الصفحة 26

المقدّمة الثالثة:

يشترط لصلاة الجمعة وجود الإمام المعصوم، أو نائبه. وعلى ذلك إجماع علمائنا قاطبة، وممّن نقل الإجماع على ذلك من متأخّري أصحابنا: المحقّق نجم الدين بن سعيد في (المعتبر)(1)، والعلاّمة المتبحّر جمال الدين ابن المطهّر في كتبه كـ (التذكرة)(2) وغيرها(3)، وشيخنا الشهيد في (الذكرى)(4).

وبعد التتبّع الصادق تظهر حقيّة ما نقلوه.

والأصل في ذلك ـ قبل الإجماع ـ الاتفاف على أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) كان يعيّن لإمامة الجمعة ـ وكذا الخلفاء بعده ـ كما يعيّن للقضاء(5).

وكما لا يصح أن ينصب الإنسان نفسه قاضياً من دون إذن الإمام، فكذا إمام الجمعة. وليس هذا قياساً، بل استدلال بالعمل المستمر في الأعصار، فمخالفته خرق للإجماع.

وينبّه على ذلك ما روي عن أهل البيت (عليهم السلام) من عدّة طُرق، منها: رواية محمّد بن مسلم قال: " لا تجب الجمعة على أقلّ من سبعة: الإمام، وقاضيه، ومدّع حقّاً، ومدّعى عليه، وشاهدان، ومَن يضرب الحدود بين يدي الإمام "(6)، وفي هذا دلالة على اشتراط الإمام.

____________

1- المعتبر 2: 279.

2- تذكرة الفقهاء 4: 19.

3- تحرير الأحكام 1: 43، منتهى المطلب 1: 317، نهاية الإحكام 2: 13.

4- ذكرى الشيعة: 230.

5- انظر السنن الكبرى للبيهقي 3: 123، كنز العمال 7: 600 حديث 20453.

6- الفقيه 1: 267 حديث 1222، التهذيب 3: 20 حديث 75، الاستبصار 1: 418 حديث 1608، وسائل الشيعة 7: 305 الباب 2 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها حديث 9.


الصفحة 27
قال في (التذكرة): ولأنّه إجماع أهل الأعصار، فإنّه لا يُقيم الجمعة في كلّ عصر إلاّ الأئمة(1).

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّه لا كلام بين الأصحاب في اشتراط الجمعة بالإمام أو نائبه، إنّما الكلام في اشتراط كون النائب منصوباً بخصوصه، أو يكفي نصبه ولو على وجه كلّي حيث يتعذّر غيره، وأكثر الأصحاب على الثاني، وسيأتي لذلك مزيد تحقيق إن شاء الله.

الباب الثاني

اختلف أصحابنا في حكم صلاة الجمعة حال غيبة الإمام (عليه السلام) على قولين، بعد انعقاد الإجماع منهم، ومن كافة أهل الإسلام، على وجوبها بشرائطها حال ظهوره(2) (عليه السلام).

الأوّل:

القول بجواز فعلها إذا اجتمعت باقي الشرائط، وهوالمشهور بين الأصحاب، وبه قال الشيخ رحمه الله في (النهاية)(3) و(الخلاف)(4)، وأبو الصلاح(5)، والمحقّق في (المعتبر)(6) وغيره(7)، والعلاّمة في

____________

1- تذكرة الفقهاء 4: 19.

2- من " ش1 ": وجوده.

3- النهاية: 107.

4- الخلاف 1: 626 مسألة 397.

5- الكافي في الفقه: 151.

6- المعتبر 2: 297.

7- شرائع الإسلام 1: 98، المختصر النافع: 36.


الصفحة 28
(المختلف)(1) وغيره(2)، وشيخنا الشهيد(3)، وجمع من المتأخّرين(4)، وهو الأقوى، ويدلّ عليه وجوه:

الأوّل:

قوله تعالى {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع}(5).

