المقدّمة


الحمدُ لله ربّ العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، والصلاة والسّلام على خير مدعوٍّ ومجيب، ورسول وحبيب، علم التقى، وبدر الدجى، محمّد المصطفى (صلى الله عليه وآله)، وعلى عترته أُولي الحجى وذوي النهى، والعروة الوثقى، وسفينة النجاة، التي أمن مَن ركبها، وغرق مَن تركها، وعلى صحبهم والتابعين لهم بإحسان، الحافظين للوديعة، ومَن أحبّوا الشريعة، واللعنة الدائمة على مَن نازعهم ونصب لهم.

وبعد،

تعرّفنا في ما مضى على عدّة جوانب من حياة المحقّق الكركي: الشخصيّة، والسياسيّة، والعلميّة، وآرائه وفوائده.

ففي البحث عن حياته الشخصيّة تحدّثنا عن اسمه، ومولده وموطنه، وأُسرته، وأخلاقه وسجاياه، وآثاره ومآثره، وكراماته، ومراحل حياته المختلفة، ثمّ مدحه وإطرائه، وأخيراً وفاته ومدفنه.

وفي حياته السياسيّة تعرّضنا لعدّة مواضيع لها صلة بالكركي وعصره: كالتصوّف والصوفيّة، وموقف العلماء من الحكّام، ونشوء الدولة الصفويّة وكيفيّة تعامل العلماء معها، ثمّ تحدّثنا بشكل مفصّل عن علاقة الكركي بهذه الدولة ابتداءً من تأسيسها حتّى سنة 940 هـ، حيث عاصر الكركي حاكمين من حكّامها هما الشاه إسماعيل وابنه الشاه طهماسب.


الصفحة 2
وفي حياته العلميّة سلّطنا الضوء على بعض المجالات التي كان للكركي دور فعّال فيها، فتحدّثنا عن عصره ومعاصريه، وأساتذته وشيوخه، والروايات التي حصل عليها والتي منحها، ومؤلّفاته، والكتب التي قرأها والتي قُرئت عليه، ومكانته العلميّة، ونشاطه العلميّ، والمحاورات والردود العلميّة التي جرت بينه وبين بعض الأعلام.

ثمّ أفردنا بحثاً مستقلاًّ وكاملاً لآرائه ونظريّاته المودعة في مؤلّفاته، والتي لم يُفرد لها تصنيفاً مستقلاً، حيث أجرينا عمليّة استقصاء كامل لكافّة مؤلّفاته، واستخرجنا منها هذه الآراء والنظريّات، وهي آراؤه الكلاميّة، والأُصوليّة، والرجاليّة، وفوائده التأريخيّة، وملاحظاته عن بعض المؤلّفات، وشواهده الشعريّة، والجداول والرسوم التي استعملها.

وفي نهاية كلّ بحث أفردنا فصلاً خاصّاً بعنوان " الملاحظات "، سجّلنا فيه الملابسات التي حصلت في حياته، والاشتباهات التي وقع فيها بعض المؤلّفين عند ترجمتهم للكركي.

والآن تعال معي عزيزي القارئ لنطلّ على جانب آخر من جوانب عظمة هذا الرجل، حيث نتعرّف على بعض آرائه ونظرياته التي استطاع أن يصهرها في بودقة التأليف عبر كتبه المختلفة من حيث مواضيعها وحجمها وأسباب تأليفها.

إنّ الوقوف على مؤلّفات المحقّق الكركي، ودراستها بشكل مفصّل ودقيق، يكشف لنا ـ من جانب ـ المستوى العلمي الذي تمتّع به هذا العالم، ومن جانب آخر يُظهر لنا المنزلة الاجتماعيّة الكبيرة التي كان يحتلّها آنذاك، ليس في أوساط الناس عموماً، بل حتّى عند كبار رجال الدولة، وعلى رأسهم الشاه إسماعيل وابنه الشاه طهماسب، وقد تعرّضنا لهذه النقاط بشكل مفصّل

الصفحة 3
في ما مضى من الكتاب عند حديثنا عن حياته.

والملاحظ أنّ مؤلّفات الكركي تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأوّل:

الرسائل، والتي تتناول عادةً البحث عن موضوع معيّن، أو مسألة فقهيّة واحدة. وهذه الرسائل يختلف حجمها، فبعضها يقع في أربعين أو خمسين صفحة، والبعض الآخر يقع في عدّة صفحات.

الثاني:

الحواشي والشروح لبعض الكتب المعتمدة عندنا، كالشرائع والمختصر النافع للمحقّق الحلّي، والقواعد والإرشاد والمختلف للعلاّمة الحلّي، والألفيّة الشهيديّة.

