الصفحة 44
الأموال. وهما والله أوّل مَن ظلمنا حقّنا في كتاب الله، وأوّل من حمل الناس على رقابنا، ودماؤنا في أعناقهم إلى يوم القيامة بظلمنا أهل البيت، وأنّ الناس ليتقلّبون في حرام إلى يوم القيامة بظلمنا أهل البيت ".

فقال نجية: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ثلاث مرّات، هلكنا وربّ الكعبة.

قال: فرفع فخذه عن الوسادة فاستقبل القبلة فدعا بدعاء لم أفهم منه شيئاً، إلاّ إنّا سمعناه في آخر دعائه وهو يقول: " اللهمّ إنّا قد أحللنا ذلك لشيعتنا ".

قال: ثم أقبل إلينا بوجه وقال: " يا نجيّة ما على فطرة ابراهيم (عليه السلام) غيرنا وغير شيعتنا "(1).

وهذان الحديثان ونحوهما من الأحاديث الكثيرة ممّا لا خلاف في مضمونها بين الأصحاب بلا شكّ ولا مريّة، فلا حاجة إلى البحث عن إسنادهما والفحص عن رجالهما، فإنّ أخبار الآحاد بين محقّقي الأصحاب والمحصّلين منهم إنّما يكون حجّة إذا انضم إليها من المتابعات والشواهد وقرائن الأحوال ما يدلّ على صدقها، فما ظنّك بإجماع الفرقة!!

فإن قيل: ما معنى جعل هذه الأشياء في حال الغيبة للشيعة، أهي على العموم أو على جهة مخصوصة؟

وعلى التقدير الثاني، فما هذه الجهة؟

قلنا: ليس المراد حملها على جهة العموم، وإلاّ لزم سقوط حقّهم (عليهم السلام) من الخمس حال الغَيبة، وهو خلاف ما عليه أكثر

____________

1- التهذيب 4: 145 حديث 405، وسائل الشيعة 9: 549 الباب 4 من أبواب الأنفال حديث 14.


الصفحة 45
الأصحاب، بل القول به منسوب إلى الشذوذ، بل يلزم منه جواز تناول حقّهم (عليهم السلام) والتصرّف فيه، إلى غير ذلك ممّا هو معلوم البطلان.

وإنّما المراد: إحلال ما لا بُدَّ منه من المناكح والمساكن والمتاجر ; لتطيب ولادتهم ويخرجوا عن الغصب في المسكن والمطعم ونحوهما.

وقد عيّن الأصحاب لذلك مواضع بخصوصها في باب الخمس، فلا حاجة بناء إلى ذكرها ها هنا، فإذا كان بيد أحدنا من أرض الأنفال شيء إمّا بالإحياء أو بالشراء من بعض المتغلّبين ونحو ذلك، كانت عليه حلالاً بإحلال الأئمّة (عليهم السلام).

فإن قيل: ليس على الشيعة في هذا النوع من الأرض خراج، فهل على غيرهم فيه شيء من ذلك؟

قلنا: لا نعرف في ذلك تصريحاً للأصحاب، ولكن قد وقع في الحديث السابق التصريح به، ووجهه من حيث المعنى أنّه تصرّفٌ في مال الغير بغير إذنه، فلا يكون مجّاناً.

فإن قيل: فهل يجوز لمن استجمع صفات النيابة حال الغيبة جباية شيء من ذلك؟

قلنا: إن ثبت أنّ جهة نيابته عامة احتمل ذلك، وإلى الآن لم أظفر(1)بشيء فيه. وكلام الأصحاب قد يُشعر بالعدم ; لأنّ هذا خاصّة الإمام، وليس هو كخراج الأرض المأخوذة عنوة، فإنّ هذا القسم لغيره، كما سيأتي إن شاء الله(2).

فإن قيل: فلو استولى سلطان الجور على جباية شيء من خراج هذه

____________

1- في "ش1": نظفر.

2- إن شاء الله: لم ترد في " ش2 ": و"ش3".


الصفحة 46
الأرضين، اعتقاداً(1) منه أنّه يستحقه لزعمه أنّه الإمام، فهل يحلّ تناوله؟

قلنا: الأحاديث التي تأتي تحلّ تناول الخراج الذي يأخذه الجائر، وكلام الأصحاب يتناول هذا القسم وإن كان السابق إلى الأفهام في الخراج ما يؤخذ من المفتوح عنوة، فلا يبعد إلحاقه به. ولم أقف على شيء صريح في ذلك، سوى إطلاق ما ورد عنهم (عليهم السلام).