وجه الدلالة: أنّه علّق الأمر بالسعي إلى الذكر المخصوص ـ وهو الجمعة أو الخطبة اتفاقاً ـ بالنداء للصلاة وهو الأذان لها، وليس النداء شرطاً اتّفاقاً، والأمر للوجوب كما تقرّر في موضعه، فيجب السعي لها حينئذ، ووجوبه يقتضي وجوبها، ولا ريب أنّ الأمر بالسعي إنّما هو حال اجتماع الشرائط من العدد والخطبتين وغيرهما.

فإن قيل: المدّعى هو شرعيّة الجمعة حال الغَيبة، والآية إنّما تدلّ عليها في الجملة، فلا يثبت المدّعى.

قلنا: لا ريب أنّ المراد بالأمر هنا التكرار وإن لم يكن مُستفاداً من لفظ الأمر، فإنّه لا يدل بنفسه على وحدة ولا تكرار، إذ هو مستفاد بدليل

____________

1- مختلف الشيعة 2: 152 مسأله 147.

2- نهاية الإحكام 2: 14.

3- الذكرى: 231.

4- قال السيّد محمّد جواد الحسيني العاملي في مفتاح الكرامة 3: 62: وأمّا القول الرابـع وهـو الـوجوب تخييراً من دون اشتراط الفقيه، ويعبّر عنه بالجواز تارة، وبالاستحباب أُخرى، فهو المشهور كما في التذكرة وغاية المراد، ومذهب المُعظم كما في الذكرى، والأكثر كما في الروض والمقاصد العليّة والماحوزيّة ورياض المسائل، وهو خيرة النهاية والمبسوط والمصباح وجامع الشرائع والشرائع والنافع والمعتبر والتخليص وحواشي الشهيد والبيان وغاية المراد كما سمعت، والموجز الحاوي والمقتصر وتعليق الإرشاد والميسيّة والروض والروضة.

5- الجمعة: 9.


الصفحة 29
من خارج ; للإجماع على أنّه لا يكفي للامتثال في الجمعة فعلها مرّة أو مرّات، بل دائماً، وذلك يتناول زمان الغيبة.

فإن قيل: المدّعى جواز فعل الجمعة زمان الغَيبة، والذي دلّ عليه دليلكم هو الوجوب مطلقاً المقتضي لوجوبها حينئذ.

قلنا: ليس المراد بالجواز هنا معناه الأخص، وهو ما استوى طرفا فعله وتركه ; لامتناع ذلك في العبادات، فإنّ العبادة تستدعي رجحاناً لتفعل كونها قربة، وكون الإخلاص معتبراً في نيّتها، والثواب مترتّباً على فعلها.

وإنّما المراد به معناه الأعم، أعني مُطلق الاذن في الفعل شرعاً، وذلك جنس للوجوب والندب وقسميهما.

فإن قيل: أي الأقسام الأربعة مراد؟

قلنا: معلوم انتفاء الاباحة والكراهة وكذا الندب ; للاجماع على أنّ الجمعة حيث تشرع تجزئ عن الظهر، ويمتنع التعبّد بهما معاً ; لامتناع الجمع بين البدل ومبدله، فلم يبق إلاّ الوجوب التخييري بينها وبين الجمعة، فالجواز المدّعى في معنى الوجوب.

فإن قيل: لِمَ آثرتم التعبير بالجواز على الوجوب؟

قلنا: لوجهين:

أحدهما: أن التعبير بالوجوب يوهم إرادة الحتميّ.

والثاني: أنّ مناط الخلاف هو الشرعيّة حالتئذ وعدمها، ومعنى الشرعيّة: الإذن في الفعل شرعاً، فإذاً مناط الخلاف هو الجواز وعدمه، فلو عبّر بغيره لم يقع الموقع.

فإن قيل: قد عبّر بعض الفقهاء باستحباب الجمعة حال الغَيبة.

قلنا: هو صحيح وإن كان التعبير بالجواز أولى ; لما نبهّنا عليه.


الصفحة 30
ووجه الصحة: أنّ الوجوب التخييري لا ينافيه الاستحباب العيني ; لأنّ أحد فردي الواجب قد يكون أفضل من الفرد الآخر، فيكون مُستحباً بالنسبة إليه، فيستحب اختياره.