الثالث:

جواب الأسئلة والاستفتاءات التي كانت ترد عليه من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وبمستويات مختلفة في التعبير، وقد قام بعض تلامذته وبعض العلماء القريبين من عصره بجمعها وترتيبها.

وقد استطعتُ بحمد الله تعالى وتوفيقه طيلة سنوات عديدة، أن أجمع وأُحقّق من مؤلّفات هذا العالم الجليل أربعة وخمسين مؤلّفاً، معتمداً على مائة وعشرين نسخة خطيّة موجودة في عدّة مكتبات في الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة: قم المقدّسة، مشهد المقدّسة، طهران، همدان، يزد، خوانسار، أصفهان. وقد عانيت الكثير من المصاعب في جمع هذه النسخ الخطيّة، فإنّ الحصول على نسخة خطيّة واحدة من أقرب المكتبات إلينا في مدينة قم المقدّسة لا يخلو من مصاعب جمّة، فكيف بهذا الكمّ الهائل من النسخ الخطيّة.


الصفحة 4

منهجيّة التحقيق


اعتمدت في تحقيقي لهذه المجموعة من رسائل الكركي وحواشيه على طريقة واحدة، أُلخّصها بعدّة نقاط:

(1) اتّبعت طريقة التلفيق بين النسخ الخطيّة، وذلك لعدم عثوري على نُسخ الأصل التي كتبها الكركي بيده. نعم، بعض الرسائل عثرتُ لها على نُسخ مقروءة على الكركي، إلاّ أنّي لم أكتف بها وأضفتُ لها نُسخاً أُخرى.

(2) عند حصولي على عدّة نسخ خطيّة لإحدى هذه المؤلّفات، أقوم بمقابلة بعضها مع البعض الآخر، وإثبات الصحيح أو الأصح في المتن وما قابلهما في الهامش.

وعند عدم حصولي إلاّ على نسخة واحدة، فإنّي أجعلها الأصل في عملي، وأُشير في الهامش إلى ملاحظاتنا واستظهاراتنا عليها.

(3) استخراج كلّ ما يحتاج إلى تخريج من آيات قرآنيّة كريمة، وأحاديث شريفة، وأقوال العلماء في شتى العلوم، وشواهد شعريّة، وأماكن وبقاع. وحاولت قدر المستطاع أن أعتمد على المصادر الرئيسيّة في كافة الاستخراجات، إلاّ تلك المصادر المفقودة أساساً أو التي لم أُوفّق للحصول عليها، فقد استعنتُ في الحصول على أقوالها بواسطة مصادر أُخرى ميسّرة.

(4) لم أُترجم كافة الأعلام الّذين وردت أسماؤهم، بل ترجمتُ لبعضهم حسب الضرورة التي رأيتها.

(5) عند شروعي في تحقيق الحواشي والشروح وضعتُ متن الكتاب المشروح في أعلى كلّ صفحة، ويتلوه الشرح أو الحاشية التي كتبها الكركي.


الصفحة 5
ثمّ قمتُ بحذف المتن واكتفيت بالإشارة إليه ; رعاية للاختصار، وتلبيةً لاقتراح بعض الإخوة الأفاضل من المحقّقين.

(6) رتّبتُ الرسائل حسب مواضعيها، فوضعتُ أوّلاً الرسالة النجميّة التي جمع فيها الكركي بين علمي الكلام والفقه وأدرج فيها أيسر ما يجب على المكلّفين معرفته في الأُصول والفروع، ثمّ رسالة استنباط الأحكام التي تعبّر عن المنهج العلمي للكركي، ثمّ الرسائل الفقهيّة مرتّبة بترتيب كتب الفقه ابتداءً من الطهارة وانتهاءً بالقضاء، ثمّ الرسائل المتفرّقة وجوابات المسائل الفقهيّة التي وردت عليه.

(7) نظّمتُ فهارس فنيّة كاملة، تعميماً للفائدة واتّباعاً للمنهج الحديث في التحقيق.


وآخر دعوانا أن الحمدُ لله ربّ العالمين

محمّد الحسّون


الصفحة 6


اثنتا عشرة مسألة





الصفحة 7

الصفحة 8

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله ربّ العالمين، وصلّى الله على نبيّنا وحبيبنا محمّد، وآله الطيبّين الطاهرين.

وبعد،

هذه رسالة متوسّطة تحتوي على اثنتي عشرة مسألة، جمعها أبو المعالي الاسترابادي وعرضها على استاذه المحقّق الكركي، فنقّحها ـ الكركي ـ وأوضح مبهمها وأجاب على الأسئلة الواردة فيها. والظاهر أنّ الاسترابادي أثبت فيها أوّلاً عشر مسائل سمّيت بالعشرة الكاملة، ثم اُضيف لها مسألة واحدة، فوصلت إلى الكركي إحدى عشرة مسألة، فأضاف إليها مسألة كلاميّة، فأصبح مجموعها اثنتي عشرة مسألة.

