المقدّمة


الحمدُ لله ربّ العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، والصلاة والسّلام على خير مدعوٍّ ومجيب، ورسول وحبيب، علم التقى، وبدر الدجى، محمّد المصطفى (صلى الله عليه وآله)، وعلى عترته أُولي الحجى وذوي النهى، والعروة الوثقى، وسفينة النجاة، التي أمن مَن ركبها، وغرق مَن تركها، وعلى صحبهم والتابعين لهم بإحسان، الحافظين للوديعة، ومَن أحبّوا الشريعة، واللعنة الدائمة على مَن نازعهم ونصب لهم.

وبعد،

تعرّفنا في ما مضى على عدّة جوانب من حياة المحقّق الكركي: الشخصيّة، والسياسيّة، والعلميّة، وآرائه وفوائده.

ففي البحث عن حياته الشخصيّة تحدّثنا عن اسمه، ومولده وموطنه، وأُسرته، وأخلاقه وسجاياه، وآثاره ومآثره، وكراماته، ومراحل حياته المختلفة، ثمّ مدحه وإطرائه، وأخيراً وفاته ومدفنه.

وفي حياته السياسيّة تعرّضنا لعدّة مواضيع لها صلة بالكركي وعصره: كالتصوّف والصوفيّة، وموقف العلماء من الحكّام، ونشوء الدولة الصفويّة وكيفيّة تعامل العلماء معها، ثمّ تحدّثنا بشكل مفصّل عن علاقة الكركي بهذه الدولة ابتداءً من تأسيسها حتّى سنة 940 هـ، حيث عاصر الكركي حاكمين من حكّامها هما الشاه إسماعيل وابنه الشاه طهماسب.


الصفحة 2
وفي حياته العلميّة سلّطنا الضوء على بعض المجالات التي كان للكركي دور فعّال فيها، فتحدّثنا عن عصره ومعاصريه، وأساتذته وشيوخه، والروايات التي حصل عليها والتي منحها، ومؤلّفاته، والكتب التي قرأها والتي قُرئت عليه، ومكانته العلميّة، ونشاطه العلميّ، والمحاورات والردود العلميّة التي جرت بينه وبين بعض الأعلام.

ثمّ أفردنا بحثاً مستقلاًّ وكاملاً لآرائه ونظريّاته المودعة في مؤلّفاته، والتي لم يُفرد لها تصنيفاً مستقلاً، حيث أجرينا عمليّة استقصاء كامل لكافّة مؤلّفاته، واستخرجنا منها هذه الآراء والنظريّات، وهي آراؤه الكلاميّة، والأُصوليّة، والرجاليّة، وفوائده التأريخيّة، وملاحظاته عن بعض المؤلّفات، وشواهده الشعريّة، والجداول والرسوم التي استعملها.

وفي نهاية كلّ بحث أفردنا فصلاً خاصّاً بعنوان " الملاحظات "، سجّلنا فيه الملابسات التي حصلت في حياته، والاشتباهات التي وقع فيها بعض المؤلّفين عند ترجمتهم للكركي.

والآن تعال معي عزيزي القارئ لنطلّ على جانب آخر من جوانب عظمة هذا الرجل، حيث نتعرّف على بعض آرائه ونظرياته التي استطاع أن يصهرها في بودقة التأليف عبر كتبه المختلفة من حيث مواضيعها وحجمها وأسباب تأليفها.

إنّ الوقوف على مؤلّفات المحقّق الكركي، ودراستها بشكل مفصّل ودقيق، يكشف لنا ـ من جانب ـ المستوى العلمي الذي تمتّع به هذا العالم، ومن جانب آخر يُظهر لنا المنزلة الاجتماعيّة الكبيرة التي كان يحتلّها آنذاك، ليس في أوساط الناس عموماً، بل حتّى عند كبار رجال الدولة، وعلى رأسهم الشاه إسماعيل وابنه الشاه طهماسب، وقد تعرّضنا لهذه النقاط بشكل مفصّل

الصفحة 3
في ما مضى من الكتاب عند حديثنا عن حياته.