فائدة:

لا فرق بين غيبة الإمام وحضوره(2) في زمان التقيّة ; لاستوائهما في كونه موجوداً ممنوعاً من التصرّف. والأخبار وكلام الأصحاب يومئ إلى ذلك، وإباحتهم (عليهم السلام) لشيعتهم إنّما وقع في زمانهم، وكذا الأمر بالجمعة. وقد احتجّ الأصحاب بذلك بثبوتهما في زمان الغَيبة، وفي الواقع لا فرق بينهما.

المقدّمة الرابعة
في تعيين ما فُتح عنوة من الأرضين

اعلم أنّ الذي ذكره الأصحاب من ذلك: مكّة زادها الله شرفاً، والعراق، والشام، وخراسان، وبعض الأقطار ببلاد العجم.

وقد تقدّم في بعض الأخبار السابقة أنّ البحرين من الأنفال(3).

فأمّا مكّة، فإنّ للأصحاب في كونها فتحت عنوة أو صلحاً خلافاً،

____________

1- في " ش1 " و" ش2 ": اعتماداً.

2- في " ش4 ": وظهوره.

3- تقدّم في الصفحة: 254.


الصفحة 47
أشهره أنّها فتحت عنوة.

قال الشيخ (رحمه الله) في (المبسوط): ظاهر المذهب أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فتح مكّة عنوة بالسيف ثم أمّنهم بعد ذلك، وإنّما لم يقسّم الأرضين والدور ; لأنّها لجميع المسلمين كما نقوله في كلّ ما فتح عنوة إذا لم يكن نقله إلى بلد الإسلام فإنّه يكون للمسلمين قاطبة. ومَنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)على رجال من المشركين فأطلقهم، وعندنا أنّ للإمام أن يفعل ذلك، وكذلك أموالهم مَنّ عليهم بها(1).

وقال العلاّمة في (التذكرة): وأمّا أرض مكّة فالظاهر من المذهب أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فتحها بالسيف، ثم أمّنهم بعد ذلك(2).

وكذا قال في (المنتهى)(3)، ونحوه قال في (التحرير)(4) وشيخنا في (الدروس) لم يصرّح بشيء.

احتجّ العلاّمة على ذلك بما رواه الجمهور عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال لأهل مكّة: " ما تروني صانعاً بكم؟ " فقالوا: أخ كريم وابن أخ كريم.

فقال: " أقول لكم كما قال أخي يوسف لإخوته: {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين}(5)، أنتم الطلقاء "(6).

ومن طريق الخاصة بما رواه الشيخ عن صفوان بن يحيى وأحمد بن

____________

1- المبسوط 2: 33.

2- تذكرة الفقهاء 1: 428.

3- منتهى المطلب 2: 937.

4- تحرير الأحكام 1: 142.

5- يوسف: 92.

6- السنن الكبرى للبيهقي 9: 118.


الصفحة 48
محمّد ابن أبي نصر قال: ذكرنا له الكوفة، إلى أن قال: " إنّ أهل الطائف أسلموا وجعلوا عليهم العشر، وإنّ مكّه دخلها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنوة، وكانوا اُسراء في يده فأعتقهم فقال: اذهبوا أنتم الطلقاء "(1).

وأجاب عن حجّة القائلين بأنّها فُتحت صلحاً، حيث إن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم دخلها بأمان ; لما ورد في قصة العباس وأبي سفيان وقوله (عليه السلام) لأهل مكّة: " من ألقى سلاحه فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن تعلّق بأستار الكعبة فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن " إلاّ جماعة معيّنين، وأنّه (عليه السلام) لم يقسّم أموالهم ولا أراضيهم:

بأنّه ـ على تقدير تسليم ذلك ـ إنّما لم يُقسّم الأرضين والدور ; لأنّها لجميع المسلمين، لا يختص بها الغانمون على ما تقرّر من أنّ الأرض المفتوحة عنوة للمسلمين قاطبة، والأموال والأنفس يجوز أن يمنّ عليهم بها مراعاة للمصلحة ; لأنّ للإمام أن يفعل مثل ذلك(2).

وهذا قريب من كلام (المبسوط)(3).

وأمّا أرض العراق التي تسمّى بأرض السواد، وهي المفتوحة من الفرس، التي فُتحت في أيام الثاني، فلا خلاف فيه أنّها فتحت عنوة.