ولمزيد الإطلاع على هذه الرسالة انظر ما كتبناه عنها في حديثنا عن مؤلّفاته.

اعتمدت في تحقيق هذه الرسالة على النسخة الخطيّة المحفوظة في مكتبة جامعة طهران ضمن المجموعة المرقّمة 872، والمذكورة في فهرس مخطوطات المكتبة 5: 180.


والحمد لله ربّ العالمين


الصفحة 9


الصفحة الاُولى من النسخة المحفوظة في مكتبة جامعة طهران

الصفحة 10

الصفحة الأخيرة من النسخة المحفوظة في مكتبة جامعة طهران

الصفحة 11

الصفحة 12
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله الذي يحقّ الحقّ بكلماته وهو بحقّ الحمد حقيق، والصلاة على سيّد الأنبياء محمَّد وآله النجباء ولاة التحقيق.

وبعد، فقد وردت عليَّ في المحرم المنتظم سلك شهور سنة تسع وعشرين وتسعمائة مسائل جليلة وفوائد جميلة، عن السادة الأجلّة الأخلاّء الفضلاء الأتقياء العلماء، المؤيدين باستفاضة الكمال عند عتبة باب مدينة العلم عليه صلوات الله ما دارت الخضراء على الغبراء، مع الإشارة إلى العبد باستخراج حقائقها، وإبانة الحقّ فيما لها وعليها من دقائقها، فاقتفيت الإشارة، وإن كُنتُ حال الورود في أبرد الأماكن وسط الشتاء، على أعلى شواهق الجبال المعانقة أعناق السماء، مقتفياً بين الثلج آثار أقدام السيّد، مسرحاً بقيد صيد ألف مسألة محفوظة عن القيد.

فشرعتُ متوكّلاً على الله، ومُستمداً من أوليائه الّذين هم خزائن علمه في أرضه وسمائه، في تحرير ما ورد على الذهن القاصر، وكتب ماسنح للخاطر الفاتر.

أخلائي إن وجدتم في زلال قريحتي الصافية جموداً، أو في اشتعال طبيعتي الوقّادة خموداً، فقد قدّمت أعذاري وقبولها مأمول، فإن العذر عند كرام الناس مقبول، وها أنا أقول، وربي حسبي في كلّ مسؤول:

اعلم أنّ المسائل المذكورة كانت احدى عشرة مسألة، أوّلها متعلّقة بمباحث الألفاظ من مقدّمات المنطق، وثانيها بعلم الكلام، والباقي بالفقه، فأكملتها بتحقيق مسألة كلاميّة مهمّة من أن أفعال الله تعالى معلّلة بالغرض حتى كملت اثنتي عشرة مسألة:


الصفحة 13

المسألة الاُولى

إنّ المذكور في كُتب المنطق من حصر الدلالة في المطابقة والتضمّن والالتزام، منقوض بالمركّب الذي يكون أحد جزئيه مستعملاً في المعنى المجازي والآخر في الحقيقي، ويكون الجزء المستعمل في المعنى الحقيقي قرينة على المعنى المجازي، بحيث يدلّ دلالة كلّية على المعنى المجازي كقولهم: أسد في الحمّام، فإنّ لفظ الحمّام يدلّ دلالة كلّية على أنّ المراد بالأسد الرجل الشجاع، فدلّ المركّب المذكور كلّياً على أنّ الرجل الشجاع في الحمّام.

وهذه الدلالة ليست مطابقة ولا تضمّناً وهو ظاهر، ولا إلتزاماً ; لأنّ المعنى الحقيقي للمركّب المذكور لا يلزمه بحسب التعقّل كون الرجل الشجاع في الحمّام، فيبقى واسطة بين الأقسام، هذا محصّل السؤال.

ويمكن أن يقال: إنّ مقسم الدلالة هو دلالة اللفظ الدالّ على معناه الحقيقي، وحينئذ خرج المركّب المذكور عن المقسم ; لأنّ المركّب من الحقيقة والمجاز ليس بحقيقة، على أنّهم اعتبروا في الدلالة ما يكون بعد العلم بالوضع كلّياً، ودلالة المركب المذكور على الرجل الشجاع ليس كلّياً، إلاّ بملاحظة مقدّمة غير العلم بالوضع، مثلاً فيما نحن فيه أسد في الحمّام كلّياً لا يدل، لأنّ قولهم: في الحمّام إنّما يدلّ على الرجل الشجاع بضم مقدّمة وهي: أنّ الأسد ليس يدخل في الحمّام.

وهذه المقدّمة إنّما تصح بعادة البلاد، فإنّه لو صح أن ينقل أنّ في البلاد الباردة يحفظ الأسد في الحمّامات، لا يفهم ـ سيّما في تلك البلاد ـ

الصفحة 14
من قولهم: أسد في الحمّام، ذلك المعنى أصلاً.