والملاحظ أنّ مؤلّفات الكركي تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأوّل:

الرسائل، والتي تتناول عادةً البحث عن موضوع معيّن، أو مسألة فقهيّة واحدة. وهذه الرسائل يختلف حجمها، فبعضها يقع في أربعين أو خمسين صفحة، والبعض الآخر يقع في عدّة صفحات.

الثاني:

الحواشي والشروح لبعض الكتب المعتمدة عندنا، كالشرائع والمختصر النافع للمحقّق الحلّي، والقواعد والإرشاد والمختلف للعلاّمة الحلّي، والألفيّة الشهيديّة.

الثالث:

جواب الأسئلة والاستفتاءات التي كانت ترد عليه من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وبمستويات مختلفة في التعبير، وقد قام بعض تلامذته وبعض العلماء القريبين من عصره بجمعها وترتيبها.

وقد استطعتُ بحمد الله تعالى وتوفيقه طيلة سنوات عديدة، أن أجمع وأُحقّق من مؤلّفات هذا العالم الجليل أربعة وخمسين مؤلّفاً، معتمداً على مائة وعشرين نسخة خطيّة موجودة في عدّة مكتبات في الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة: قم المقدّسة، مشهد المقدّسة، طهران، همدان، يزد، خوانسار، أصفهان. وقد عانيت الكثير من المصاعب في جمع هذه النسخ الخطيّة، فإنّ الحصول على نسخة خطيّة واحدة من أقرب المكتبات إلينا في مدينة قم المقدّسة لا يخلو من مصاعب جمّة، فكيف بهذا الكمّ الهائل من النسخ الخطيّة.


الصفحة 4

منهجيّة التحقيق


اعتمدت في تحقيقي لهذه المجموعة من رسائل الكركي وحواشيه على طريقة واحدة، أُلخّصها بعدّة نقاط:

(1) اتّبعت طريقة التلفيق بين النسخ الخطيّة، وذلك لعدم عثوري على نُسخ الأصل التي كتبها الكركي بيده. نعم، بعض الرسائل عثرتُ لها على نُسخ مقروءة على الكركي، إلاّ أنّي لم أكتف بها وأضفتُ لها نُسخاً أُخرى.

(2) عند حصولي على عدّة نسخ خطيّة لإحدى هذه المؤلّفات، أقوم بمقابلة بعضها مع البعض الآخر، وإثبات الصحيح أو الأصح في المتن وما قابلهما في الهامش.

وعند عدم حصولي إلاّ على نسخة واحدة، فإنّي أجعلها الأصل في عملي، وأُشير في الهامش إلى ملاحظاتنا واستظهاراتنا عليها.

(3) استخراج كلّ ما يحتاج إلى تخريج من آيات قرآنيّة كريمة، وأحاديث شريفة، وأقوال العلماء في شتى العلوم، وشواهد شعريّة، وأماكن وبقاع. وحاولت قدر المستطاع أن أعتمد على المصادر الرئيسيّة في كافة الاستخراجات، إلاّ تلك المصادر المفقودة أساساً أو التي لم أُوفّق للحصول عليها، فقد استعنتُ في الحصول على أقوالها بواسطة مصادر أُخرى ميسّرة.

(4) لم أُترجم كافة الأعلام الّذين وردت أسماؤهم، بل ترجمتُ لبعضهم حسب الضرورة التي رأيتها.

(5) عند شروعي في تحقيق الحواشي والشروح وضعتُ متن الكتاب المشروح في أعلى كلّ صفحة، ويتلوه الشرح أو الحاشية التي كتبها الكركي.