وإنّما سُمّيت سواداً ; لأنّ الجيش لمّا خرجوا من البادية، ورأوا هذه الأرض والتفاف شجرها، سمّوها السواد لذلك، كذا ذكر العلاّمة في

____________

1- التهذيب 4: 38 حديث 96، 118 حديث 341. وراه الشيخ الكليني في الكافي 3: 512 حديث 2، وأخرجه عنهما الحر العاملي في وسائل الشيعة 15: 157 ـ 158 الباب 72 من أبواب جهاد العدو وما يناسبه الحديث 1. وتقدم ذكرُ الحديث في الصفحة 241 والصفحة 247.

2- منتهى المطلب 2: 937.

3- المبسوط 2: 33.


الصفحة 49
(المنتهى)(1) و(التذكرة)(2).

قال في (المبسوط) وهذه عبارته: وأمّا أرض السواد فهي المغنومة من الفرس التي فتحها عمر، وهي سواد العراق. فلمّا فتحت بعث عمر عمّار بن ياسر أميراً، وابن مسعود قاضياً ووالياً على بيت المال، وعثمان بن حنيف ماسحاً. فمسح عثمان الأرض، واختلفوا في مبلغها: فقال الساجي: اثنان وثلاثون ألف ألف جريب، وقال أبو عبيدة: ستة وثلاثون ألف الف جريب، وهي ما بين عبّادان والموصل طولاً، وبين القادسية وحلوان عرضاً. ثمّ ضرب على كلا جريب نخل ثمانية دراهم، والرطبّة ستّة، والشجر كذلك، الحنطة أربعة، والشعير درهمين، وكتب إلى عمر فأمضاه.

وروي أنّ ارتفاعها كانت في عهد عمر مائة وستين ألف ألف درهم، فلمّا كان في زمان الحجّاج رجع إلى ثمانية عشر ألف ألف، فلمّا ولي عمر ابن عبد العزيز رجع إلى ثلاثين ألف ألف درهم في أوّل سنة، وفي الثانية بلغ ستين ألف ألف، فقال: لو عشت سنة اُخرى لردّدتها إلى ما كان في أيام عمر، فمات في تلك السنة.

وكذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) لما أُفضي الأمر إليه أمضى ذلك ; لأنّه لم يمكنه أن يخالف ويحكم بما عنده.

والذي يقتضيه المذهب أنّ هذه الأراضي وغيرها من البلاد التي فُتحت عنوة يكون خمسها لأهل الخمس، وأربعة أخماسها يكون للمسلمين قاطبة، الغانمين وغير الغانمين في ذلك سواء، ويكون للإمام

____________

1- منتهى المطلب 2: 937.

2- تذكرة الفقهاء 1: 428.


الصفحة 50
النظر فيها وتقبيلها وتضمينها بما شاء(1) هذه عبارته بحروفها.

وقال في (المنتهى) وهذه عبارته: أرض السواد: هي الأرض المغنومة من الفرس، التي فتحها عمر بن الخطاب، وهي سواد العراق. وحدّه في العرض من منقطع الجبال بحلوان إلى طرف القادسية المتصل بعذيب من أرض العرب، ومن تخوم الموصل طولاً إلى ساحل البحر ببلاد عبّادان من شرقي دجلة، فأمّا الغربي الذي تليه البصرة فإنّما هو إسلاميّ مثل شط عثمان بن أبي العاص.

إلى أن قال: هذه الأرض فُتحت عنوة، فتحها عمر بن الخطاب، ثمّ بعث إليها بعد فتحه ثلاثة أنفس: عمّار بن ياسر على صلاتهم أميراً، وابن مسعود قاضياً ووالياً على بيت المال، وعثمان بن حنيف على مساحة الأرض. وفرض لهم في كلّ يوم شاة: شطرها مع السواقط لعمّار، وشطرها للآخرين، وقال: ما أرى قرية يؤخذ منها كلّ يوم شاة إلاّ سريع خرابها.

ومسح عثمان أرض الخراج، واختلفوا في مبلغها، فقال الساجي: اثنان وثلاثون ألف ألف جريب، وقال أبو عبيدة: ستة وثلاثون ألف ألف. ثم ضرب على كلّ جريب نخل عشرة دراهم، وعلى الكرم ثمانية دراهم، وعلى جريب الشجر والرطبة ستة دراهم، وعلى الحنطة أربعة دراهم، وعلى الشعير درهمين، ثم كتب في ذلك إلى عمر فأمضاه.