وكذا قولهم: أسد يرمي، إلاّ بملاحظة أنّ الأسد لا يرمي.

نعم، أهل العربيّة لمّا لم يعتبروا الكليّة في الدلالة جعلوا المركّبات المجازيّة داخلة في الدالّ المنقسم إلى المطابقي والتضمّني والالتزامي، والمنطقيون أخرجوها وإن كان نظرهم إلى الإفادة والاستفادة الحاصلة من المجاز.

إن قلت: فعلى هذا القول إنّ المنطقي غرضه من البحث عن الألفاظ الإفادة والاستفادة، فلا بدَّ حينئذ من دخول مادّة النقض في المقسم، فبطل الحصر.

قلت: أحد لا يشكّ أنّهم لم يعتبروا مثل المجاز داخلاً في مقسم الدلالة، ولو صح فلا نقض.

إن قلت: فحينئذ يلزم النقض في حصر الدلالة المطلقة في الوضعي والطبيعي والعقلي، إذ دلالة المركّب المذكور ليس عقليّاً ولا وضعيّاً.

قلت: النقض المذكور غير متوجّه ; لأنّ المجاز داخل في الوضعي، ليس داخلاً في اللفظي الوضعي المعتبر في القسمة الثانية.

إن قلت: كلام الناقض في الحصر على تقدير دعوى الحصر العقلي كما فعله السيّد الشريف (قدس سره)، وحينئذ يكفيه الاحتمال ولا يحتاج إلى مادة النقض.

قلت: هذا كلام آخر، فإنّ ظاهر أوّل الكلام كان نقض الحصر، وإن اُريد مجرّد المنع فحينئذ يقال: إنّ المنع مشهور، بل نقض الحصر بأمثلة ذكرناها في شرح التهذيب، إنّما كلامنا هنا في مادّة النقض بخصوصها.


الصفحة 15

المسألة الثانية

في بيان حدوث العالم بحيث يعمّ المجرد والمادي، وهي مسألة مهمّة، مع أنّ المذكور في كلام المتكلّمين ـ كأفضل المحققين في تجريده ـ من دليل الحدوث مخصوص بحدوث المادّيات.

اعلم أنّ الاهتمام بهذه المسألة إنّما هو لاثبات القدرة التي تتوقّف عليها النبوّة ومسألة الإختيار، وقد ثبت باتّفاق المتكلّم والحكيم، كيف لا ومَن جوَّز أن يكون الواجب تعالى مؤثّراً في العالم كالنار في الإحراق وسائر الجمادات فهو أنقص من الجماد، نعم وقع الخلاف بين المتكلّم والحكيم في الإختيار لا بمعنى إن شاء فعلَ وإن لم يشأ لم يفعل، بل في أنّ مقدم أي الشرطيتين واقع في الأزل.

فالحكيم حكم بأنّه تعالى شاء في الأزل وفعل فرداً من العالم، والمتكلّم قال: لم يشأ لم يفعل، فكما أنّ قول الأشاعرة بوجود الصفات التي داخلة في الحقيقة في الممكن لم يضرّ في إثبات الشرع والدين كذا ما قاله الحكيم، بل قول الحكيم أقرب ; لأنّ إيجاد الصفات على مذهب السنّة لا يمكن إلاّ بطريق تؤثر النار في الإحراق.

نعم، إن كان ما نُقل عن الحكماء من أنّ الله تعالى خلق العقل الأوّل فقط وليس له دخل في باقي العالم، صحيحاً، يبقى كلامهم بعيداً عن ذلك، لكن هذا افتراء كما حقّقه المحقّق الطوسي (قدس سره) في شرح الاشارات.

والمتكلّمون لمّا وجدوا هذه الشنعة غنيمة شهروها وأوردوها في كتبهم، فالمحقّقون أثبتوا في تصانيفهم حدوث العالم المادّي وأحالوا قسم

الصفحة 16
المجرّد إلى النقل، فإنّه يثبت بعد اثبات الشرع حدوث العالم مطلقاً. وما اُفيد في الرسالة المرسلة في بيان حدوث العالم بجميع أفراده، هو أنّه لو تحقق فيما بين الممكنات قديم زماني يكون تأثير المؤثّر فيه دائماً باعتبار البقاء، إذ علّة الحاجة هو الإمكان، وهو مستمر.

ولا شكّ أنّ التأثير في البقاء في الزمان الثاني لم يكن حاصلاً في الزمان الأوّل، إذ هو شخص آخر من التأثير في أثر آخر، فلو لم يكن للممكن الموجود أوّل لزمان وجوده لاحتاج إلى أفاعيل وتأثيرات غير متناهية مترتّبة، فيلزم التباس ويبطل ببرهان التطبيق.