الصفحة 5
ثمّ قمتُ بحذف المتن واكتفيت بالإشارة إليه ; رعاية للاختصار، وتلبيةً لاقتراح بعض الإخوة الأفاضل من المحقّقين.

(6) رتّبتُ الرسائل حسب مواضعيها، فوضعتُ أوّلاً الرسالة النجميّة التي جمع فيها الكركي بين علمي الكلام والفقه وأدرج فيها أيسر ما يجب على المكلّفين معرفته في الأُصول والفروع، ثمّ رسالة استنباط الأحكام التي تعبّر عن المنهج العلمي للكركي، ثمّ الرسائل الفقهيّة مرتّبة بترتيب كتب الفقه ابتداءً من الطهارة وانتهاءً بالقضاء، ثمّ الرسائل المتفرّقة وجوابات المسائل الفقهيّة التي وردت عليه.

(7) نظّمتُ فهارس فنيّة كاملة، تعميماً للفائدة واتّباعاً للمنهج الحديث في التحقيق.


وآخر دعوانا أن الحمدُ لله ربّ العالمين

محمّد الحسّون


الصفحة 6


الرضاعيّة





الصفحة 7

الصفحة 8

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين

الحمدُ لله على سوابغ نعمه الغزار، والصلاة والسّلام على نبيّه، وآله الأطهار.

وبعد،

بين يديك عزيزي القارىء (الرسالة الرضاعية) التي ألّفها المحقّق الكركي في سنة 916 هـ.

وهي رسالة استدلاليّة عميقة، تعرّض فيها المصنّف رحمه الله إلى مسألة مهمة تترتّب عليها آثار جمّة دنيوية واُخروية، حيث ذهب إلى أنّ عموم المنزلة لا يُفيد نشر الحرمة، وبحث ذلك كلّه في ثلاث عشرة مسألة.

وكانت هذه المسائل محلّ خلاف بين العلماء في ذلك الوقت، وذلك يظهر واضحاً من مقدّمة الكركي، ومن ردّ الشيخ إبراهيم القطيفي الذي كتبه سنة 926 هـ.

اعتمدت في تحقيق هذه الرسالة على ثلاث نسخ خطيّة موجودة في المكتبة المرعشيّة العامّة في مدينة قم المقدّسة:

الاُولى: ضمن المجموعة المرقّمة 680، والمذكورة في فهرس مخطوطات المكتبة 2: 274، تأريخها سنة 939 هـ، وتقع هذه النسخة في إحدى وعشرين ورقة بحجم 5/16 × 9 سم وكلّ ورقة تحتوي على اثني عشر سطراً، وقد رمزت لها بالحرف " ش1 ".

الثانية: ضمن المجموعة المرقّمة 5151، والمذكورة في فهرس

الصفحة 9
مخطوطات المكتبة 13: 361، تأريخها سنة 1116 هـ، وتقع هذه النسخة في ثمان أوراق بحجم 18 × 12سم وكلّ ورقة تحتوي على اثني عشر سطراً، وقد رمزت لها بالحرف " ش2 ".

الثالثة: ضمن المجموعة المرقّمة 1409، والمذكورة في فهرس مخطوطات المكتبة 4: 187، تأريخها سنة 1128 هـ، وتقع هذه النسخة في ثمان أوراق بحجم 24 × 12 سم وكلّ ورقة تحتوي على ثلاثة وعشرين سطراً، وقد رمزت لها بالحرف " ش3 ".


والحمد لله ربّ العالمين أولاً وآخراً


الصفحة 10


الصفحة الاُولى من النسخة المحفوظة في المكتبة المرعشيّة "ش1"

الصفحة 11

الصفحة الأخيرة من النسخة المحفوظة في المكتبة المرعشيّة "ش1"

الصفحة 12

الصفحة الاُولى من النسخة المحفوظة في المكتبة المرعشيّة "ش2"

الصفحة 13

الصفحة الأخيرة من النسخة المحفوظة في المكتبة المرعشيّة "ش2"

الصفحة 14

الصفحة الاُولى من النسخة المحفوظة في المكتبة المرعشيّة "ش3"

الصفحة 15

الصفحة الأخيرة من النسخة المحفوظة في المكتبة المرعشيّة "ش3"

الصفحة 16
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله كما هو أهله، والصلاة على محمّد وآله.