وروي أنّ ارتفاعها كان في عهد عمر مائة وستين ألف ألف درهم، فلمّا كان زمن الحجّاج رجع إلى ثمانية عشر ألف ألف، فلمّا ولي عمر بن عبد العزيز، ثم ساق باقي كلام الشيخ السابق بحروفه، ما زاد ولا نقص(2).

____________

1- المبسوط 2: 33 ـ 34.

2- منتهى المطلب 2: 937.


الصفحة 51
وكذا صنع في (التذكرة) في باب الجهاد بحروفه(1)، وأعاد القول بفتح السواد عنوة في باب إحياء الموات(2) ومثل ذلك صنع في كتاب الجهاد من (التحرير)(3).

ولم يحضرني في وقت كتابة هذه الرسالة هذا الموضوع من كتاب (السرائر) لابن إدريس (رحمه الله) لأحكي ما فيه، لكنّه في باب أحكام الأرضين من كتاب الزكاة ذكر أنّ أرض العراق مفتوحة عنوة، وذكر من أحكامها قريباً من كلام الأصحاب الذي حكيناه(4).

وروى الشيخ بإسناده عن مصعب بن يزيد الأنصاري ـ وأورده ابن إدريس في (السرائر)(5)، والعلاّمة في (المنتهى)(6) ـ قال: استعملني أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) على أربعة رساتيق(7): المدائن البهقباذات(8)، وبهر سير(9)، ونهر جوير، ونهر الملك(10).

____________

1- تذكرة الفقهاء 1: 428.

2- تذكرة الفقهاء 2: 402.

3- تحرير الأحكام 1: 142 ـ 143.

4- السرائر 1: 478.

5- السرائر 1: 484.

6- منتهى المطلب 2: 935.

7- الرساتيق، جمع رستاق معرّبة رزداق: وهو القرى والمزارع. القاموس المحيط 3: 235 " رزدق ".

8- البهقباذ: ثلاث كور من أعمال سقي الفرات، منسوبة إلى قباذ بن فيروز. معجم البلدان 1: 516.

9- بهر سير: من نواحي سواد بغداد، قُرب المدائن. معجم البلدان 1: 515. وفي " ش2 ": نهر سير.

10- نهر الملك: كورة واسعة ببغداد، أو يقال: إنّه يشتمل على ثلاثمائة وستين قرية. معجم البلدان 5: 324.


الصفحة 52
وأمرني أن أضع على كلّ جريب(1) زرع غليظ درهماً ونصفاً، وعلى كلّ جريب وسط درهماً، وعلى كلّ جريب زرع رقيق ثلثي درهم، وعلى كلّ جريب كرم عشرة دراهم وعلى كلّ جريب نخل عشرة دراهم، وعلى كلّ جريب البساتين التي تجمع النخل والشجر عشرة دراهم.

وأمرني أن ألقي كلّ نخل شاذ عن القرى لمارّة الطريق وابن السبيل، ولا آخذ منه شيئاً.

وأمرني أن أضع على الدهاقين الذين يركبون البراذين ويتختّمون بالذهب على كلّ رجل منهم ثمانية وأربعين درهماً، وعلى أوساطهم والتّجار منهم على كلّ رجل أربعة وعشرين درهماً، وعلى سفلتهم وفقرائهم اثني عشر درهما على كلّ انسان منهم، قال: فجبتها ثمانية عشر ألف ألف درهم في سنة(2).

قال الشيخ: توظيف الجزية في هذا الخبر لا ينافي ما ذكرناه من أنّ ذلك منوط بما يراه الإمام من المصلحة، فلا يمتنع أن يكون أمير المؤمنين (عليه السلام)رأى المصلحة في ذلك الوقت وضع هذا المقدار، وإذا تغيّرت المصلحة إلى زيادة أو نقصان غيّره، وإنّما يكون منافياً لو وَضَعَ ذلك عليهم ونَفَى الزيادة عليه والنقصان عنه في جميع الأحوال، وليس ذلك في الخبر(3).

____________

1- الجريب: مساحة من الأرض قدرها ستون ذراعاً. مجمع البحرين 2: 22 " جرب ".

2- التهذيب 4: 119 ـ 120 حديث 343، الاستبصار 2: 53 ـ 54 حديث 178. ورواه الصدوق في الفقيه أيضاً 2: 26 حديث 95، وأخرجه عنهما الحرّ العاملي في وسائل الشيعة 15: 151 ـ 152 الباب 68 من أبواب جهاد العدو وما يناسبه حديث 4.

