مقابلة مع أحد المشاركين في "انتفاضة صفر" في العراق

مقابلة مع أحد المشاركين في "انتفاضة صفر" في العراق
طرق التعذيب التي كان يراها البعثيون مزحة!

حجة الإسلام والمسلمين الشيخ محمد الحسون، أحد المشاركين في انتفاضة صفر في العراق (قبل 39 عاماً) والذين اعتُقِل وعُذِّب من قبل البعثيين، يصف ـ في مقابلة له مع وكالة أنباء الحوزة ـ تفاصيل "الانتفاضة" وكيفية تعامل البعثيون مع السجناء، ويُلقي نظرة على آثار ونتائج هذه الحركة الشعبية على المستوى السياسي والاجتماعي في العراق.

وفقاً لتقرير القسم الدولي في وكالة أنباء الحوزة فقد امتزج تاريخ العراق المعاصر بجرائم الحكام البعثيين وعدائهم للدين والحوزات العلمية والشعائر الدينية وأحكام القرآن، فالبعثيون ومنذ هیمنتهم على الشعب العراقي المسلم بدأوا بفرض قيود ورقابة صارمة على زوار سيد الشهداء (عليه السلام) وعاملوا الزوار ومن يقيم العزاء بأبشع الطرق اللاإنسانية، إلاّ أنّ الناس ـ ومهما كلّفهم من ثمن ـ سعوا في سبيل الحفاظ على شعائر عاشوراء، ولا سيما المشي على الأقدام لزيارة الإمام الحسين (عليه السلام)، وفي نهاية المطاف ونظراً للتوجيه الرسمي للبعثيين حول منع المشي إلى كربلاء عام 1397 هـ ق، بدأ الناس باتّخاذ خطوة كبيرة لمواجهة النظام، كما استخدمت القوات الحكومية الدبابات وناقلات الجنود المدرّعة والطائرات لسحق مسيرة زوار الإمام الحسين (عليه السلام) المشاة على الأقدام على طريق (النجف ـ كربلاء) واعتقلت الآلاف منهم، وتُعدُّ هذه الخطوة الثورية ـ المعروفة باسم انتفاضة صفر الخير أو انتفاضة الأربعين ـ صفحة من صفحات المجد في تاريخ الموالين لأهل البيت عليهم السلام.
وفي هذا السياق قام حجة الإسلام والمسلمين الشيخ محمّد الحسون (مدير مركز الأبحاث العقائدية) الذي كان حينذاك شابّاً في السابعة عشر من عمره وكان بين زوار الأربعين، فاعتُقِل وتمّ تعذيبه، قام بتبيين تفاصيل هذه الانتفاضة في مقابلة مع وكالة أنباء الحوزة، جاء فيها:

مباني وتاريخ زيارة الأربعين مشياً على الأقدام
تطرّقت الروايات إلى استحباب زيارة سيد الشهداء (عليه السلام) مشياً على الأقدام، كما ذكر التاريخ أنّ مجموعة من العلماء وطلاب الحوزة العلمية كانوا يذهبون من النجف إلى كربلاء مشياً على الأقدام في زمن الشيخ الأنصاري (المتوفى عام 1261 هـ)، إلاّ أنّ هذه الحركة كانت محدودة حتى شهدت شيئاً من التطوّر في عهد المحدّث النوري (المتوفى عام 1320 هـ)، وقد أشير إلى هذا الأمر بالتفصيل في أوّل كتاب مستدرك الوسائل وأنّ النجفيين كانوا يسيرون من النجف إلى كربلاء ويبيتون ثلاثة أيام في الطريق.

كيف عامل البعثيون الشيعة في بداية السلطة
عندما وصل البعثيون إلى السلطة عام 1968 م لم يكن لديهم الكثير من القوة، فقاموا بمساعدة العزيات والهيئات والمواكب الحسينية لإرضاء الجمهور؛ وحتى أنّ السيد عبد الرزاق الحبوبي محافظ النجف حينها ـ والذي كان من جيراننا ـ كان يذهب لتقبيل أيادي المراجع والعلماء ويساعد الهيئات الحسينية.

