يبني البلدان |
واحنه بلا تخطيط السلطة تهدم البنيان |
لابنية اولا استثمار | من صندوق الإعمار |
يحسين وياك | ضدّ العاداك |
چم خاين عدنه بها لسلطة من الأحزاب |
يسرق من قوتك يا شعبي من دون حساب |
حقنا بركبتكم دين | باكو بسمك يحسين |
يحسين وياك | ضدّ العاداك |
____________
(1) أي أكلونا.
قانون القدسية يحرّم نهب الأموال |
وتفرض تشريع وتعمل عكسه بأفعال |
يا لشرّعت القانون | تسرق شعبك وتخون |
يحسين وياك | ضدّ العاداك |
يفتر بين ايران ولندن ابن المسؤول |
ما همه دم شعبي النازف من دون حلول |
يوميه لدوله يروح | وشعبي بالهم مجروح |
يحسين وياك | ضدّ العاداك |
ها لخرّيجين بلا راتب حصّتهم وين | |
واحدهم يتظاهر بالحقّ يطلب تعيين |
حقّه وليش تسلبوه | مو مفروض تعينوه |
يحسين وياك | ضدّ العاداك |
نسمع باصلاحات الساسة وكلشي منشوف |
كلّ عام المسؤول الحجي بالكعبة يطوف |
يتستّر باسم الدين | وماكل حقّ المسكين |
يحسين وياك | ضدّ العاداك |
* وردَّدَ موكب عزاء جمهور طرف العباسيّة الكربلائي سنة 2013م في شهر محرّم الحرام:
البرلماني وعنده راتب عالي | تكول نص الشهر ما يبقالي |
حقنه ضاع بين ايديك | الله لا يرضى عليك |
يا أبو الأحرار هذي اصواتنا |
أنتو تختلفون واحنه شحالنه | والله ما عدكم رحم لأطفالنه |
ليش يوميه انفجار | قتل وبوضح النهار |
يا أبو الأحرار هذي اصواتنا |
* وفي عام 2020م، الذي سبقته الأحداث التشرينية، ردَّدَت بعض المواكب الحسينيّة:
البرلماني وعنده راتب عاليوين الأهم وين المهم | مو فقط مشايه ولطم |
حسين ثورة على الظلم | وجسدته الناصرية |
راح نجسد طف حسين | من مبدأ ثورة تشرين |
* وذهب بعيداً الشاعر ثامر السرّاج الكاظميّ، وتجاوز حدّه، وأساء للحوزة العلميّة حينما حصر عملها في بيان الأحكام الشرعيّة، قائلاً:
شوفوا التطوّر بأوربا | التطوّر هذا بالتغيير إجاهم |
عزلوا القس بالكنيسة | من صُبح مصدر أذاهم |
هالناس حُرة وتفهم الحريّة | منهم اتعلموا منهم اُخذوا شويّة |
دور العمامه المسأله الشرعيّة |
هذا جزء يسير ممّا وقفتُ عليه من قصائد وردّات حسينيّة، وهناك الكثير مثلها يحفظها ويردّدها كبار السنّ الذين عاصروا الأحداث السياسيّة في العقود
الماضيّة. والحمد لله أوّلاً وآخراً.
محمّد الحسّون
12 ذي العقدة 1442هـ
الصفحة على الإنترنيت: www.alhasun.com
البريد الإلكتروني: muhammad@aqaed.com