3- التهذيب 4: 120 ذيل الحديث 343.


الصفحة 53
قلت: ومثله القول في الخراج منوط بالمصلحة وعرف الزمان كما سيأتي إن شاء الله تعالى(1)، وهذا التقدير ليس على سبيل التوظيف، بل بحسب مصلحة الوقت.

واعلم أنّ الذي أوردتهُ من لفظ الحديث هو ما أورده الشيخ في (التهذيب)، لكن وجدتُ نسخهُ مختلفة العبارة في إيراد أسماء الرساتيق المذكورة.

ففي بعضها: نهر سيريا ونهر جوير.

وفي بعضها: بهر سير، بالباء الموحّدة أولاً، والسين المهملة المكسورة، ونهر جَوين، بالنون، والجيم المفتوحة، والياء المثناة من تحت بعد الواو المكسورة.

وفي بعضها: جوبر، بالجيم والباء الموحدة بعد الواو.

وقال ابن ادريس بعد أن أورد الحديث في (السرائر) بعطف البهقباذات على المدائن بالواو: وبهر سير بالباء المنقطة من تحتها نقطة واحدة، والسين غير المعجمة، هي المدائن. والدليل على ذلك أنّ الراوي قال: استعملني على أربعة رساتيق، ثم عدّد خمسة، فذكر المدائن ثم ذكر من جملة الخمسة بهر سير، فعطف على اللفظ دون المعنى.

ثمّ شرع في بيان جواز مثل هذا العطف إلى أن قال: فأمّا البهقباذات فهي ثلاثة:

البهقباذ الأعلى وهو ستة طساسيج ثم ذكر أسماءها، والبهقباذ الأوسط أربعة طساسيج وذكر أسماءها، والبهقباذ الأسفل خمسة طساسيج وصنع

____________

1- إن شاء الله تعالى: لم ترد في " ش2 " و" ش4 ".


الصفحة 54
مثل ذلك(1).

والذي وجدته في نسخ (التهذيب): المدائن البهقباذات، بغير واو، كما وجدته في (المنتهى)، حيث أورد الحديث بلفظه(2).

وروى الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن سيرة الإمام في الأرض التي فتحت عنوة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)فقال: " إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قد سار في أهل العراق بسيرة فهي إمام لسائر الأرضين "(3).

فإن قلت: أليس قد قال الشيخ في (المبسوط) ما صورته: وعلى الرواية التي رواها أصحابنا: ـ أنّ كلّ عسكر أو فرقة غزت بغير أمر الإمام فغنمت تكون الغنيمة للإمام خاصّة ـ تكون هذه الأرضون وغيرها ممّا فتُحت بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلاّ ما فُتح في أيام أمير المؤمنين (عليه السلام) إنْ صحّ شيء من ذلك يكون للإمام خاصّة، ويكون من جملة الأنفال التي لا يشترك فيها غيره(4)؟

وهذا الكلام يقتضي أن لا تكون أرض العراق من المفتوح عنوة.

قلت: الجواب عن ذلك من وجوه:

الأوّل: أنّ الشيخ (رحمه الله) قال هذه على صورة الحكاية، وفتواه ما تقدّم في أوّل الكلام، مع أنّ جميع أصحابنا مصرّحون في هذا الباب بما قاله

____________

1- السرائر 1: 484 ـ 485.

2- منتهى المطلب 2: 935.

3- التهذيب 4: 118 حديث 340. ورواه الشيخ الصدوق في الفقيه 2: 29 حديث 104، وأخرجه الحرّ العاملي عنهما في وسائل الشيعة 15: 153 ـ 154 الباب 69 من أبواب جهاد العدو وما يناسبه حديث 2.

4- المبسوط 2: 34.


الصفحة 55
الشيخ في أوّل كلامه. والعلاّمة في (المنتهى) و(التذكرة) أورد كلام الشيخ هذا حكاية وإيراداً، بعد أن أفتى بمثل كلامه الأوّل، حيث قال في أوّل كلامه: وهذه الأرض فتحت عنوة. ولم يتعرّض إلى ما ذكره آخراً بشيء.

الثاني: أنّ الرواية التي أشار إليها الشيخ ضعيفة الإسناد مرسلة، ومثل هذه كيف يحتجّ به أو يسكن إليه، مع أنّ الظاهر من كلام العلاّمة في (المنتهى) ضعف العمل بها(1).