فإن قيل: دليلكم يقتضي الوجوب العينيّ الحتميّ، والمدّعى هو الوجوب التخييري، فلم يتلاقيا.

قلنا: أجمع علماؤنا الإماميّة رضوان الله عليهم طبقة بعد طبقة، من عصر أئمتنا (عليهم السلام) إلى عصرنا هذا، على انتفاء الوجوب العينيّ عن الجمعة حال غَيبة الإمام (عليه السلام) وعدم تصرّفه ونفوذ أحكامه. ولعلّ السرّ فيه أنّ اجتماع الناس كافة في مكان واحد لفعل الجمعة ـ كما هو الواجب في كلّ بلد ـ مناطُ التنازع والتجاذب، فمع عدم ظهور الإمام عليه السّلام ونفوذ أحكامه ربّما كان مثار الشر والفساد، فلم يحسن الأمر به مطلقاً.

ويومىء إلى ذلك ما رواه طلحة بن زيد، عن أبيه، عن علي عليه السّلام قال: " لا جمعة إلاّ في مصر تُقام فيه الحدود "(1) وإن كان في الحديث ضعف.

وحيث كان كذلك، لم يكن عموم الآية بالوجوب الحتميّ في الأزمانـ الشامل لزمان الغيبة، المستفاد من التكرار، الذي دلّ الإجماع على كونه مراداً بالأمر ـ ثابتاً، بل الثابت عمومها بمطلق الوجوب الصادق بالوجوب التخييري حالتئذ، وهو المدّعى.

واعترض شيخنا في (شرح الإرشاد) على الاحتجاج بالآية على جواز الجمعة حال الغيبة أو استحبابها: بأنّه يحتمل أن يراد بـ {نودي}: نداء

____________

1- التهذيب 3: 239 حديث 639، الاستبصار 1: 420 حديث 1617.


الصفحة 31
خاص، وقرينته الأمر بالسعي(1). يعني: يحتمل ارادة النداء حال وجود الإمام (عليه السلام)، بقرينة الأمر بالسعي الدال على الوجوب.

وجوابه: أنّ الوجوب ثابت في زمان الغيّبة وغيره كما قررّناه ; لأنّ الوجوب التخييري وجوب فلا اشكال.

الثاني: الأخبار:

فمنها: صحيحة زرارة، قال: حثّنا أبو عبدالله (عليه السلام) على صلاة الجمعة حتّى ظننتُ أنّه يُريد أن نأتيه، فقلت: نغدوا عليك؟ فقال: " لا، إنما عنيتُ عندكم "(2).

ومنها: موثّقة زرارة، عن عبدالملك، عن الباقر (عليه السلام) قال: " مثلك يهلك ولم يصلّ فريضة فرضها الله! "، قال: قلت: كيف أصنع؟ قال: " صلّوا جماعة "، يعني الجمعة(3).

ومنها: صحيحة عمر بن يزيد، عن الصادق (عليه السلام) قال: " إذا كانوا سبعة يوم الجمعة فليصلّوا في جماعة "(4).

ومنها: صحيحة منصور، عن الصادق (عليه السلام) قال: " يجمع القوم يوم الجمعة إذا كانوا خمسة فما زاد، فإن كانوا أقلّ من خمسة فلا جمعة لهم، والجمعة واجبة على كلّ أحد، لا يعذر الناس فيها إلاّ خمسة "(5). الحديث.

____________

1- غاية المراد 1: 165.

2- التهذيب 3: 239 حديث 635، الاستبصار 1: 420 حديث 1615، وسائل الشيعة 7: 309 ـ 310 الباب 5 من ابواب صلاة الجمعة وأدابها حديث 1.

3- التهذيب 3: 239 حديث 638، الاستبصار 1: 420 حديث 1616، وسائل الشيعة 7: 310 الباب 5 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها حديث 2.

4- التهذيب 3: 245 حديث 664، الإستبصار 1: 418 حديث 1607، وسائل الشيعة 7: 305 الباب 2 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها حديث 10.

5- التهذيب 3: 239 حديث 636، الاستبصار 1: 419 حديث 1610، وسائل الشيعة 7: 304 ـ 305 الباب 2 من ابواب صلاة الجمعة وآدابها حديث 7.