بدء الضغط على الشيعة وحظر المشي على الأقدام في زيارة الأربعين
استمر الوضع على ما كان عليه لخمس سنوات حتى ازداد الضغط على الشيعة ومراسيم العزاء تدريجياً، وكانوا يفرضون في كلّ عام قيوداً جديدة على عزاء سيد الشهداء (عليه السلام) حتى أعلنت حكومة البعث عام 1977 م (1397 هـ) حظر زيارة كربلاء مشياً على الأقدام! هدّدت القوى البعثية رسمياً الناس بعدم الذهاب إلى كربلاء لزيارة الأربعين، لكنّ الشباب والنجفيين كان قد اتّفقوا على زيارة الحسين (عليه السلام) مشياً على الأقدام، وقد كان للنجف حينها أربعة أحياء مشهورة، فالتقى من هذه الأحياء مجموعة من الشباب الذين كانوا يُعدُّون من منظمي هذه الحركة،  وصار من المقرّر أن يبدأوا السير على الأقدام من النجف إلى كربلاء قبل أربعة أيام من يوم الأربعين.
كنت أبلغ أنذاك 17 عاماً، وفي يوم بدء السير كان في يد كلٍّ من الزوار لافتة صغيرة كُتِب عليها (يا حسين)، وأمام المجموعة علماً كبيراً باللون الأخضر كُتِبت عليه الآية الشريفة: (يد الله فوق أيديهم). 

اندهاش البعثيين من الحركة الموحّدة لشباب النجف
في البداية كنا مئات الأشخاص، إلا أنّ محلّات النجف أُغلِقت، ومع زدياد الأعداد أصبحنا شيئاً فشيئاً بالآلاف، وكان من الواضح أنّ البعثيين كانوا مندهشين ولم يتصوّروا بوجه أنّهم سيواجهون مثل هذه الحركة المتماسكة والموحدة.
كان الحماس الثوري بين الشباب لدرجة أنّنا دخلنا مرقد أمير المؤمنين (عليه السلام) في بداية الطريق من باب الساعة ونحن ننادي (يا حسين، يا حسين)، وفي الطريق قام أحد الشباب بكسر صورة أحمد حسن البكر (الرئيس العراقي أنذاك) وصدام (نائب الرئيس).

الاعتداء على زوار سيد الشهداء (علیه السلام)
يقف النجفيون في طريق المشي نحو كربلاء في ثلاثة أماكن ويبيتون فيها، أحد تلك الأماكن خان الربع، والآخر خان النصف والثالث خان النخيلة، وصلنا في اليوم الأول إلى خان الربع، وكان البعثيون يرسلون رسائل تهديد بعدم الاستمرار في السير، إلاّ أنّ زوار سيد الشهداء (عليه السلام) كانوا عازمين على المواصلة، حتى وصلنا في اليوم الثاني إلى خان النصف (الذي يقع في منتصف الطريق بين النجف وكربلاء)، حيث هاجم البعثيون الزوار واستشهد أحد الشباب، وسرعان ما انتشر خبر هذه الحادثة، وكان الوضع في النجف غير مستقر للغاية، فانضم العديد من الناس إلى الزوار وازداد عدد الناس، وفي اليوم الثالث كنّا قد وصلنا إلى خان النخيلة، وبينما كنّا على وشك البدء في السير حاصرتنا قوات الجيش فجأةً بالدبابات والمعدات والمركبات العسكرية الكبيرة، وفي الوقت نفسه حلّقت طائرتان فوقنا في السماء، وكانتا تقتربان باستمرار من الحشود لترويعهم.