الثالث: إنّا لو سلّمنا صحة الرواية المذكورة، لم يكن فيها دلالة على أنّ أرض العراق فُتحت بغير أمر الإمام، فقد سمعنا أنّ عمر استشار أمير المؤمنين (عليه السلام) في ذلك. وممّا يدل عليه فعل عمّار، فإنّه من خُلصاء أمير المؤمنين (عليه السلام)، ولولا أمره لما ساغ له الدخول في أمرها.

وممّا يقطع مادّة النزاع ويدفع السؤال ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمّد الحلبي قال: سُئل أبو عبدالله (عليه السلام) عن السواد ما منزلته؟ فقال: " هو لجميع المسلمين، لمن هواليوم، ولمن يدخل في الإسلام بعد اليوم، ولمن يُخلق بعدُ " فقلنا: الشراء من الدهاقين؟ قال: " لا يصلح، إلاّ أن يشتري منهم على أن يُصيرّها للمسلمين " الحديث(2).

وروى أيضاً عن عبدالرحمن بن حجّاج قال: سألتُ أبا عبدالله (عليه السلام) عمّا اختلف فيه ابن أبي ليلى وابن شبرمة في السواد وأرضه، فقلت: إنّ ابن أبي ليلى قال: إنّهم إذا أسلموا أحرار، وما في أيديهم من أرضهم لهم. وأمّا

____________

1- منتهى المطلب 2: 935.

2- التهذيب 7: 147 حديث 652، الاستبصار 3: 109 حديث 384، وسائل الشيعة 25: 435 الباب 18 من أبواب إحياء الموات حديث 1، وقد تقدّم هذا الحديث في الصفحة: 250.


الصفحة 56
ابن شبرمة فزعم أنّهم عبيد، وأنّ أرضهم التي بأيديهم ليست لهم. فقال (عليه السلام)في الأرض ما قال ابن شبرمة، وقال في الرجال ما قال ابن أبي ليلى: إنّه إذا أسلموا فهم أحرار(1).

وهذا قاطع في الدلالة على ما قلناه، لا سيّما وفتوى الأصحاب وتصريحهم موافق لذلك، فلا مجال للتردّد.

وأمّا أرض الشام فقد ذكر كونها مفتوحة عنوة بعض الأصحاب، وممّن ذكر ذلك العلاّمة في كتاب إحياء الموات من (التذكرة)(2)، لكن لم يذكر أحدٌ حدودها.

وأمّا البواقي فذكر حكمها القطب الراوندي في (شرح نهاية الشيخ)، وأسنده إلى (مبسوطه) وعبارته هذه: والظاهر على ما في (المبسوط) أنّ الأرضين التي هي من أقصى خراسان إلى كرمان وخوزستان وهمدان وقزوين وما حواليها اُخذت بالسيف.

هذا ما وجدته في ما حضرني من كتب الأصحاب، والله أعلم بالصواب.

المقدّمة الخامسة
في تحقيق معنى الخراج، وأنّه هل يقدّر أم لا؟

اعلم أنّ الخراج: هو ما يُضرب على الأرض كالاُجرة لها، وفي معناه المقاسمة، غير أنّ المقاسمة تكون جزءً من حاصل الزرع، والخراج مقدار

____________

1- التهذيب 7: 155 حديث 684، وسائل الشيعة 25: 417 الباب 4 من أبواب إحياء الموات حديث 3.

2- تذكرة الفقهاء 2: 402.


الصفحة 57
من النقد يضرب عليها، وهذا هوالمراد بالقبالة والطسق في كلام الفقهاء.

ومرجع ذلك إلى نظر الإمام على حسب ما تقتضيه مصلحة المسلمين عرفاً، وليس له في نظر الشرع مقدار معيّن لا تجوز الزيادة عليه ولا النقصان عنه، ويدلّ على ذلك وجوه:

الأوّل: أنّ الخراج والمقاسمة كالاُجرة، وهي منوطة بالعرف، متفاوته بتفاوت الرغبات.

أمّا الاُولى ; فلأنّهما في مقابل منافع الأرض، ولا نُريد بمشابهتهما للاُجرة إلاّ ذلك.