هذا خلاصة ما ذكر من الدليل، وفيه:

أنّ هذا لو صح يجري في جميع الحوادث الزمانيّة الباقيّة، إذ آنات وجود الحادث المذكور غير متناهية، وكذا التأثيرات والإبقاءات.

وأيضاً نقول: كلّ حادث يحتاج إلى اُمور متناهية مترتّبة مجتمعة، إذ لا ريب أنّ المعلول لا يتخلّف عن علّته، فالعلّة التامّة للحادث لا يمكن أن تتقدّمه، فحين الحدوث تتمّ العلّة بجزء جديد، وينقل الكلام إلى علّة الجزء الجديد ثم إلى علّة علّته، ولا بدّ من تحقّق الغير المتناهي حال الحدوث، وإلاّ يلزم التخلّف المحال.

وحينئذ يقال: إنّ برهان التطبيق والتضايق يجريان في ذلك.

واُجيب بأنّ البرهان إنّما يبطل وجود السلسلة، والإبقاء والتأثير أمران اعتباريان، وكذا السلسلة المترتّبة المجتمعة عند الحدوث، ولو سلّم يكون هذا اعتراضاً على برهان التطبيق والتضايق لا دليلاً على المطلوب.


الصفحة 17

المسألة الثالثة

قال العلاّمة (قدس سره) في (القواعد): لو قيّد ناذر الدهر بالسفر، ففي جواز سفره في رمضان [اختياراً] (1) إشكال، أقربه الجواز، وإلاّ دار(2).

اعلم أنّ تحرير المقام يقتضي اُموراً:

الأوّل: أنّ الإشكال يقتضي أمارتين متعارضتين.

الثاني: أنّ الأقربيّة تقتضي قوّة إحداهما أو تقويتها، لكن بحيث لا تخرج الاُخرى عن القوّة.

الثالث: بيان الدور.

الرابع: أن نبيّن احتمال ضعف بيان الدور، فإنّ الدور لو كان ثابتاً لاوجه للأقربية بل يكون صواباً، إلاّ أن يكون الدليل المعارض غير مدخول، وليس كذلك، اللّهم إلاّ أن يقال في نظر العلاّمة لم يكن مدخولاً.

فإذا علمت ذلك فنقول:

أمّا الأمر الأوّل: وهو أنّ هنا دليلان، فالدليل الأوّل على أن السفر في الصورة المذكورة حرام ; لأنّ هنا مسألة مقرّرة: هي أنّ كلّ سفر جائز يجوز فيه الإفطار، فإذا جاز السفر المذكور يلزم جواز الإفطار المستلزم لاخلال النذر المحرّم، وما يستلزم الحرام حرام، فالسفر حرام.

والدليل الثاني على أنّ السفر في هذه الصورة جائز: هو أنّ السفر المذكور لو كان حراماً، يكون بناءً على أنّ جواز السفر يكون سبباً للإفطار

____________

1- لم ترد في النسخة الخطيّة، أثبتناها من المصدر.

2- قواعد الأحكام 1: 68.


الصفحة 18
بانعقاد النذر، فإذا كان جواز الإفطار علّة لتحريم السفر، وتحريم السفر سبب لعدم جواز الإفطار، فيلزم من رفع السبب الذي هو الجواز عدم تحريم السفر، فيلزم من التحريم عدم التحريم، وهو المطلوب.

أو يقال بلزوم الخلف، وهو اجتماع التحريم وعدم التحريم، أو الجواز وعدم الجواز المستلزم للتناقض المُحال.

وأمّا الأمر الثاني: وهو بيان قوّة الدليل الثاني أو تقويته ; فلأنّ الأصل الجواز، فيقوى الدليل الثاني بأصالة حلّ السفر. هذا بيان التقوية.

ويمكن بيان القوّة بأن يقال: إنّ قول المستدل: إنّ جواز الإفطار مستلزم لإ خلال النذر ممنوع ; لأنّ الإخلال ظاهره أن يفقد النذر ثم يحمل بغير مقتضاه، والجواز لا يستلزم ذلك. فإن اُريد بالإخلال عدم انعقاد النذر، فحينئذ يبقى كلامه ظاهر الاختلال، إذ عدم الانعقاد ليس بحرام.

ويمكن أن يقال: إنّ النزاع يرجع حقيقةً إلى انعقاد النذر وعدم انعقاده.