الاعتقال والسير باتّجاه معسكر الرشيد في بغداد
كان زوار سيد الشهداء (عليه السلام) حول بعضهم البعض، يُصبّر بعضهم البعض الآخر حتى انقسموا إلى مجموعتين، فدخل بعضهم الطريق الجانبي بين الحدائق والقرى المحيطة بالطريق، وظلّ البعض الآخر على نفس الطريق الرئيسي، علمنا فيما بعد أنّ أولئك الذين استمروا في السير من الطريق الجانبي وصلوا إلى كربلاء، لكننا كنّا في حصار البعثيين، وكانت حلقة الحصار تشتدّ علينا لحظة بلحظة، حتى اعتُقِلنا جميعاً، وأخذونا إلى كربلاء بسيارات الشرطة، وكنّا في مكتب المخابرات لساعة، فكتبوا أسماءنا، ثم تمّ نقلنا إلى بغداد بالسيارات المختصّة بنقل المحتجزين الخاصّين ـ إذ كان المحتجزون داخل ما يشبه قفص مغلق ـ فأدخلونا معسكر الرشيد في بغداد، وكان معسكراً كبيراً.

السجن في زنزانة يُعدُّ البقاء فيها بحدّ ذاته تعذيباً
ثم اقتادونا إلى سجن الرياضة التي لم نعرف سبب تسميته بهذا الاسم، إلاّ أنّ مجرّد البقاء في زنزانته كان يُعدُّ تعذيباً؛ ذلك أنّ الزنزانة كانت عبارة عن غرفة تقلّ مساحتها عن 12 متراً بجدار أسود وأرضية سوداء، وكان فيها باباً حديدياً كباب الخزائن وفي وسطه فتحة صغيرة جداً، ولم يكن في الغرفة ضوء، بل كان في كلّ الممرّ ضوء واحد لكلِّ الغرف!
في هذه الغرفة ـ التي تبلغ مساحتها أقلّ من 12 متراً ـ كانوا قد احتجزوا 40 شخصاً، ولم يكن يتمكّن أيّ شخص من التحرّك، وحتى 48 ساعة لم يأتوا بأيّ طعام أو ماء، بل ولم يجيزوا الذهاب للتخلّي. 
من الضروري أن أشير إلى هذه الأمور كي يعلم الناس بأنّنا الذين اشتركنا في المشي على الأقدام في زيارة الأربعين فحسب عاملونا بهذه الكيفية فكيف بمن كان من المجاهدين؟! وبالمناسبة، في الزنزانة نفسها رأيت أسماء خمسة أعضاء من حزب الدعوة نحتوا أسمائهم على الحائط، منهم الشيخ عارف البصري، السيد عز الدين القبانجي والسيد التبريزي، وكان قد أُعدِم هؤلاء قبل ذلك من قِبَل البعثيين.
بقينا في تلك الغرفة ليلتين كاملتين ولم يُسمح لأحد بالخروج إلى دورة المياه فكانت الظروف صعبة للغاية، وقد أُصيب العديد منهم في ذاك الوقت بأمراض الكلى وأمراض أخرى لا زالوا يعانون منها.
بعد ليلتين جاءوا لإطعامنا، لكن الطعام الذي أعطوه لنا كان سبباً في أن يصاب الكلُّ بالإسهال، فسادت ظروف صعبة للغاية في تلك الزنزانة. 