وأمّا الثانية فظاهرة، قال العلاّمة في (المنتهى) في باب قتال البغاة، في توجيه كلام الشيخ (رحمه الله) حيث قال: لو ادّعى مَن بيده أرض الخراج ـ عند المطالبة به بعد زوال يد أهل البغي ـ أداءه إلى أهل البغي لم يقبل قوله(1):

وجهه: أنّ الخراج معاوضة ; لأنّه ثمن أو اُجرة، فلم يُقبل قولهم في أدائه كغيره من المعاوضات(2).

الثاني: قد سبق في الحديث المروي عن أبي الحسن الأوّل (عليه السلام) ـ وهو الحديث الطويل الذي أخذنا منه موضع الحاجة ـ ما يدلّ على ذلك، قال: " والأرض التي اُخذت عنوة بخيل وركاب فهي موقوفة متروكة في يد مَن يعمّرها ويُحييها على صلح ما يصالحهم الوالي، على قدر طاقتهم من الخراج، النصف أو الثلث أو الثلثان، وعلى قدر ما يكون لهم صالحاً ولا يضرّ بهم " الحديث(3).

____________

1- المبسوط 7: 277.

2- منتهى المطلب 2: 989.

3- الكافي 1: 453 حديث 4، التهذيب 4: 129 ـ 130 حديث 366، الاستبصار 2: 56 حديث 185، وسائل الشيعة 9: 513 ـ 514 الباب 1 من أبواب قسمة الخمس حديث 8، وقد تقدّم هذا الحديث في الصفحة 246.


الصفحة 58
وهذا صريح في ما قلناه، فإنّ تسويغه الخراج إلى النصف أوالثلث والثلثين، وإناطته إياه بالمصلحة بعد ذلك، صريح في عدم انحصار الأمر في شيء بخصوصه، ولا أعرف لهذا رادّاً من الأصحاب.

الثالث: الإجماع المُستفاد مِن تتبّع كلام مَن وصل إلينا كلامه من الأصحاب وعدم العثور على مخالف، ولا محكيّاً في كلام المتصدّين لحكاية الخلاف، مشهوراً ونادراً، في مطوّلات كتب المحقّقين ومختصراتهم.

قال الشيخ في (النهاية) في حكم الأرض المفتوحة عنوة: وكان على الإمام أن يُقبّلها لمن يقوم بعمارتها، بما يراه من النصف أوالثلث أو الربع(1).

وقال في (المبسوط) في باب حكم الأرضين من كتاب الزكاة في حكم المفتوحة عنوة: وعلى الإمام تقبيلها لمن يقوم بعمارتها بما يراه من النصف أو الثلث(2).

وقال في كتاب الجهاد منه عند ذكر سواد العراق وغيره ممّا فتحت عنوة: ويكون للإمام النظر فيها وتقبيلها بما شاء، ويأخذ ارتفاعها ويصرفه في مصالح المسلمين(3).

وقال ابن ادريس في (السرائر) في حكم المفتوحة عنوة: على الإمام أن يقبّلها لمن يقوم بعمارتها بما يراه من النصف أو الثلث أو الربع، أو غير

____________

1- النهاية: 194.

2- المبسوط 1: 235.

3- المبسوط 2: 34.


الصفحة 59
ذلك(1).

وقال العلاّمة في (المنتهى): وهذه الأرض المأخوذة بالسيف عنوة يقبّلها الإمام لمن يقوم بعمارتها بما يراه من النصف أو الثلث(2).

وقال في (التذكرة): الأرض المأخوذة بالسيف عنوة يقبّلها الإمام لمن يقوم بعمارتها بما يراه من النصف وغيره(3).

وقال في (التحرير) في المفتوحة عنوة: ويقبّلها الإمام لمن يقوم بعمارتها بما يراه من النصف أو الثلث(4).

وقال في (القواعد) في هذا الباب أيضاً: ويقبّلها الإمام لمن يراه بما يراه حظّاً للمسلمين، ويصرف حاصلها في مصالحهم(5).

وقال في (الإرشاد): ويقبّلها الإمام لمن يراه بما يراه(6).

وقال المقداد (رحمه الله) في (التنقيح)، ولم يحضرني عند كتابة هذه الرسالة لأحكي عبارته، ولكن حاصل كلامه فيه على ما أظنّ أنّ مرجع تعيين الخراج إلى العُرف، فكلّ ما يليق بالأرض عُرفاً جاز ضربه عليها(7).

فإن قلت: قد صرّحتم بأنّ هذا منوط بنظر الإمام (عليه السلام) ورأيه، فكيف يحلّ بدون ذلك؟

____________

1- السرائر 1: 477.

2- منتهى المطلب 2: 935.