اعلم وفّقك الله، أنّه قد أشتهر على ألسنة الطلبة في هذا العصر تحريم المرأة على بعلها بإرضاع بعض ما سنذكره، ولا نعرف لهم في ذلك أصلاً يرجعون إليه من كتاب، أو سنّة، أو إجماع، أو قول لأحد من المعتبرين، أو عبارة يُعتدّ بها تُشعر بذلك، أو دليل مُستنبط في الجملة يعوّل على مثله بين الفقهاء.

وإنّما(1) الّذين شاهدناهم من الطلبة وجدناهم يزعمون أنّه من فتاوى شيخنا الشهيد قدّس الله روحه، ونحن لأجل مباينة هذه الفتوى لاُصول المذهب، استبعدنا كونها مقالة لمثل شيخنا على غزارة علمه وثقوب فهمه، لاسيّما ولا نجد لهؤلاء المدّعين لذلك إسناداً يتّصل بشيخنا في هذه الفتوى يُعتدّ به، ولا مرجعاً يركن إليه.

ولسنا نافين لهذه النسبة عنه (رحمه الله) ; إستعانه على القول بفساد هذه الفتوى، فإنّ الأدلّة على ما هو الحقّ اليقين واختيارنا المبين بحمد الله كثيرة جداً، لايستوحش معها من قلّة الرفيق.

نعم، اختلف أصحابنا في ثلاث مسائل، قد يتوهّم منها القاصر عن درجة الاستنباط أن تكون دليلاً لشيء من هذه المسائل، أو شاهداً عليها، وسنبيّن المسائل التي نحنُ بصددها ممّا لم يتعرض إليه الأصحاب،

____________

1- في " ش1 ": فإنّما.


الصفحة 17
والثلاث التي ذكرنا أنّ(1) للأصحاب فيها اختلافاً، مُعطين البحث حقّه في المقامين، سالكين محجّة الإنصاف في المقصدين، غير تاركين لأحد في ذلك تعلّلاً ما دام على جادّة العدل متحلّياً بحلية التحقيق.

وهذا أوان الشروع في المقصود بعون الله تعالى، فنقول:

المسائل المتصوّرة في هذا الباب كثيرة لا تكاد تنحصر، والذي سنح لنا ذكره الآن خارجاً عن المسائل الثلاث المشار إليها صور:

أ: أن ترضع المرأة بلبن فحلها الذي هي في نكاحه حين الإرضاع أخاها أو أختها لأبويها أو لاحدهما.

ب: أن ترضع ولد أخيها.

ج: أن ترضع ولد اختها.

د: أن ترضع ولد ولدها ابناً أو بنتاً، ومثله ما لو أرضعت إحدى زوجتيه ولد ولد الأخرى.

هـ: أن ترضع عمّها أو عمّتها.

و: أن ترضع خالها أو خالتها.

ز: أن ترضع ولد عمها أو ولد عمتها.

ح: أن ترضع ولد خالها أو ولد خالتها.

ط: أن ترضع أخا الزوج أو اخته.

ي: أن ترضع ولد ولد الزوج.

يا: أن ترضع ولد أخ الزوج أو ولد اخته.

يب: أن ترضع عمّ الزوج أو عمته.

____________

1- أنّ: لم ترد في " ش1 ".


الصفحة 18
يج: أن ترضع خال الزوج أو خالته.