الصفحة 32
واعترض شيخنا في (شرح الإرشاد) على الاحتجاج بالحديثين الأوّلين: بأنّه يجوز استناد الجواز فيهما إلى إذن الإمام، وهو يستلزم نصب نائب ; لأنّه من باب المقدّمة. قال: ونبّه عليه العلاّمة في (نهايته) بقوله: لمّا أذنا لزرارة وعبد الملك جاز ; لوجود المقتضي، وهو اذن الإمام(1).

وجوابه: أنّ تجويز فعل أو ايجابه من الإمام (عليه السلام) لأهل عصره لا يكون مقصوراً عليهم ; لأنّ حكمه (عليه السلام) على الواحد حكمه على الجماعة(2)، كما في قول النبيّ صلّى الله عليه وآله وقد سُئل عن القصر: " إنّما هي صدقة تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته "(3)، فإن ذلك غير مقصور على السائل، ولا على أهل عصره قطعاً.

فتجويز الإمام (عليه السلام) فعل الجمعة لأهل عصره مع عدم نفوذ أحكامه وتصرّفاته يكون اذناً لهم ولغيرهم، ولا يلزم إلى نصب نائب من باب المقدّمة كما ذكره ; لأنّه حينئذ لا يكون خاصّاً، والعام غير متوقّف على نصبهم ; لما عرفت من أنّ الإمام قد نصب نائباً على وجه العموم بقوله (عليه السلام): " فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً "(4)، وهذا لا يختلف فيه عصره وعصرنا.

ويظهر من قول زرارة رحمه الله: حثّنا أبو عبدالله (عليه السلام)(5)، ومن قول

____________

1- نهاية الإحكام 2: 14، غاية المراد 1: 165.

2- تقدّمت مصادره في الصفحة 182.

3- صحيح مسلم 1: 478 حديث 686 الباب 1 من أبواب صلاة المسافرين وقصرها، سنن أبي داود 2: 3 حديث 1199 الباب 1 من أبواب صلاة المسافر، سنن النسائي 3: 117 الباب 1 من أبواب الصلاة في السفر، مسند أحمد بن حنبل 1: 44 حديث 175.

4- تقدّمت مصادره في الصفحة 17.

5- تقدّمت مصادره في الصفحة 24.


الصفحة 33
الباقر (عليه السلام) لعبد الملك: " مثلك يهلك ولم يصلّ فريضة فرضها الله تعالى! "(1)، أنّ ذلك ليس على طريق الوجوب الحتميّ العيني وإنّ كان قوله (عليه السلام): " فريضة فرضها الله تعالى " يدلّ على الوجوب في الجملة، وما ذاك إلاّ لأنّ زمانه وزمان الغَيبة لا يختلفان ; لاشتراكهما في المنع من التصرّف وتنفيذ الأحكام الذي هو المطلوب الأقصى من الإمام، ولولا ذلك لم يكن نصبه للحاكم حينئذ متناولاً لعصرنا وما قبله وما بعده، وأيّ فرق بين الحكمين حتى يُجعل أحدهما مقصوراً على عصره (عليه السلام)والآخر عامّاً في كل زمان؟!

وعند التأمّل الصادق لهذين الحديثين تتّضح دلالتهما على مشروعيّة فعل الجمعة وإن لم تجب حتماً، إذ لو كان الوجوب حتميّاً(2) لكان حقّه أن يأمر ويزجر وينكر على التاركين كمال الإنكار.

والعجب أنّ الأصحاب لم يقصروا نصب الحاكم على الوجه الذي عرفته على مَن سمع ذلك في زمنهم (عليهم السلام) واعترفوا بعمومه لكلّ زمان، وهنا اختلفوا وصار بعضهم إلى تجويز قصر الإذن على أهل عصرهم (عليهم السلام).

واعترض رحمه الله على الحديثين الآخرين بأنّهما مطلقان، والمطلق محمول على المقيّد(3).