حرب نفسية، استجواب وجلد
ثم بدأت التحقيقات والاستجوابات، وإذ أنّ معظمنا كان من الشباب ولم يكن قد جرّب السجن أو التعذيب سابقاً فإنّهم أغلقوا أعيننا، وقبل أن ندخل إلى غرفة الاستجواب سمعنا صوت ضرب شخصٍ كان يطلب المساعدة بصوت عالٍ، وقال بعد عدّة ثوانٍ: (سأعترف! لا تضربوني سأعترف!)، بالطبع اكتشفنا لاحقاً أنّه كان صوتاً مسجلاً، وأنّهم كانوا يريدون شنّ حرب نفسية حتى يفقد الشباب ثقتهم ومعنوياتهم ويعترفون بسهولة.
عندما دخلت غرفة الاستجواب سألني المحقّق عن سبب حضوري، فأجبت: جئت لزيارة الإمام الحسين، فشُدَّت يداي على خشبة وبدأ بجلدي، عند جلدي بالسوط الأوّل أحسست وكأنّ أنفاسي قد انقطعت، في تلك اللحظة توسّلت بالسيدة الزهراء حتى أكون قادراً على عدم الاعتراف؛ ذلك أنّهم كانوا يريدون من خلال هذه الاستجوابات أن يصلوا إلى منظمي حركة المشاة هذه والذي أداروها، لم أشعر بالسوط الثالث وما بعده وفقدت الوعي، عندما فتحت عيني صفعني المحقّق على وجهي بضع صفعات، ثم أعطاني خرقة، في البداية ظننت أنّه يجب أن أنظّف أنفي بها، ولكنّي أدركت أنّ الدماء تخرج من أذني، بعد الاستجواب نُقلنا إلى زنزانة أخرى كانت أكبر بقليل من الزنزانة السابقة، لكنّهم كانوا يتشدّدون أيضاً عندما كان يريد أحدنا الذهاب إلى دورة المياه، وكان الشباب يتعرّضون للضرب بذرائع مختلفة في كلّ مرّة يخرجون فيها، بالمناسبة كان السجّانون أيضاً شباباً بملابس أنيقة، اكتشفت بعد ذلك أنّهم كانوا قد تربّوا في الحضانات واجتذبهم البعثيون فيما بعد.

لم يكن ذلك تعذيبا بل مزحة !!
بقيت في السجن 13 يوماً، وفي اليوم الأخير أحضروا قائمة أسماء وقرأوها، وكان اسمي فيها فأطلقوا سراحنا، وقبل إطلاق سراحي قال مسؤول بعثي: لا تعتقدوا أنّكم تعرّضتم للتعذيب هنا، فنحن لم نعذّبكم وهذه الأفعال كانت أشبه بالمزحة! تعذيبنا يكون كإذابة الحديد!

لم يكن لوسائل الإعلام الإيرانية أيّ تغطية إعلامية للانتفاضة
كانت العلاقات السياسية بين العراق ونظام بهلوي جيدة حينها فلم تنعكس هذه الحادثة الهامّة في وسائل الإعلام الإيرانية على الإطلاق، إلا أنّ ما حدث بعد الانتفاضة الصفرية هو أنّ الشباب تجرّأوا على الوقوف في وجه النظام البعثي، وخاصةً بعد أن أصبحت ظاهرة العداء للدين من قبل البعثيين أوضح للناس من ذي قبل.

الآثار السياسية والاجتماعية للانتفاضة
تمّ إعدام سبعة أشخاص في هذه الحادثة وحُكِم على 15 نفراً بالسجن مدى الحياة، ممّا أدّى إلى كراهية الناس ـ وبصورة عامة ـ للبعثيين، كما دخل حزب الدعوة والمجاهدين العراقيون على الخط، فانجذب العديد من الشباب إلى حزب الدعوة، وشُكِّلَت مجاميع عديدة من الشباب المعارضين للبعثيين، بل صار حتى أولئك الذين لم ينتموا إلى حزب الدعوة نشطين في مجال الأنشطة المناهضة للبعث.
في ذلك الوقت، ونظراً للخناق الموجود لم ترتفع أصوات الانتفاضة الشعبية إلى مستوى الإعلام، ولكن أرى أنّ الإعلام لم يؤدِّ حق هذه الحادثة لحد الآن، والمجال مفسوح لدراسة أبعاد هذه الانتفاضة وزواياها المختلفة سنويّاً.
وقعت هذه الانتفاضة قبل سنتين من الثورة الإسلامية في إيران، وكانت إحدى نتائج انتفاضة الأربعين أنّ عيون جميع سكان النجف وكربلاء والمدن الشيعية العراقية الأخرى كانت على الثورة الإيرانية.