فهذه ثلاث عشرة صورة يتبيّن بها حكم مالم نذكره، أمّا المسائل الثلاث التي اختلف فيها الأصحاب:

فالاُولى: جدّات المرتضع بالنسبة إلى صاحب اللبن، هل يحللن(1)له أم لا؟ قولان للأصحاب. وقريب منه اُم المرضعة وجدّاتها بالنسبة إلى أب المرتضع.

الثانية: أخوات المرتضع نسباً أو رضاعاً بشرط اتّحاد الفحل، هل يحللن له أم لا؟ قولان أيضاً.

الثالثة: أولاد صاحب اللبن ولادة ورضاعاً، وكذا أولاد المرضعة ولادة، وكذا رضاعاً مع اتّحاد الفحل بالنسبة إلى اخوة المرتضع، هل يحللن لهم أم لا؟ قولان أيضاً.

إذا عرفت ذلك، فالذي يدلّ على عدم التحريم في المسائل الأول وجوه:

الأوّل: التمسّك بالبراءة الأصليّة، فإن التحريم حكم شرعي، فيتوقّف على مُستند شرعي.

فإن قيل: كما أن التحريم حكم شرعي فكذا الإباحة أيضاً حكم شرعي، فالمطالبة بالمستند أيضاً قائمة.

أجبنا بوجهين:

أحدهما: أنّه قد تقرّر في الاُصول أنّ الأصل في المنافع الإباحة، والمتنازع منفعة; لأنّه الفرض، فيكون مباحاً.

____________

1- في " ش ": نخلّ.


الصفحة 19
الثاني: أنّ القائل بالتحريم مُثبتٌ، والقائل بالإباحة ناف، وقد تقرّر أيضاً أنّ النافي لا دليل عليه، فيختصّ مدّعي التحريم بالمطالبة بالدليل.

فإن قيل: القائل بإحدى المقالتين ناف للاُخرى، فَلِمَ خصّصتَ القائل بالاباحة بكونه نافياً؟

قلنا: معلوم أنّ التحريم أمر زائد على أصل الذات، والمانع له يكتفي في المنع بردّة وإن لم يصرّح بدعوى الاباحة، وحينئذ فالاباحة ثابتة بطريق اللزوم.

والتحقيق أن يقال: إنْ أردتَ بالاباحة: الإذن الصريح المسوّغ لذلك، فمسلّم توجّه المطالبة عليه، ونحن لا ندّعيه، فإنّ مطلوبنا غير متوقّف عليه.

وإنْ أردتَ: الاباحة المستفادة من الأصل المقرّر المذكور سابقاً، فهو مدّعانا، ولا نسلّم توجّه المطالبة حينئذ.

فإن قيل: الأصل حجّة مع عدم الدليل الناقل، وقد وجد هاهنا، فإنّ الروايات التي سنذكرها تدلّ على التحريم.

قلنا: أمّا الروايات فسيأتي الكلام عليها في الموضع اللائق بها، ونبيّن أن لا حجّة فيها، ولا دلالة بوجه من الوجوه، ونُتبع ذلك بما وجدناه من كلام الفقهاء الدالّ على المراد.

الثاني: عموم آيات الكتاب العزيز الدالة على الاباحة مطلقاً، مثل قوله تعالى: {فانحكوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع}(1)، فإنّها بعمومها تتناول محلّ النزاع، فإنّ (ما) من أدوات العموم.

____________

1- النساء: 3.


الصفحة 20
وكذا قوله تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم}(1)، والأيامى جمع أيم، وهي التي لا زوج لها(2)، بكراً كانت أو ثيّباً، والجمع المعرّف باللام للعموم، فيشمل محلّ النزاع.

وغير ذلك من عمومات الكتاب والسنّة الدالة على التزويج من غير تعيين، فإنّها بعمومها تتناول محلّ النزاع، وهي كثيرة جداً، بل لا تُحصى، وظاهر العموم حجّة، كما تقرّر في الاُصول.

فإن قيل: العموم في ما ادّعيته غير مراد قطعاً; لتناول ظاهره ما ثبت تحريمه، فتنتفي دلالته.