وجوابه: القول بالموجب، فإنّهما مقيّدان بوجود الإمام أو مَن يقوم مقامه، فيدلاّن حينئذ على مطلق وجوب الجمعة مع الشرائط المذكورة وإن تحتمت مع ظهوره (عليه السلام) ; لما عرفت سابقاً من انتفاء الوجوب الحتميّ حال

____________

1- تقـدّمت مصـادره فـي الصفحة 24.

2- في " ش1 ": حتماً.

3- أي الشهيد في غاية المراد 1: 166.


الصفحة 34
الغيبة بإجماعنا.

الثالث:

استصحاب الحال، فإنّ الإجماع من جميع أهل الإسلام على وجوب الجمعة في الجملة حال ظهور الإمام (عليه السلام) بشرط حضوره أو نائبه ثابت، فيستصحب إلى زمان الغَيبة إلى أنّ يحصل الدليل الناقل، وهو منتف.

فإن قيل: شرطه ظهور الإمام، فينتفي.

قلنا: ممنوع، وَلِمَ لا يجوز أن يكون شرطاً لتحتّم الوجوب، فيختصّ الانتفاء بانتفائه.

فإن قيل: يلزم بحكم الاستصحاب القول بالوجوب العينيّ.

قلنا: هناك أمران:

أحدهما: أصل الوجوب في الجملة.

والثاني: تحتّمه وتعيّن الفعل.

والذي يلزم استصحابه هو الأوّل دون الثاني ; لمِا عرفت من أنّ تحتّم الوجوب مشروط بظهور الإمام إجماعاً منّا، فإذا انتفى شرطٌ، كيف يستصحب.

فإن قيل: فيلزم بمقتضى الاستصحاب شرعيّة الجمعة حال الغيَبة وإن لم يكن مَن له النيابة حاضراً.

قلنا: لم ينعقد الإجماع على وجوبها حال ظهوره (عليه السلام) مطلقاً، بل يشترط حضوره (عليه السلام) أو نائبه إجماعاً منّا، فهذا هو الذي يلزم استصحابه دون ما عداه.

ويزيده بياناً أنّ اشتراط الجمعة بالإمام أو نائبه إجماعي كما عرفت، فإن كان شرط الصحة فظاهر، وإن كان شرط الوجوب فإذا انتفى لم يلزم بقاء الجواز كما عرفته، على أنّ بقاء الجواز هنا لا يعقل وإن جوّزناه في

الصفحة 35
مواضع اُخرى ; لأنّ الجواز الثابت هو الجواز بالمعنى الأخصّ، لأنّ الفصل المقيّد للجنس ـ وهو عدم الحرج الذي يقتضي فصل الوجوب ـ لا يستلزم رجحاناً ليصدق الاستحباب ; لعدم استلزام الأعمّ الأخص، ولانتفائه بالأصل وبانتفاء ما يقتضيه، والجواز بالمعنى الأخص لا ينتظم مع العبارة.

واعلم أنّ شيخنا الشهيد رحمه الله قال في (شرح الإرشاد) بعد أن اعترض على دلائل المجوّزين بما حكيناه سابقاً(1): والمعتمد في ذلك أصالة الجواز، وعموم الآية، وعدم دليل مانع(2).

هذا كلامه، وهو استدلال عجيب، فإنّ أصالة الجواز لا يُستدل بها على فعل شيء من العبادات، إذ كون الفعل قربة وراجحاً بحيث يتعبّد به توقيفي يحتاج إلى إذن الشارع، وبدونه يكون بدعة.

وأمّا الآية فلا عموم لها، وإطلاقها مقيّد بحصول الشرائط باتفاق أهل الإسلام، ومن الشرائط حضور الإمام أو نائبه إجماعاً منّا.

وأمّا عدم الدليل المانع فلا يقتضي الجواز، إذ لابدّ من كون المجوّز موجوداً.

القول الثاني:

المنع من صلاة الجمعة حال الغَيبة ونفي شرعيّتها، وهو المنقول عن المرتضى في (المسائل الميافارقيات) ظاهراً(3)، وعن سلاّر(4) وابن ادريس

____________

1- تقدم في الصفحة: 27.