أجرى الحوار: حسن صدرايي عارفمقابلة مع أحد المشاركين في "انتفاضة صفر" في العراق
طرق التعذيب التي كان يراها البعثيون مزحة!

حجة الإسلام والمسلمين الشيخ محمد الحسون، أحد المشاركين في انتفاضة صفر في العراق (قبل 39 عاماً) والذين اعتُقِل وعُذِّب من قبل البعثيين، يصف ـ في مقابلة له مع وكالة أنباء الحوزة ـ تفاصيل "الانتفاضة" وكيفية تعامل البعثيون مع السجناء، ويُلقي نظرة على آثار ونتائج هذه الحركة الشعبية على المستوى السياسي والاجتماعي في العراق.

وفقاً لتقرير القسم الدولي في وكالة أنباء الحوزة فقد امتزج تاريخ العراق المعاصر بجرائم الحكام البعثيين وعدائهم للدين والحوزات العلمية والشعائر الدينية وأحكام القرآن، فالبعثيون ومنذ هیمنتهم على الشعب العراقي المسلم بدأوا بفرض قيود ورقابة صارمة على زوار سيد الشهداء (عليه السلام) وعاملوا الزوار ومن يقيم العزاء بأبشع الطرق اللاإنسانية، إلاّ أنّ الناس ـ ومهما كلّفهم من ثمن ـ سعوا في سبيل الحفاظ على شعائر عاشوراء، ولا سيما المشي على الأقدام لزيارة الإمام الحسين (عليه السلام)، وفي نهاية المطاف ونظراً للتوجيه الرسمي للبعثيين حول منع المشي إلى كربلاء عام 1397 هـ ق، بدأ الناس باتّخاذ خطوة كبيرة لمواجهة النظام، كما استخدمت القوات الحكومية الدبابات وناقلات الجنود المدرّعة والطائرات لسحق مسيرة زوار الإمام الحسين (عليه السلام) المشاة على الأقدام على طريق (النجف ـ كربلاء) واعتقلت الآلاف منهم، وتُعدُّ هذه الخطوة الثورية ـ المعروفة باسم انتفاضة صفر الخير أو انتفاضة الأربعين ـ صفحة من صفحات المجد في تاريخ الموالين لأهل البيت عليهم السلام.
وفي هذا السياق قام حجة الإسلام والمسلمين الشيخ محمّد الحسون (مدير مركز الأبحاث العقائدية) الذي كان حينذاك شابّاً في السابعة عشر من عمره وكان بين زوار الأربعين، فاعتُقِل وتمّ تعذيبه، قام بتبيين تفاصيل هذه الانتفاضة في مقابلة مع وكالة أنباء الحوزة، جاء فيها:

مباني وتاريخ زيارة الأربعين مشياً على الأقدام
تطرّقت الروايات إلى استحباب زيارة سيد الشهداء (عليه السلام) مشياً على الأقدام، كما ذكر التاريخ أنّ مجموعة من العلماء وطلاب الحوزة العلمية كانوا يذهبون من النجف إلى كربلاء مشياً على الأقدام في زمن الشيخ الأنصاري (المتوفى عام 1261 هـ)، إلاّ أنّ هذه الحركة كانت محدودة حتى شهدت شيئاً من التطوّر في عهد المحدّث النوري (المتوفى عام 1320 هـ)، وقد أشير إلى هذا الأمر بالتفصيل في أوّل كتاب مستدرك الوسائل وأنّ النجفيين كانوا يسيرون من النجف إلى كربلاء ويبيتون ثلاثة أيام في الطريق.

كيف عامل البعثيون الشيعة في بداية السلطة
عندما وصل البعثيون إلى السلطة عام 1968 م لم يكن لديهم الكثير من القوة، فقاموا بمساعدة العزيات والهيئات والمواكب الحسينية لإرضاء الجمهور؛ وحتى أنّ السيد عبد الرزاق الحبوبي محافظ النجف حينها ـ والذي كان من جيراننا ـ كان يذهب لتقبيل أيادي المراجع والعلماء ويساعد الهيئات الحسينية.