قلنا: ما ثبت فيه التحريم يخصّ من العموم، ويبقى ما عداه على حكمه، فإنّ العام المخصوص حجّة في الباقي.

فإن قيل: يخصّ العموم في المتنازع فيه أيضاً.

قلنا: التخصيص بغير دليل باطل، ولا دليل سوى القياس على ما ثبت فيه التحريم من المحرّمات بالرضاع، ولا يجوز التمسّك به، فضلاً عن أن يُخصّ به عموم الكتاب.

الثالث: قوله تعالى: {وأحُلَّ لكم ما وراء ذلك}(3) بعد تعداد المحرّمات المذكورة في الآية، وذلك نصّ في الباب، ودلالته على المطلوب أظهر، فإنّ المعنى ـ والله أعلم ـ: وأحُلَّ لكم ما عدا تلك المحرّمات المذكورة قبل هذه. ومعلوم أنّ شيئاً من المتنازع فيهن ليس عين شيء من المحرّمات المذكورة في الآية، ولا داخلاً في مفهومه، ولا يدل

____________

1- النور: 32.

2- الصحاح 5: 1868 " أيم ".

3- النساء: 24.


الصفحة 21
عليه بوجه من الوجوه المعتبرة في الدلالة، فإذا عدّد الحكيم أنواعاً وخصّها بالتحريم، ثم أحلّ ما سواها، امتنع عدم الحلّ في غير المذكورات، وإلاّ لكان مغرياً بالقبيح.

فإن قلتَ: قد ثبت التحريم في البعض من غير المذكورات، كالمطلّقة تسعاً للعدّة، والمعقود عليها في العدّة مع العلم والدخول، وغير ذلك.

قلنا: إنّما يثبت المنع ويلزم المحذور لو لم يكن هناك معارض ينتهض مخصّصاً للكتاب، أمّا معه فلا محذور، ولا شيء ممّا ادعي تحريمه خارجاً عن المذكور في الآية بثابت فيه التحريم إلاّ وله شاهد يتمسّك بمثله ويصلح لتخصيص الكتاب، والفرض أنّ المتنازع لا شاهد له أصلاً ورأساً، فمَن ادّعى شيئاً فعليه البيان.

الرابع: الإجماع، فإنّ جميع العلماء ممّن نقلت أقوالهم واشتهرت مصنّفاتهم عدّوا المحرّمات في النكاح و أباحوا نكاح ما سواها، ولم يعدّ أحد منهم شيئاً من المتنازع في جملة المحرّمات، بل ولا نُقل عن أحد من الأثبات الّذين(1) يرجع إلى أقوالهم ويعوّل على أمثالهم، بل في عبارة بعضهم ما يدلّ على المدّعى، وسنشير إليه في موضعه. فمَن ادّعى التحريم في شيء من ذلك احتاج مع إقامة الدليل إلى سلف يوافقه; حذراً من أن يكون خارقاً للإجماع.

فإن قيل: هذا الإجماع الذي ادّعيته لو ثبتَ لكان إجماعاً سكوتياً، وهو غير حجّة عند المحقّقين كما تقرّر في الاُصول.

____________

1- في " ش3 ": الثقات الذي.


الصفحة 22
قلنا: الإجماع السكوتي حقيقته أن يفتي واحد من أهل العصر بحضرة الباقين، فلا يصرّحون بوفاقه ولا يردّون فتواه.

ولا(1) كذلك محلّ النزاع; لأنّ الفقهاء لمّا عقدوا للمحرّمات في النكاح باباً واستوفوا أقسامهنّ فيه، وتحرّزوا أن لا يدعوا من أقسام المحرّمات شيئاً إلاّ ذكروه، كان ذلك جارياً مجرى التصريح بحلّ ما سواهن، وهذا حقيقي لا سكوتي.