تفصيله: أنّ المصنّف (قدس سره) ذهب إلى أقربيّة انعقاد النذر في المسألة المذكورة على ما يجيء، لكن لا بدّ أن يعلم أنّ في انعقاد النذر المذكور في صورة يتحقّق وجوب الصوم في رمضان خلافاً لا في محل التحريم ـ الذي هو كون المكلّف في الشهر المذكور في السفر، فإنّ الصوم في الصورة المذكورة حرام، والنذر لا ينعقد في الحرام إجماعاً ـ إنّما الخلاف في صورة الوجوب والاباحة، واختار المصنّف الانعقاد لكن لا في صورة تحريم الصوم وهو حال السفر، فلا ينعقد النذر المذكور اتّفاقاً حال السفر.

إن قيل: إنّ نذر الصوم لا ينعقد في شهر رمضان في السفر، وليس

الصفحة 19
كلامنا فيه، إنّما كلامنا في انعقاد النذر في غير شهر رمضان، بحيث لا يبقى لقضاء ما أفطر الناذر المسافر في شهر رمضان وقت، فلا يجوز له السفر لا لأنّه انعقد النذر بالنسبة إلى شهر رمضان في السفر، بل لأنّه انعقد النذر في جميع وقت يمكن فيه قضاء ما أفطر في شهر رمضان.

قلت: لا نسلّم استغراق النذر لجميع أوقات يمكن فيها القضاء، بل أيام القضاء مستثنى، فدعوى انعقاد النذر في الدليل يقرب إلى المصادرة، وكذا دعوى بطلان إخلال النذر بالمعنى الذي أشرنا إليه، لكن هذا يُخرج الدليل الأوّل عن المعارضة.

أمّا الأمر الثالث: وهو بيان الدور، فقد يثبت ذلك بوجوه:

الأوّل: أنّ جواز الإفطار علّة لتحريم السفر، وتحريم السفر علّة عدم جواز الإفطار، وعدم جواز الإفطار علّة عدم تحريم السفر، وعدم تحريم السفر علّة جواز الافطار، فيلزم تقدّم جواز الافطار على نفسه بمراتب.

بيان المقدّمات: أمّا الاُولى والثانية فقد مرّ.

وأمّا الثالثة ; فلأنّ الجواز إذا كان علّة لتحريم السفر، يكون عدم جواز الافطار علّة لعدم التحريم، بناءً على أنّ عدم العلّة علّة لعدم المعلول.

وأمّا الرابعة ; فلأنّ تحريم السفر لما فرض علّة لعدم جواز الإفطار، يكون عدم التحريم علّة للجواز، بناءً على أنّ عدم العلّة علّة لعدم المعلول.

الثاني: أنّ عدم جواز الإفطار علّة لعدم تحريم السفر، وعدم تحريم السفر علّة لجواز الإفطار، وجواز الافطار علّة لتحريم السفر، وتحريم السفر علّة لعدم جواز الافطار، فيلزم أن يكون عدم الجواز مقدّماً على عدم الجواز بمراتب.


الصفحة 20
الثالث: أنّ صحة تحريم السفر المذكور فرع صحة انعقاد النذر، وصحة انعقاد النذر موقوف على صحة تحريم السفر.

قال صاحب (الإيضاح) في بيان القرب شيئاً يدلّ على بيان الدور: إنّه لو حرم لزم استلزام الشيء لنقيضه، واللازم باطل فالملزوم مثله.

بيان الملازمة: أنّ تحريمه يستلزم تحريم القصر فيه ; لأنّه كلّما لم يجز السفر لم يجز الإفطار، ولا مقتضي لتحريم السفر إلاّ جواز الإفطار ; لأنّه [هو] (1)، المستلزم للإخلال اختياراً المستلزم لتحريم السفر إجماعاً، وإذا انتفى المقتضي انتفى تحريم السفر ; لعدم السبب المقتضي له، فيستلزم تحريمه عدم تحريمه، [وأمّا استحالة التالي فظاهرة] (2).

وهذا وأشباهه في مسائل تأتي يسمّيها المصنّف بالدور.

ويمكن توجيه الدور المصطلح عليه بأنّ تحريم السفر موقوف على وجوب القصر، وهو موقوف على إباحة السفر، والإباحة موقوفة على عدم الإخلال بالنذر، وهو موقوف على [وجوب] (3) الاتمام، ووجوب الاتمام موقوف على تحريم السفر، فيتوقف على نفسه بمراتب(4) انتهى.

وقد علمت فيما مرَّ أنّه يلزم عليه التحريم لعدم التحريم، وكذا سببيّة الجواز لعدم الجواز، وجعل تقدّم الشيء على نفسه مسمّى بالدور أحسن، وإن لم يكن في هذا المقام لتأويل الدور إلى المعنى المجازي حسناً ; لأنّ الدور بمعناه الحقيقي كما بيّنا.

____________

1- لم ترد في النسخة الخطيّة، أثبتناها من المصدر.

2- لم ترد في النسخة الخطيّة، أثبتناها من المصدر.

3- لم ترد في النسخة الخطيّة، أثبتناها من المصدر.