بدء الضغط على الشيعة وحظر المشي على الأقدام في زيارة الأربعين
استمر الوضع على ما كان عليه لخمس سنوات حتى ازداد الضغط على الشيعة ومراسيم العزاء تدريجياً، وكانوا يفرضون في كلّ عام قيوداً جديدة على عزاء سيد الشهداء (عليه السلام) حتى أعلنت حكومة البعث عام 1977 م (1397 هـ) حظر زيارة كربلاء مشياً على الأقدام! هدّدت القوى البعثية رسمياً الناس بعدم الذهاب إلى كربلاء لزيارة الأربعين، لكنّ الشباب والنجفيين كان قد اتّفقوا على زيارة الحسين (عليه السلام) مشياً على الأقدام، وقد كان للنجف حينها أربعة أحياء مشهورة، فالتقى من هذه الأحياء مجموعة من الشباب الذين كانوا يُعدُّون من منظمي هذه الحركة،  وصار من المقرّر أن يبدأوا السير على الأقدام من النجف إلى كربلاء قبل أربعة أيام من يوم الأربعين.
كنت أبلغ أنذاك 17 عاماً، وفي يوم بدء السير كان في يد كلٍّ من الزوار لافتة صغيرة كُتِب عليها (يا حسين)، وأمام المجموعة علماً كبيراً باللون الأخضر كُتِبت عليه الآية الشريفة: (يد الله فوق أيديهم). 

اندهاش البعثيين من الحركة الموحّدة لشباب النجف
في البداية كنا مئات الأشخاص، إلا أنّ محلّات النجف أُغلِقت، ومع زدياد الأعداد أصبحنا شيئاً فشيئاً بالآلاف، وكان من الواضح أنّ البعثيين كانوا مندهشين ولم يتصوّروا بوجه أنّهم سيواجهون مثل هذه الحركة المتماسكة والموحدة.
كان الحماس الثوري بين الشباب لدرجة أنّنا دخلنا مرقد أمير المؤمنين (عليه السلام) في بداية الطريق من باب الساعة ونحن ننادي (يا حسين، يا حسين)، وفي الطريق قام أحد الشباب بكسر صورة أحمد حسن البكر (الرئيس العراقي أنذاك) وصدام (نائب الرئيس).

الاعتداء على زوار سيد الشهداء (علیه السلام)
يقف النجفيون في طريق المشي نحو كربلاء في ثلاثة أماكن ويبيتون فيها، أحد تلك الأماكن خان الربع، والآخر خان النصف والثالث خان النخيلة، وصلنا في اليوم الأول إلى خان الربع، وكان البعثيون يرسلون رسائل تهديد بعدم الاستمرار في السير، إلاّ أنّ زوار سيد الشهداء (عليه السلام) كانوا عازمين على المواصلة، حتى وصلنا في اليوم الثاني إلى خان النصف (الذي يقع في منتصف الطريق بين النجف وكربلاء)، حيث هاجم البعثيون الزوار واستشهد أحد الشباب، وسرعان ما انتشر خبر هذه الحادثة، وكان الوضع في النجف غير مستقر للغاية، فانضم العديد من الناس إلى الزوار وازداد عدد الناس، وفي اليوم الثالث كنّا قد وصلنا إلى خان النخيلة، وبينما كنّا على وشك البدء في السير حاصرتنا قوات الجيش فجأةً بالدبابات والمعدات والمركبات العسكرية الكبيرة، وفي الوقت نفسه حلّقت طائرتان فوقنا في السماء، وكانتا تقتربان باستمرار من الحشود لترويعهم.