2- غاية المراد 1: 166.

3- جواب المسائل الميافارقيات (ضمن رسائل الشريف المرتضى) المجموعة الاُولى: 272.

4- المراسم: 261.


الصفحة 36
صريحاً(1) واختاره العلاّمة في (المنتهى)(2).

وقال في (الذكرى): إنّه متوجّه، بعد أن أفتى بالجواز(3)، وذلك يقتضي اضطراب كلامه في حكمها.

واحتجوا على ذلك بوجوه:

الأوّل: شرط انعقاد الجمعة الإمام أو مَن نصّبه لذلك اتفاقاً، وفي حال الغَيبة الشرط منتف، فينتفي الانعقاد ; لامتناع ثبوت المشروط مع انتفاء الشرط.

وأجاب في (المختلف) بمنع الإجماع على خلاف صورة النزاع، وبالقول بالموجب، فإنّ الفقيه المأمون منصوب من قبل الإمام، ولهذا تمضي أحكامه، وتجب مساعدته على إقامة الحدود والقضاء بين الناس(4).

لا يقال: الفقيه منصوب للحكم والافتاء، والصلاة أمر خارج عنهما.

لأنّا نقول: هذا في غاية السقوط ; لأنّ الفقيه منصوب من قبلهم (عليهم السلام)حاكماً في جميع الاُمور الشرعيّة، كما علمته في المقدّمة(5).

الثاني: أنّ الظهر ثابتة في الذمّة بيقين، فلا يبرأ المكلّف إلاّ بفعلها.

وأجاب أيضاً بأنّ اليقين منتف بما ذكرناه(6)، يعني من الدلائل الدالة على مشروعية الجمعة.

وأجاب في (شرح الإرشاد) بأنّه يكفي في البراءة الظنّ الشرعي، وإلاّ

____________

1- السرائر 1: 290.

2- منتهى المطلب 1: 336.

3- الذكرى: 231.

4- مختلف الشيعة 2: 253.

5- في الصفحة: 17 6- مختلف الشيعة 2: 253.


الصفحة 37
لزم التكليف بما لا يطاق(1)، وفي هذا الجواب اعتراف بوجوب الظهر.

والأولى في الجواب منع تيقّن وجوب الظهر في محل النزاع، وكيف وهو المتنازع؟! فيكون الاحتجاج به مصادرة.

الثالث: ذكره شيخنا في (الذكرى) فقال ـ بعد أن حكى القول بالمنع ودليل القائلين به ـ: وهذا القول متوجّه، وإلاّ لزم وجوب العينيّ، وأصحاب القول الأوّل ـ يعني المجوّزين ـ لا يقولون به(2).

وحاصله: أنّه لو جاز فعل الجمعة حال الغَيبة ـ كما قال المجوّزون ـ لزم وجوبها عيناً، فلا يجوز فعل الظهر، والثاني باطل باتفاقنا.

وبيان الملازمة: أنّ الدلائل الدالة على الجواز دالة على الوجوب عيناً، فإن اعتبرت دلالتها لزم القول بالوجوب. ولأنّ الجمعة لم تشرع إلاّ واجبة عيناً، فمتى ساغ فعلها لزم وجوبها كذلك.

هذا أقصى ما يقال في توجيهه، وضعف هذا الاستدلال أظهر من أن يحتاج إلى البيان، فإنّ الدلائل الدالة على الجواز دالة على الوجوب في الجملة لا على الوجوب عيناً، ونحن نقول بموجبه، وكون الجمعة لم تشرع إلاّ واجبة عيناً ليس أمراً زائداً على محلّ النزاع، فالمطالبة بالبيان بحالها.

فإن قيل: المتبادر من الوجوب هو العينيّ لا التخييريّ.

قلنا: إن اُريد كونه لا يستعمل فيه حقيقةً فمعلوم بطلانه، وإذا اُريد كون العينيّ أكثر في الاستعمال فمسلّم، لكن ذلك لا يمنع من الحمل عليه. على أنّا نحمله على الوجوب في الجملة أعمّ من كلّ منهما، وهو الموضوع الحقيقي، وحينئذ فيتم المراد، لا سيما وقد أجمعنا على امتناع ارادة العيني ;

____________

1- غاية المراد 1: 164.