4- ايضاح الفوائد 1: 246 ـ 247.


الصفحة 21
ويمكن بوجوه اُخر بيان الدور تركناها، لكن نقول على ما حرّرنا: لا نحتاج إلى حصر المقتضي في الجواز، بل يكفي الاقتضاء في استلزام الشيء لنقيضه، فلا يكون المنع الذي أورد في الرسالة ضارّاً، بل منع مقدّمات الدليل نافع على سياق المصنّف، فلنتكلّم في مقدّمات بيان الدور المذكور في (الإيضاح):

أمّا المقدّمة الاُولى: وهي تحريم السفر موقوف على وجوب القصر، إن اُريد بها أنّ تحريم السفر في الواقع موقوف على وجوب القصر المتحقّق في الواقع، فممنوع.

وإن اُريد أنّ حكم الحاكم بتحريم السفر منوط على وجوب القصر، كما قالوا: إنّ علل الشرع معرّفات، لو سلّم فلا يتحقّق الدور، إذ لا يمكن إثبات التوقّف باعتبار العلم في جميع المراتب.

أمّا المقدّمة الثالثة: وهو قوله: الإباحة موقوفة على عدم الإخلال فممنوع، إذ الإباحة لو حملت على ظاهرها لا تصح ; لأنّ الإباحة المقابلة للأحكام الأربعة لا تتوقّف على عدم إخلال النذر، إذ وجوب السفر واستحبابه وكراهته موجبات للإفطار المستلزم للإخلال، فالمراد عدم الحرمة موقوف على عدم الإخلال، وهو ممنوع، إذ يلزم بناءً على أنّ الرفع علّة للرفع أن يكون الإخلال علّة للحرمة، مع أنّ النذر علّة للحرمة.

أمّا المقدّمة الرابعة: وهي قوله: عدم إخلال النذر موقوف على وجوب الاتمام، ممنوع، إذ عدم الاخلال أزلي لا يتوقف على وجوب الاتمام، إذ الوجوب حادث عند الإماميّة. إلاّ أن يراد بعدم الاخلال: عدم مخالفته النذر بعد انعقاده فهو حادث، لكن حينئذ يظهر منع المقدّمة

الصفحة 22
الرابعة، إذ وجوب الاتمام متحقّق مع انعقاد النذر، وعدم الاخلال حادث بعده. وكذا الثالثة ; لأنّ عدم الحرمة ليس موقوفاً على الاخلال الحادث.

[أما الأمر] الرابع: بيان خلل في إثبات الدور، وهو إنّا لا نسلّم أنّ رفع العلّة علّة لرفع المعلول عند المتكلّمين، فإنّهم قالوا: إنّ البنّاء فاعل للبناء، وعدم الفاعل لا يستلزم بقاء البِناء، وعلى مذهب الإماميّة القائلين بأنّ العبد فاعل لأفعاله، وأن القبيح لا يصدر عن الله، إذا سبّ أحدٌ النبي (صلى الله عليه وآله) أو الله تعالى في كتاب، لا ريب أنّ هذا قبيح لا يصدر عن الله، مع أنّه يبقى ويفنى الساب.

وأيضاً نمنع أنّ الجواز الذي رفعه لازم من تحريم السفر عين الجواز الذي كان بضم النذر سبباً للتحريم.

ويمكن أيضاً منع قوله: صحة انعقاد النذر فرع صحة تحريم السفر في الوجه الثالث من بيان الدور.

فإذا أحطّت بما سمعتَ، فاعلم أنّ الحقّ جواز السفر على تقدير النذر المذكور، وجعل المصنّف (قدس سره) هذا موضع الإشكال بعد ملاحظة أنّ النذر لا ينعقد في الحرام، وهو صوم السفر المذكور.


الصفحة 23

المسألة الرابعة

في (القواعد): لو اشترى عبداً بجارية ثم أعتقهما، فإن كان الخيار له بطل العتقان ; لأنّه بعتق الجارية مُبطل للبيع، وبعتق العبد مُلتزم بالعقد، فعتق كلّ منهما يمنع عتق الآخر فيتدافعان.

ويحتمل عتق الجارية ; لأنّ العتق فيها فسخ وفي العبد إجازة، وإذا اجتمع الفسخ والإجازة قدّم الفسخ، كما لو فسخ أحد المتعاقدين وأجاز الآخر البيع، فإنّ الفسخ مقدّم. وعتق العبد ; لأنّ الإجازة إبقاء للعقد والأصل فيه الاستمرار(1).