3- تذكرة الفقهاء 1: 427.

4- تحرير الأحكام 1: 142.

5- قواعد الأحكام 1: 106.

6- إرشاد الأذهان 1: 348.

7- لم أعثر عليه في التنقيح، والظاهر أنّ المقداد لم يتعرّض لهذا الحكم في هذا الكتاب.


الصفحة 60
قلنا: قد نصّ أئمتنا (عليهم السلام) في غير حديث، وصرّح أصحابنا كافة ـ وسنحكي الأحاديث الواردة في ذلك وعبارات الأصحاب عن قريب إن شاء الله تعالى ـ بحلّ تناول ما يأخذه الجائر من ذلك باسم الخراج والمقاسمة.

ووجهه من حيث المعنى واضح ; لأنّ الخراج حقّ شرعيّ منوط تقديره بالمصلحة عرفاً، وارتباطه بنظر الإمام. فإذا تعدّى الجائر في ذلك إلى ما لا يجوز له، وعمل ما هو منوط بنظر الإمام استقلالاً بنفسه، كان الوزر عليه في ارتكاب ما لا يجوز له، ولم يكن المأخوذ حراماً، ولا مظنّة حرام(1) ; لأنّه حقّ شرعيّ على الزارع خارج عن ملكه، يستحقّه قوم معلومون. وقد رفع أئمتنا (عليهم السلام) المنع من طرفهم بالنسبة إلينا، فكيف يحرم؟!

قال في (التذكرة) في كتاب البيع: ما يأخذه الجائر من الغلاّت باسم المقاسمة، ومن الأموال باسم الخراج عن حقّ الأرض، ومن الأنعام باسم الزكاة، يجوز شراؤه واتّهابه، ولا يجب إعادته على أصحابه وإن عُرفوا ; لأنّ هذا مال لا يملكه الزارع وصاحب الأنعام والأرض، فإنّه حقّ لله تعالى، آخذه غير مستحقّه، فبرئت ذمّته وجاز شراؤه(2).

والحاصل أنّ هذا ممّا وردت به النصوص، وأجمع عليه الأصحاب، بل المسلمون، فالمنكر له والمنازع فيه مدافع للنصّ منازع للإجماع، فإذا بلغ معه الكلام إلى هذا المقام فالأولى الاقتصار معه على قول سلام.

فإن قلت: فهل يجوز أن يتولّى مَن له النيابة حال الغَيبة ذلك، أعني الفقيه الجامع للشرائط؟

____________

1- ولا مظنّة حرام: لم ترد في " ش1 " و" ش2 ".

2- تذكرة الفقهاء 1: 583.


الصفحة 61
قلنا: لا نعرف للأصحاب في ذلك تصريحاً، ولكن مَن جوّز للفقهاء في حال الغيبة تولّي استيفاء الحدود، وغير ذلك من توابع منصب الإمامة، ينبغي تجويزه لهذا بالطريق الأولى ; لأنّ هذا أقلّ منه خطراً، لا سيما والمستحقون لذلك موجودون في كلّ عصر، إذ ليس هذا الحقّ مقصوراً على الغزاة والمجاهدين كما يأتي.

ومَن تأمّل في كثير من أحوال كبراء علمائنا السالفين، مثل السيّد الشريف المرتضى علم الهدى، وأعلم المحقّقين من المتقدّمين والمتأخّرين نصير الحقّ والدين الطوسي، وبحر العلوم مُفتي الفرق جمال الملّة والدين الحسن بن مطهّر، وغيرهم رضوان الله عليهم، نظر متأمّل مُنصف، لم يعترضه الشكّ في أنّهم كانوا يسلكون هذا المنهج، ويُبيحون هذا السبيل، وما كانوا ليودعوا بطون كتبهم إلاّ ما يعتقدون صحته.

المقالة
في حلّ الخراج في حال حضور الإمام وغَيبته.

أمّا حال حضوره (عليه السلام) فلا شكّ فيه، وليس للنظر فيه مجال، وقد ذكر أصحابنا في مصرف الخراج: أنّ الإمام يجعل منه أرزاق(1) الغزاة والولاة والحكّام، وسائر وجوه الولايات.

قال الشيخ في (المبسوط) في فصل أقسام الغزاة: ما يحتاج إليه للكراع وآلات الحرب كان ذلك من بيت المال من أموال المصالح، وكذلك

____________

1- في "ش 1": أنّ الأرض جعل منه أرزاق.