2- الذكرى: 231.


الصفحة 38
للإجماع على نفيه حال الغَيبة، وصحيحة زرارة(1) وموثّقة عبدالملك(2)تنبهّان على ذلك.

واعلم أنّ من الأصحاب منَ بنى القولين في المسألة على أنّ الإمام هل هو شرط الصحة أو شرط الوجوب؟ فإنّ أصل الاشتراط لا خلاف فيه.

فإن كان شرط الصحة، امتنع فعل الجمعة حال الغيبة، كما يقول ابن ادريس(3) والجماعة(4).

وإن كان شرط الوجوب لم يمتنع ; إذ اللازم انتفاؤه حينئذ هو الوجوب خاصة.

وأوّل مَن أشار إلى هذا البناء شيخنا الشهيد في (الذكرى)، فإنّه قال ـ بعد حكاية القول بالمنع عن ابن ادريس والجماعة ـ: وهو القول الثاني من القولين، بناءً على أنّ اذن الإمام شرط الصحة، وهو مفقود(5).

وتبعه تلميذه المقداد في (شرح النافع) قال فيه: ومبنى الخلاف أنّ حضور الامام هل هو شرط في ماهيّة الجمعة ومشروعيّتها، أم في وجوبها؟ فابن ادريس على الأوّل، وباقي الأصحاب على الثاني، وهو أولى ; لأنّ الفقيه المأمون كما تنفذ أحكامه حال الغَيبة، كذا يجوز الاقتداء به في الجمعة(6)، هذا كلامه.

____________

1- تقدّمت مصادرها في الصفحة: 24.

2- تقدّمت مصادرها في الصفحة: 24.

3- السرائر 1: 290.

4- كالسيـد المـرتضى فـي جواب المسائل الميافارقيات (ضمن رسائل الشريف المرتضى) المجموعة الاُولى: 272، وسلاّر في المراسم: 261، والعلاّمة في منتهى المطلب 1: 336.

5- الذكرى: 231.

6- التنقيح الرائع لمختصر الشرائع 1: 231.


الصفحة 39
وما أشار إليه شيخنا من البناء لا يخلو: إمّا أن يُراد بالاذن فيه: الاذن مطلقاً، أو الاذن الخاص وهو الصادر من الإمام (عليه السلام) لشخص معيّن.

والأوّل منظور فيه، فإنّ اذن الإمام في الجملة متى ثبت كونه شرطاً للجمعة لزم عدم مشروعيتها بانتفائه، سواء كان شرطاً لصحتها أو لوجوبها.

أمّا إذا كان شرط الصحة فظاهر.

وأمّا إذا كان شرط الوجوب ; فلأنّ انتفاء الوجوب لانتفاء الشرط لا يلزم منه ثبوت الجواز لوجوه:

الأوّل: ما سبق بيانه في المقدّمة من أنّ الوجوب إذا رُفع لا يبقى الجواز.

الثاني: أنّ الجواز(1) بمعنى الاباحة لا يتصوّر في العبادة، واثبات الاستحباب بغير مُثبت باطل، ومع ذلك لا قائل بواحد منهما من أهل الإسلام.

الثالث: أنّ وجوب الجمعة إذا اختصّ بحال الإذن، اقتضى كون الدلائل الدالة على فعلها مختصّة بحال الإذن ; لبطلان ما خالفها، وحينئذ فحال عدم الاذن لا يدلّ عليه بوجوب ولا إباحة، فلا يقال فيه: ارتفع الوجوب فيبقى الجواز ; لأنّ متعلّق الوجوب والجواز يعتبر اتحاده ليتأتّى فيه ذلك، وهو منتف هنا.

وأيضاً فإنّ بناء الجواز حال الغيبة على الإذن في الجملة شرط الوجوب لا يستقيم ; لأنّ ذلك يقتضي الوجوب حال الغَيبة، لتحقّق الشرط بوجود الفقيه، ولا قائل به.

____________

1- في " ش1 ": الوجوب.