فإن قيل: قد ذكرتَ في ما سبق نسبة القول بذلك إلى الشهيد (رحمه الله)، فقد ثبت القائل بالتحريم، فحصل السلف واندفع المحذور.

قلنا: هذه النسبة غير ثابتة عندنا، فإنّا لم نجدها في مصنّف منسوب إليه رحمه الله، ولا سمعناها ممّن يركن إلى قوله سماعاً يوثق بمثله ويستند إليه، وإنّما كُنّا نجدها مكتبة في ظهر بعض كتب الفقه مُستندة(2) إليه، وفي خلال المحاورة كُنّا نسمعها من بعض الطلبة الذين عاصرناهم، وهؤلاء أيضاً لو طولبوا باسناد في ذلك تسكن النفس إلى مثله لم يجدوا إليه سبيلاً. ومثل هذا لا يشفي غلّة، ولا يقطع علّة.

وقد رأيت في عصري كثيراً من الحواشي والقيود منسوبة إليه (رحمه الله)، وأنّا أجزم بفساد تلك النسبة. والسر في ذلك تصرّف الطلبة الذي تعزّ سلامتُه من الزيادة والنقصان، والخطأ وسوء الفهم.

وما هذا شأنه كيف يجوز أن يُجعل قولاً لأحد من المُعتبرين، أو يُجترأ به على مخالفة الإجماع، أو ما يكاد يكون إجماعاً، ومخالفة ظاهر الكتاب والسنّة والأدلّة الجليّة الصريحة، ويجزم لأجله بتحريم ما هو معلوم

____________

1- في " ش2 ": وليس.

2- في هامش " ش1 ": مسنداً آخر (خ. ل).


الصفحة 23
الحلّ، ويقطع به عقدة النكاح، وتحلّ زوجة الرجل بسببه لمن سواه، ويحكم بسقوط أحكام الزوجيّة الثابتة شرعاً بغير شبهة، إن هذا أمر عظيم وبلاء مبين.

الخامس: الاستصحاب، وهو من وجوه:

أ: استصحاب الحال، فإنّ الزوجة حِلّ قبل الرضاع المذكور، والأصل بقاء ما كان على ما كان إلى أن يثبت الناقل عن حكم الأصل الثابت، ولم يوجد. ومن ادّعى شيئاً فعليه البيان، وما يمكن أن يتعلّق به الخصم من الأخبار بأضعف سبب سُنبيّن ما فيه مستوفاً إن شاء الله تعالى.

ب: استصحاب الإجماع إلى موضع النزاع، فإنّ المرأة قبل الرضاع المذكور حلال إجماعاً، فكذا بعده ; عملاً بالاستصحاب، وهذان النوعان من الاستصحاب حجّة كما بُيّن في موضعه.

ج: أنّ حقوق الزوجيّة ثابتة قبل الرضاع المذكور من الطرفين، فكذا بعده; لما تقدّم من الاستصحاب، فنفيها يحتاج إلى دليل.

السادس: الاحتياط، فإنّ الفروج مبنيّة على الاحتياط التام، ولا ريب أن حلّ المرأة المذكورة لغير من هي زوجة له بمجرّد الرضاع المذكور قول مجانب للاحتياط، بل مباين للتديّن، وفيه من الاجتراء على الله، ومخالفة لإرشاد السنّة المطهّرة ما هو بيّن جلي.

فإن قيل: بقاء المرأة المذكورة على حكم النكاح مع بعلها أيضاًمخالفاً للاحتياط، فيعارض الاحتياط بمثله.

قلنا: لا نسلّم، فإنّ ذلك إنّما يُخالف الاحتياط لو كان الدليل من الكتاب أو السنّة أو الإجماع على خلافه، أو كان ثمّ اختلاف الفقهاء ظاهر شهير. على أنّه لو ثبت ذلك لم يستويا، فإنّ الحكم بحلّ ما ثبت تحريمه