الاعتقال والسير باتّجاه معسكر الرشيد في بغداد
كان زوار سيد الشهداء (عليه السلام) حول بعضهم البعض، يُصبّر بعضهم البعض الآخر حتى انقسموا إلى مجموعتين، فدخل بعضهم الطريق الجانبي بين الحدائق والقرى المحيطة بالطريق، وظلّ البعض الآخر على نفس الطريق الرئيسي، علمنا فيما بعد أنّ أولئك الذين استمروا في السير من الطريق الجانبي وصلوا إلى كربلاء، لكننا كنّا في حصار البعثيين، وكانت حلقة الحصار تشتدّ علينا لحظة بلحظة، حتى اعتُقِلنا جميعاً، وأخذونا إلى كربلاء بسيارات الشرطة، وكنّا في مكتب المخابرات لساعة، فكتبوا أسماءنا، ثم تمّ نقلنا إلى بغداد بالسيارات المختصّة بنقل المحتجزين الخاصّين ـ إذ كان المحتجزون داخل ما يشبه قفص مغلق ـ فأدخلونا معسكر الرشيد في بغداد، وكان معسكراً كبيراً.

السجن في زنزانة يُعدُّ البقاء فيها بحدّ ذاته تعذيباً
ثم اقتادونا إلى سجن الرياضة التي لم نعرف سبب تسميته بهذا الاسم، إلاّ أنّ مجرّد البقاء في زنزانته كان يُعدُّ تعذيباً؛ ذلك أنّ الزنزانة كانت عبارة عن غرفة تقلّ مساحتها عن 12 متراً بجدار أسود وأرضية سوداء، وكان فيها باباً حديدياً كباب الخزائن وفي وسطه فتحة صغيرة جداً، ولم يكن في الغرفة ضوء، بل كان في كلّ الممرّ ضوء واحد لكلِّ الغرف!
في هذه الغرفة ـ التي تبلغ مساحتها أقلّ من 12 متراً ـ كانوا قد احتجزوا 40 شخصاً، ولم يكن يتمكّن أيّ شخص من التحرّك، وحتى 48 ساعة لم يأتوا بأيّ طعام أو ماء، بل ولم يجيزوا الذهاب للتخلّي. 
من الضروري أن أشير إلى هذه الأمور كي يعلم الناس بأنّنا الذين اشتركنا في المشي على الأقدام في زيارة الأربعين فحسب عاملونا بهذه الكيفية فكيف بمن كان من المجاهدين؟! وبالمناسبة، في الزنزانة نفسها رأيت أسماء خمسة أعضاء من حزب الدعوة نحتوا أسمائهم على الحائط، منهم الشيخ عارف البصري، السيد عز الدين القبانجي والسيد التبريزي، وكان قد أُعدِم هؤلاء قبل ذلك من قِبَل البعثيين.
بقينا في تلك الغرفة ليلتين كاملتين ولم يُسمح لأحد بالخروج إلى دورة المياه فكانت الظروف صعبة للغاية، وقد أُصيب العديد منهم في ذاك الوقت بأمراض الكلى وأمراض أخرى لا زالوا يعانون منها.
بعد ليلتين جاءوا لإطعامنا، لكن الطعام الذي أعطوه لنا كان سبباً في أن يصاب الكلُّ بالإسهال، فسادت ظروف صعبة للغاية في تلك الزنزانة. 