وفي الرسالة: أنّ الشيخ العلاّمة المعاصر اختار بطلان العتقين كما اختاره المصنّف، وأورد السيّد الأيد أنّ عتق العبد لما كان في ملكه فعتقه واقع في محلّه، وأمّا الجارية فإنّما يقع عتقها في محلّه لو فسخ العقد الأوّل، ونفس العتق لا يدل على الفسخ إلاّ بضميمة أنّ فعل المسلم الأصل فيه الصحة، فلمّا عتق مملوك شخصاً آخراً، ومعلوم أنّ عتق مملوك شخص آخر لا يصح، فلا بدّ أن يُحمل على أنّه قبل العتق فسخ العقد حتى يمكن حمله على الصحة كما بيّنه الشيخ العلاّمة المذكور في مسألة دلالة العتق على الفسخ.

ولا شكّ أنّ هذا إنّما يتيسّر إذا أمكن حمل فعله على الصحة، ولمّا كان العتقان باطلين لا يمكن حمل فعل المسلم على الصحة في المسألة المذكورة، فلا يدلّ على الفسخ فلا ينعقد عتقهما، فلا يزاحم عتق العبد

____________

1- قواعد الأحكام 1: 128.


الصفحة 24
فيعتق العبد، فالقوة للاحتمال الثالث.

هذا خلاصة كلام الرسالة.

وتلخيصه أنّ الصحة إنّما هو ترتّب الأثر، والعتقان لمّا حكم ببطلانهما في المسألة فلا يقال: إنّ فعل المسلم محمول على الصحة، وإذا بطل حمل فعل المسلم على الصحة، فلا يقع الفسخ، فيبقى العبد معتقاً، إذ عتق العبد مع عتق الجارية كعتق عبد المعتق أعتقه مع عتق عبد غيره، إذ الجارية صارت ملكاً للغير فلا يقع عتقها.

نعم، لو حمل فعل المسلم على الصحة، لا بدّ من ملاحظة إبقاء بيع العبد وفسخ الجارية حتى يقع العتقان، وإذا علمت أنّ حمل فعل المسلم على الصحة غير محمول على الصحة، فلا يكون قبل قول المعتق: أعتقهما، لا فسخ البيع ولا بقاؤه، فحينئذ يكون عتق العبد واقعاً، إذ المانع من عتقه فسخ البيع ولم يقع.

إن قلت: عتق العبد يستلزم محذورات:

الأوّل: أنّ فعل المسلم غير محمول على الصحة.

الثاني: لا يكون العتق في الخيار فسخاً مع أنّ الشائع ذلك.

الثالث: أنّه يلزم حمل فعل المسلم على غير المشروع، وهو اعتاق مال الغير وهو الجارية.

قلت: مثل هذا مشترك في صورة بطلان العتقين وصورة عتق الجارية، والاحتمالات لا تخرج عن هذه:

أمّا صورة بطلان العتقين ; فلأنّ بطلان كلّ من العتقين فساد فيلزم فسادان، واعتاق أحدهما اعتاق مال الغير، فيلزم خلاف الشرع، مع أنّه يلزم عدم ترتّب الأثر وهو العتق، ولا شكّ أنّه أمر مهم.


الصفحة 25
وأمّا عتق الجارية ; فلأنّه يلزم منه اعتاق مال الغير بالنسبة إلى العبد، وبطلان عتق العبد، وعدم إبقاء البيع الذي يتوقّف صحة فعل المسلم ـ أعني عتق العبد ـ عليه.

اعلم أنّ فعل المسلم هنا إن حُمل على المشروع، فلا بدّ أن يلاحظ في: (أعتقتهما) أمران:

الأوّل: فسخ البيع.

الثاني: ابقاء البيع.

وهذا محال، فلا يصح حمل الفعل المذكور على المشروع إلاّ أن يقال: الفسخ لا بدّ منه قبل العتق.

وأمّا إبقاء البيع فلا يحتاج ملاحظة، فلا يلزم المحال، إذ البيع المذكور إذا لم يفسخ يكفي في عتق العبد ولا يحتاج إلى ملاحظة الإبقاء.

وفيه أنّ المعتق لا بدّ أن يلاحظ الفسخ ليصح عتق الجارية، وعدمه ليصح عتق العبد.

ولك أن تقول: إنّ إعتاقهما كذلك غير معقول، إذ قول المعتق: أعتقتهما، المراد به إيقاع أفعال مقدورة تكون سبباً لعتقها، ومن جملة الأسباب إبقاء البيع وفسخه، فإيقاعهما يكون عزماً على جمع النقيضين، وهو محال، فيكون العتقان باطلين.

نعم، لو كان الإعتاق المذكور واقعاً لاُحتمل عتق الجارية والعبد، وعتق العبد أقرب.

لا يقال: يحتمل أن يكون مراد المعتق بقوله: إعتاق أحدهما، لا على التعيين، وحينئذ لا تلزم أكثر المحذورات.

لأنا نقول: كلامنا في صورة يكون الإعتاق بالنسبة إليهما جميعاً.