حرب نفسية، استجواب وجلد
ثم بدأت التحقيقات والاستجوابات، وإذ أنّ معظمنا كان من الشباب ولم يكن قد جرّب السجن أو التعذيب سابقاً فإنّهم أغلقوا أعيننا، وقبل أن ندخل إلى غرفة الاستجواب سمعنا صوت ضرب شخصٍ كان يطلب المساعدة بصوت عالٍ، وقال بعد عدّة ثوانٍ: (سأعترف! لا تضربوني سأعترف!)، بالطبع اكتشفنا لاحقاً أنّه كان صوتاً مسجلاً، وأنّهم كانوا يريدون شنّ حرب نفسية حتى يفقد الشباب ثقتهم ومعنوياتهم ويعترفون بسهولة.
عندما دخلت غرفة الاستجواب سألني المحقّق عن سبب حضوري، فأجبت: جئت لزيارة الإمام الحسين، فشُدَّت يداي على خشبة وبدأ بجلدي، عند جلدي بالسوط الأوّل أحسست وكأنّ أنفاسي قد انقطعت، في تلك اللحظة توسّلت بالسيدة الزهراء حتى أكون قادراً على عدم الاعتراف؛ ذلك أنّهم كانوا يريدون من خلال هذه الاستجوابات أن يصلوا إلى منظمي حركة المشاة هذه والذي أداروها، لم أشعر بالسوط الثالث وما بعده وفقدت الوعي، عندما فتحت عيني صفعني المحقّق على وجهي بضع صفعات، ثم أعطاني خرقة، في البداية ظننت أنّه يجب أن أنظّف أنفي بها، ولكنّي أدركت أنّ الدماء تخرج من أذني، بعد الاستجواب نُقلنا إلى زنزانة أخرى كانت أكبر بقليل من الزنزانة السابقة، لكنّهم كانوا يتشدّدون أيضاً عندما كان يريد أحدنا الذهاب إلى دورة المياه، وكان الشباب يتعرّضون للضرب بذرائع مختلفة في كلّ مرّة يخرجون فيها، بالمناسبة كان السجّانون أيضاً شباباً بملابس أنيقة، اكتشفت بعد ذلك أنّهم كانوا قد تربّوا في الحضانات واجتذبهم البعثيون فيما بعد.

لم يكن ذلك تعذيبا بل مزحة !!
بقيت في السجن 13 يوماً، وفي اليوم الأخير أحضروا قائمة أسماء وقرأوها، وكان اسمي فيها فأطلقوا سراحنا، وقبل إطلاق سراحي قال مسؤول بعثي: لا تعتقدوا أنّكم تعرّضتم للتعذيب هنا، فنحن لم نعذّبكم وهذه الأفعال كانت أشبه بالمزحة! تعذيبنا يكون كإذابة الحديد!

لم يكن لوسائل الإعلام الإيرانية أيّ تغطية إعلامية للانتفاضة
كانت العلاقات السياسية بين العراق ونظام بهلوي جيدة حينها فلم تنعكس هذه الحادثة الهامّة في وسائل الإعلام الإيرانية على الإطلاق، إلا أنّ ما حدث بعد الانتفاضة الصفرية هو أنّ الشباب تجرّأوا على الوقوف في وجه النظام البعثي، وخاصةً بعد أن أصبحت ظاهرة العداء للدين من قبل البعثيين أوضح للناس من ذي قبل.

الآثار السياسية والاجتماعية للانتفاضة
تمّ إعدام سبعة أشخاص في هذه الحادثة وحُكِم على 15 نفراً بالسجن مدى الحياة، ممّا أدّى إلى كراهية الناس ـ وبصورة عامة ـ للبعثيين، كما دخل حزب الدعوة والمجاهدين العراقيون على الخط، فانجذب العديد من الشباب إلى حزب الدعوة، وشُكِّلَت مجاميع عديدة من الشباب المعارضين للبعثيين، بل صار حتى أولئك الذين لم ينتموا إلى حزب الدعوة نشطين في مجال الأنشطة المناهضة للبعث.
في ذلك الوقت، ونظراً للخناق الموجود لم ترتفع أصوات الانتفاضة الشعبية إلى مستوى الإعلام، ولكن أرى أنّ الإعلام لم يؤدِّ حق هذه الحادثة لحد الآن، والمجال مفسوح لدراسة أبعاد هذه الانتفاضة وزواياها المختلفة سنويّاً.
وقعت هذه الانتفاضة قبل سنتين من الثورة الإسلامية في إيران، وكانت إحدى نتائج انتفاضة الأربعين أنّ عيون جميع سكان النجف وكربلاء والمدن الشيعية العراقية الأخرى كانت على الثورة الإيرانية.

أجرى الحوار: حسن صدرايي عارف